أثر الـــوقـف على الــتنـمـيـة الاقــتصــاديـــة

بقلم الدكتور/ محـــمــد عبد الحليم هـــيكـل

تناولت في مقال سابق الوقف ونماذج من التاريخ الإسلامي، ويحسن بنا أن نلقي الضوء على أثر الوقف على التنمية الاقتصادية.
والتنمية لغة: تعني الزيادة والكثرة، والنماء والريع، يقال: نمي الإنسان سمن، ونمي الشيء إذا زاد وارتفع، ونمى الشيء نماء ونموًا، زاد وكثر (1).
والتنمية في الاصطلاح: هي النشاط الاجتماعي الذي يتم من خلاله استخدام أفراد المجتمع للمتاح لديهم من إمكانات طبيعية واقتصادية واجتماعية، من أجل تحقيق مجتمع أفضل حضاريـًا، أي تحسين نوعية المجتمع ماديـًا وروحيـًا، فالإنسان هو المحرك الفعلي للجهد التنموي، مخططـًا ومنفذًا له، وهو موضوع التنمية الأساسي، كما أنه هو المستفيد الأخير من كل هذا النشاط (2).
ولم يعرف الفكر الإسلامي مصطلح التنمية غير أنه حوي من المصطلحات ما تحتوي على مضمونه مثل: التمكين، والإحياء، والعمارة، ويعتبر مصطلح العمارة والتعمير من أدق المصطلحات تعبـيرًا عن التنمية، إذ يحمل مضمون التنمية بمعناه المعاصر، وقد يزيد فهو نهوض في مختلف مجالات الحياة الإنسانية وإن تناول -بصفة أولية- جوانب التنمية الاقتصادية بمعناها المتعارف عليه والذي لا يخرج عن تعظيم عمليات الإنتاج المختلفة (3).
ومن خلال الوقف نستطيع تحقيق أهداف التنمية الاقتصادية التي تدور حول رفع مستوى معيشة السكان، وتوفير أسلوب الحياة الكريمة، وزيادة الدخل، وتقليل التفاوت في الدخول والثروات، وتعديل التركيب النسبي للاقتصاديات الوطنية.
ويعد الوقف وسيلة لتداول المال بين أفراد المجتمع من غير تمييز بينهم، حيث يعمل على تحريك المال ورواجه عن طريق المشاريع التي تقوم بها أموال الوقف مما يجعله يسهم بشكل كبير في العملية الاقتصادية.
ولا شك أن الوقف يحقق تكافًلا اجتماعيــاً فريـداً مـن نوعه؛ لأن أصحاب رؤوس الأموال سخروا هذه الأموال التي أوقفوها في سد حاجات المعوزين من أفراد المجتمع، فكفلوا لهم بذلك حياة كريمة، وحفظوا عليهم إنسانيتهم وعزتهم من غير إراقة ماء وجوههم في سؤال الناس، وبذلك يكون الإسلام قد أوجد وسيلة لعلاج مشكلة من المشاكل الاقتصادية التي تواجه العالم وهي مشكلة الفقر والبطالة، فشكل الوقف بذلك حلقة من حلقات التكافل والتضامن لا سيما وأنه يتميز بدوره المستمر في العطاء والإنفاق، حيث إن عينه لا تستهلك وهذا بدوره يضمن لنا ضمن الظروف الطبيعية دوامـــــاً في إمكانية سد الحاجات الملحة للمجتمع(4).
