الأبعاد الاقتصادية لصيام رمضان: تعظيم الإنتاج وتحقيق عدالة التوزيع (2)
بقلم الدكتور/ عبد الناصر حمدان بيومي
تناولنا في المقال السابق أهم مقاصد الأبعاد الاقتصادية للصيام، وأهمية ضبط وترشيد الاستهلاك، ونستكمل في هذا المقال.
أولاً: الصيام وتعظيم الإنتاج والأمانة في أداء الأعمال:
الإنتاج من أهم موضوعات علم الاقتصاد؛ لما يترتب عليه من تنمية اقتصادية مستدامة وزيادة الإيرادات والدخل القومي، وارتفاع نسبة التشغيل والعمالة، وما يتبعها من تقدم ورفاهية وسعادة للأفراد والمجتمعات والدول والأمم إذا كان الإنتاج منضبطًا معياريًّا.
وقد حث الإسلام على العمل والإنتاج واعتبره عبادة، وعونًا للإنسان على القيام بالتكاليف الشرعية. كما اهتم الإسلام بعناصر الإنتاج ومكوناته ووسائله، فحث على التجارة والزراعة والصناعة؛ لأنها من مقومات الحياة.
ومن الأبعاد الاقتصادية للصيام: توفير المزيد من الوقت للعمل والإنتاج، فلم يكن الصيام وسيلة للخمول والتقاعد عن العمل، ولم يفرض الشارع صيام رمضان للنوم والكسل وتقليص الإنتاج؛ بل لاختبار قدرة الإنسان على الصبر على الإنتاج والعطاء، وتحقيق ما قد يعجز عنه في غير رمضان.
ولنا في السلف الصالح خير شاهد ودليل، فقد حققوا الإنجازات والانتصارات العظيمة في شهر رمضان، فرمضان شهر الإنتاج والعمل والعطاء؛ مع الصبر والتحمل رغم التعب والجوع والعطش.
وعلى المسلمين أن يجعلوا من شهر رمضان شهرًا للعمل والإنتاج وتحسين الواقع الاقتصادي للأمة الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها.
ولا تقف الأبعاد الاقتصادية للصيام في رمضان عند حد العمل فقط، بل لابد من الأمانة والإتقان في العمل والإنتاج، وشهر رمضان فرصة حقيقية للنفس المؤمنة للتربية على الأمانة والإخلاص وإتقان العمل، والتخلي عن تضييع الأوقات، وانعكاساتها الإيجابية على الإنتاج.
ثانيًا: الصيام وأثره في تحقيق عدالة التوزيع:
تحقيق عدالة توزيع الموارد والثروات من أبرز غايات الاقتصاد الإسلامي، وتتحقق من خلال اقتطاع جزء من أموال الأغنياء وردها على الفقراء. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ عندما بعثه إلى اليمن: “فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً فِي أَمْوَالِهِمْ تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِم”.(1)
وهناك العديد من الأحكام والفرائض التي شرعها الإسلام؛ لتحقيق عدالة التوزيع، ويرتبط منها بشهر رمضان: زكاة الفطر، وفدية العجز عن الصيام، والكفارات المتنوعة… ومقصودها جميعًا إعادة توزيع الدخول والثروات بين أفراد المجتمع؛ لتحقيق التوازن بين دخولهم ومكاسبهم، كما قال تعالى: ﴿كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ﴾ [الحشر: 7].
أما زكاة الفطر: فإنها من أعظم وسائل التوسعة الاقتصادية والمعاشية في رمضان، وتسهم في التوسعة والتيسير على المحتاجين. فعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَكَاةَ الفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى العَبْدِ وَالحُرِّ، وَالذَّكَرِ وَالأُنْثَى، وَالصَّغِيرِ وَالكَبِيرِ مِنَ الـمُسْلِمِينَ، وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلَاةِ»(2)، وهذا يبين أهمية الصدقة والزكاة في رمضان وعلاقتها الوطيدة بالصيام؛ لأنها طهرة للصائم من اللغو والرفث والسيئات التي قد يرتكبها أثناء صومه؛ لأن للحسنات آثارها الطيبة في محو السيئات؛ كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾ [هود: 114]، فتمحو الصدقة ما قد يقع منه من تجاوزات أثناء الصيام. كما أنها طعمة للمساكين، وإغناء لهم عن سؤال الناس، وتقوية روابط التكافل والتراحم بين المسلمين حتى يشعروا بالأخوة الإيمانية.
وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: “كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنْ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ”.(3)
فالنبي صلى الله عليه وسلم كان أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان، وكان أجود بالخير من الريح المرسلة. وفي ذلك دعوة وحث على كثرة التصدق في شهر رمضان؛ مما يمكن الفقراء والمساكين من شراء مستلزمات الحياة، ويسبب نشاطًا في حركة البيع والشراء؛ مما يؤدي إلى انتعاش الأسواق، وينعكس إيجابًا على الاقتصاد الكلي للدولة.
وإذا كان مقصود زكاة الفطر: كفاية الفقراء والمساكين، فإنها تسهم في تحريك عجلة الحياة الاقتصادية؛ بتحريك الأموال وانتقالها بين الناس؛ مما يسهم في سد حاجات الفقراء المادية؛ كالمأكل والمشرب والملبس، كما يخلق قوة شرائية تزيد من النشاط الاقتصادي، وتزداد حركة المشتريات والمبيعات في الأسواق.