الوقف يسهم في تنمية رأس المال البشري: ويقصد برأس المال البشري كل ما يمتلكه الإنسان في نفسه من مقومات تسهم في النشاط الاقتصادي وتنميه كالخبرة والأفكار والمعرفة والقدرة البدنية، وهذه المقومات التي يقوم عليها رأس المال البشري لا تقل أهمية في التنمية الاقتصادية عن المقومات المالية، لاسيما إذا علمنا أن الفكر الاقتصادي المعاصر يعد الإنفاق على التعليم والصحة هو إنفاق استثماري، وقد شملت الأوقاف جوانب متعددة بما فيها التعليم والصحة من خلال وقف مدارس ودور التعليم المختلفة، والمصحات والمستشفيات أو الإيقاف عليها (5). وهذا يسهم في تحسين نوعية القوى العاملة في المجتمع، من خلال ما يوفره من فرص متنوعة لتعلم المهن والمهارات، الأمر الذي ينعكس على رفع كفاءة القوى العاملة في المجتمع، وبالتالي المساهمة في توفر فرص عمل جديدة لتلك الفئات، كما يسهم في تحقيق ميزة التخصص والتي تسهم برفع الإنتاجية وزيادة الابتكار.
الوقف يعمل على محاربة اكتناز المال: ففي مجال تمويل التنمية يسهم الوقف الإسلامي بدور مؤثر في مواجهة ما يعترض العملية التنموية من مشاكل تمويلية تهدد نجاحها واستمرارها، وذلك بالإسهام في محاربة الاكتناز، الذي يعتبر عقبة في سبيل تنمية المجتمع وتقدمه، ذلك لأن الاكتناز هو تخلف أحد عناصر الثروة والإنتاج عن المساهمة في النشاط الاقتصادي، وبقاء تلك الأموال في صورة عاطلة، كما أنه مورد تمویلي هام للأهداف التنموية، من خلال الدفع برؤوس أموال المجتمع إلى المشروعات التنموية ذات العائد الاقتصادي الكبير (6).
الوقف يعمل على دوران المال: ويمكن الاستفادة من الوقف كنظام تمويلي إسلامي في تحريك المال وتداوله، وذلك لأن الأموال المدخرة عند الأغنياء إذا أوقفوها بحيث تستغل استغلالًا تجاريـًا يدر ربحًا على الموقوف عليه، فإننا بذلك الاستغلال التجاري وجهنا جـزءًا من المال إلى السوق التجارية، الأمر الذي سيؤدي إلى زيادة في الطلب وعندمـًا تحدث الزيادة في الطلب يترتب على ذلك زيادة في الإنتاج لتلبية رغبات الطالبين، ويسير مع زيادة الإنتاج قلة في التكاليف بالإضافة إلى المنافسة التي تتوجه اتجاهين، تنافس على النوعية، والتنافس على الكمية(7).
وهذا التنافس ينتج عنه إقامة منتجات تجارية من مصانع ومستشفيات، وبالتالي ينشأ لدينا سوق عمل لتلبية احتياجات هذه المنشآت التجارية مما يترتب على ذلك من تشغيل أيدي عاملة كانت في السابق تعاني من البطالة وقلة العمل، وهذه الأيدي العاملة يتحرك في يدها المال ويصبح لديها احتياجات، فيزيد الطلب على السلع في الأسواق بسبب توفر السيولة النقدية وهكذا نلاحظ أن العملية أصبحت متوالية ونشطة (8).
وبذلك يكون النظام الاقتصادي الإسلامي من تشريعه للوقف قد حقق عنصر التوازن من خلال التوزيع العادل للثروة وعمل على إعادة دوران حركة الأموال والنقود بين أيدي الناس (9). كما أن للوقف إسهامات كبرى منها: –

  1. تقليل أعباء الميزانيات العامة للدول: تعمل الأوقاف على سد حاجات المجتمع ومتطلباته الملحة، بل وتساهم في تكوين البنية الأساسية وتنميتها من خلال الوقف على الطرق والآبار والجسور والقلاع ومحطات المياه وغيرها، ولا شك أن في تمويل الوقف لهذه الخدمات المتعددة أثر بارز على الإنفاق العام من خلال تخفيف كثير من الضغوط التي يمكن أن تقع على الدولة لتمويل هذه الخدمات المتعددة، لو نظرنا على سبيل المثال إلى حجم العمليتين الصحية والتعليمية وملحقات كل منهما لوجدنا أنها تستهلك نسبة كبيرة من الاتفاق العام، فكان تمويل الوقف للعملية التعليمية والصحية أثر واضح في تخفيف العبء عن الميزانية العامة للدولة.
  2. زيادة وتحفيز الاستثمار: يسهم الوقف في عملية التشغيل عن طريق الاستثمار بمختلف صيغه في مشروعات وقفية لم يقتصر الأمر في اختيارها على العائد المالي فقط، بل شملت أيضـاً غرض تشغيل العمالة في بلاد تكثر فيها البطالة، كشراء معدات وآلات وتأجيرها على الحرفيين لتطوير قطاع الصناعات الصغيرة والتي سوف تستوعب جانبـاً مهمـاً من العاطلين عن العمل، هذا إلى جانب تأثير عمليات الاستثمار الوقفية المباشرة الخاصة بالوقف من مشتريات ومستلزمات المشاريع من السوق المحلي مما يزيد من حجم الطلب في السوق، وهذا سيؤدي لزيادة تشغيل العمالة لمواجهة الطلب المتزايد على هذه السلع لتلك المشاريع، إضافة لما يستثمره المستحقون لعوائد الوقف مما يعود عليهم منه في زيادة الاستثمار في مشاريع مختلفة تزيد هي الأخرى من حجم الطلب على عنصر العمل (10).
  3. تنمية قطاع البنية الأساسية: يقوم الوقف بدور هام في مجال تنمية القطاعات الاقتصادية ذات الدور الفعال في دفع مختلف القطاعات الإنتاجية قدمـاً لتحقيق التنمية الاقتصادية الشاملة، وبصفة خاصة قطاع البنية الأساسية والخدمات من خلال: إصلاح الطرق، وإقامة القناطر والجسور، وإنشاء الموانئ والخانات، وإنشاء الطرق كالتي ربطت مشرق العالم الإسلامي بغربه، ولا شك أن هذه الطرق والجسور سهلت عمليات التجارة التي تسهم في النشاط الاقتصادي بشكل كبير (11).
  4. تنمية القطاع التجاري: للوقف دور بارز في القطاع التجاري بشقيه الداخلي والخارجي، فقد اهتم بتوفير الأسواق الداخلية والخارجية، التي هي مجال تصريف المنتجات والمكان المناسب للتعرف على طلب المشترين وإمكانات المنتجين، بل وتشجيع مجالات الإنتاج كمـاً ونوعـاً، وفق متطلبات هذه الأسواق المتجددة، وقد عمل الوقف أيضـاً على توفير الهياكل العامة اللازمة لإقامة هذه الأسواق، إلى جانب العديد من مظاهر الخدمات والتسهيلات، التي لها أثر هام في رواج النشاط الاقتصادي، وفي مجال التجارة الخارجية توفر الأوقاف مخازن وأماكن لبضائع التجارة الخارجية، وفي القديم كانت تسمح سفن الأوقاف بنقل البضائع بين البلدان، وكانت ترعى الفنارات البحرية لهداية المسافرين، ولا شك أن ذلك يسهل حركة التجارة بين البلدان وينعكس على النشاط الاقتصادي (12).
  5. تنمية القطاع الزراعي: يسهم الوقف في مجالات تنمية القطاع الزراعي من خلال إيقاف الأطيان المزروعة لينفق عائدها سواء في مختلف أوجه البر والخير لبناء المجتمع، أو لكفاية الأهل والذرية، والعمل على تخصيص النفقات اللازمة لحسن استثمارها وتعظيم غلتها، ورصد جزء من هذه الغلة لتعمير الوقف والحفاظ عليه، كل ذلك كان من شأنه تنمية هذا القطاع الإنتاجي الهام في الدول التي يعتمد اقتصادها على الإنتاج الزراعي الذي يمثل نصيبـاً غالبـاً من دخلها القومي، فضــلاً عن أنه مصدر لتوفير الموارد الغذائية في كل الاقتصاديات على اختلاف هياكلها الإنتاجية (13).