وأما الفدية: التي فرضها الشارع على العاجز عن الصيام، كالمسنين وأصحاب الأمراض المزمنة الذين نصحهم الطبيب بعدم الصيام وإخراج الفدية، قال الله تعالى: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾ [البقرة: 184]، وتدفع هذه الفدية للفقراء والمساكين بحيث يطعم مسكينًا من أوسط طعام الناس، وتسهم الفدية في تحسين الوضع المعيشي والواقع الاقتصادي لفئات عديدة في المجتمع؛ مما ينعكس على تحسين الأوضاع الاقتصادية للبلاد برمتها؛ فالفدية تسهم في رفع مستوى الفقراء والمساكين، وعونهم على العمل والكسب، كما تسهم في إنعاش الحركة الاقتصادية.
وعليه فإن زكاة الفطر والفدية والكفارة ونحوها تهدف لإعادة وعدالة التوزيع في شهر رمضان؛ لصالح الفقراء والمحتاجين بزيادة دخولهم، مما يؤدي لتنشيط الحركة الاقتصادية؛ فالفقراء والمساكين سيتوجهون إلى الأسواق لشراء احتياجاتهم، مما يزيد من الاستهلاك، ويؤدي لزيادة الإنتاج، فتزيد حركة المصانع والتصنيع، ويزيد مستوى العمالة والتشغيل، وأجور هؤلاء العمال سيعاد ضخها في الأسواق، وهكذا تدور وتنشط الدورة الاقتصادية.
ثالثًا: كبح جماح النفس عن الشهوات، والإحساس بالمحتاجين:
فمن الأبعاد الاقتصادية للصيام: تربية النفوس على القناعة والرضا بالقليل، وتخليصها من الجشع والطمع الذي هو أصل المفاسد الاقتصادية، كالربا والرشوة، والقمار والغش والاحتكار، التي تؤدي إلى ضياع الحقوق وأكل الأموال بالباطل، والتضييق في المعايش. وكذلك استشعار معاناة المحتاجين فأكثر من يدرك آلام المحرومين من ذاق مرارة الحرمان، وأكثر من يستشعر آلام المرضى ومعاناة الجائعين من ذاق آلام المرض ومرارة المسغبة، ففي الصيام تذكير للأغنياء، بأن ما يعانونه من آلام المخمصة في نهار رمضان، يعانيه أهل الفقر والمسكنة على الدوام؛ حتى تتحرك في نفوسهم مشاعر الإحسان، ودوافع العطف على الفقراء، فيواسونهم بفضول أموالهم، مما يسهم في تقليص الفوارق، بين طبقة الأغنياء والطبقات الكادحة في المجتمع.
وتدل الإحصاءات والأرقام على أن نصيب شهر رمضان من الاستهلاك السنوي قدَّر في إحدى الدول العربية ما نسبته (20%) فهذه الدولة تستهلك في شهر رمضان خمس استهلاكها السنوي كله، بينما تستهلك في الأشهر المتبقية الأربعة أخماس الباقية. وتشير بعض الدراسات أن ما يتلف من مواد غذائية أو يلقى في صناديق القمامة في بعض البلاد العربية كبير جدًّا إلى الحد الذي قد تبلغ نسبته في بعض الحالات (45%) من حجم القمامة.(4)
إن شهر رمضان يستثيرنا نحو الإحساس بألم الفقير ومعاناته وحرمانه؛ فكثير من المسلمين في أرجاء الأرض يفترشون الأرض، ويلتحفون السماء، ولا يجدون ما يسد رمقهم ويقيم أودهم؛ فما أحوج الصائمين إلى الإحساس بهم والتكافل معهم؛ للرفع من مستواهم المعيشي من خلال الزكوات والصدقات ونحوها، والتخفيف من آلامهم وجراحهم، وهذا بدوره يؤدي إلى تداول المال، وقيام نوع من التوازن الاقتصادي والاجتماعي بين أفراد المجتمع.
إن تعظيم الإنتاج والأمانة في أداء الأعمال، وضبط وترشيد الاستهلاك، وتحقيق عدالة التوزيع للثروات والدخول، وكبح جماح النفس عن الشهوات، والإحساس بالمحتاجين، من المقاصد الاقتصادية للصيام، فهل تسعى المجتمعات الإسلامية لتحقيقها؟ وهل تتغير عاداتنا الاستهلاكية في شهر رمضان؟ وهل نصوم رمضان إيمانًا واحتسابًا؛ ليغفر الله لنا الذنوب؟
(1) أخرجه البخاري: 3/399 (1395) كِتَاب الزَّكَاةِ، بَاب وُجُوبِ الزَّكَاةِ، ومسلم: 1/50 (19) كتاب الإيمان، باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام.
(2) أخرجه البخاري: 2/130 (1503) أبواب صدقة الفطر، بَابُ فَرْضِ صَدَقَةِ الفِطْرِ، ومسلم: 2/677 (984) كتاب الزكاة، بَابُ زَكَاةِ الْفِطْرِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنَ التَّمْرِ وَالشَّعِيرِ.
(3) أخرجه البخاري: 4/576 (1902) كتاب الصوم، بَاب أَجْوَدُ مَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَكُونُ فِي رَمَضَانَ، ومسلم: 4/1803 (2308) كتاب الفضائل، باب كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير من الريح المرسلة.
(4) راجع موقع: https://al3omk.com/541751.html.