  6. تنمية القطاع الصناعي: يسهم الوقف في تنمية الصناعات المختلفة من خلال الأوقاف التي خصص ريعها للإنفاق على بعض المصانع – على اختلاف أنواعهـا- وتوفير ما تحتاج إليه من خامات وأيدي عاملة، كما خصص ريع بعض الأوقـاف لتدريب العمال على أنواع المهارات الفنية، والخبرات اليدوية التي ترفع من كفاءتهم الإنتـاجــية (14).

كل ما ذكرناه ما هو إلا جزء من كل من أثر الوقف على التنمية الاقتصادية.

(1) لسان العرب: لابن منظور: 15/ 341.
(2) أثر الوقف في تنمية المجتمع: نعمت عبد اللطيف مشهور، أكاديمية السادات للعلوم الإدارية، فرع طنطا، القاهرة، ع6، يونيو 1417هـ/1996م: 80.
(3) الإسلام والتنمية الاقتصادية، شوقي أحمد دنيا، ط1 دار الفكر العربي، القاهرة 1399هـ/1979م: 85.
(4) الوقف ودوره في التنمية الاقتصادية: أيمن محمد عمر العمر، مجلة الشريعة والدراسات الإسلامية، جامعة الكويت، مج 20، ع60، محرم 1426هـ/ مارس 2005م: 45.
(5) أثر الوقف في إنجاز التنمية الشاملة: شوقي أحمد دنيا، مجلة البحوث الفقهية المعاصر، ع24، السنة السادسة 1415هـ/ 1995م: 135-136.
(6) أثر الوقف في تنمية المجتمع، نعمت عبد اللطيف مشهور، أكاديمية السادات للعلوم الإدارية، فرع طنطا، القاهرة، ع7، 1417هـ/سبتمبر 1996م: 60.
(7) التمويل الإسلامي ودور القطاع الخاص: فؤاد السرطاوي، ط1 دار المسيرة، الأردن، 1420هـ/ 1999م: 44.
(8) أثر الوقف في إنجاز التنمية الشاملة، لشوقي دنيا: 139.
(9) التمويل الإسلامي ودور القطاع الخاص، لفؤاد السرطاوي: 44.
(10) الوسائل الحديثة للتمويل والاستثمار، لأنس الزرقاء، بحث من وقائع الحلقة الدراسية لتنمية ممتلكات الأوقاف: حدة البنك الإسلامي للتنمية، في الفترة من20/3/ 1404هـ إلى 2/4/1404هـ: 187، دور الوقف في النمو الاقتصادي، لصالح كامل، من بحوث ندوة نحو دور تنموي للوقف المنعقدة في الكويت في الفترة من1-3/5/ 1993م/ الكويت: وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية:٤٥٠، أثر الوقف في التنمية الاقتصادية والاجتماعية: عبد العزيز عبده، رسالة ماجستير في الاقتصاد الإسلامي، جامعة أم القرى، كلية الشريعة والدراسات الإسلامية، عام 1417هــ/1997م: 135.
(11) دور الوقف في النمو الاقتصادي، لصالح عبد الله كامل: 46-47.
(12) الوقف وأثره التنموي: علي جمعة محمد، ” من بحوث ندوة نحو دور تنموي للوقف المنعقدة في الكويت في الفترة من1-3/5/ 1993م/ الكويت: وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية: 120-122.
(13) أثر الوقف في تنمية المجتمع: نعمت عبد اللطيف مشهور: 64.
(14) الفاروق عمر والخراج: محمود مرسي لاشين، ط1 دار سابق للنشر والتوزيع، القاهرة، 1411هــ/1990م: 76- 78.

Comments are disabled.