الجوانب الاقتصادية لنظام الإرث في الإسلام (5) – “وأثره على الاسـتهــلاك”
بقلم الدكتور/ محـــمــد عبد الحليم هـــيكـل
سبق وقد تناولت الجوانب الاقتصادية لنظام الإرث في الإسلام وأثره على” الادخار والاستثمار، ونستكمل أثر الإرث على الاستهلاك. وفي البداية نوضح المفهوم الاقتصادي لمصطلح الاستهلاك.
والمراد بالاستهلاك: استعمل الفقهاء لفظ الاستهلاك بمعنى إفناء الشيء وإذهاب عينه، وعلى معنى الانتفاع مع بقاء عينه، وعلى قصد الاستمتاع بالشيء، وعلى معنى صيرورة الشيء إلى غير أصله الأول، أو انتقاله من حال إلى حال أي من حاله الأول إلى ثانٍ، تختلف معه المنفعة. ومن هذه التعريفات أنه” إخراج الشيء من أن يكون منتفعاً به منفعة موضوعة مطلوبة منه عادة، أو هو تغيير الشيء من صفة إلى صفة” (1). وقيل:” زوال المنافع التي وجد الشيء من أجل تحقيقها وإن بقيت عينه قائمة” (2). وقيل:” هو إتلاف لإصلاح الأجساد وحفظ الأرواح، كإتلاف الأطعمة والأشربة والأدوية” (3). وعرفه بعض الفقهاء المعاصرين بأنه:” ضياع المال بتعد أو تقصير (4). وقيل:” هو إتلاف المال في منفعة الإنسان(5).
يعرف الاقتصاديون الاستهلاك بأنه: التناول الإنساني المباشر للسلع والخدمات لإشباع رغبات الإنسان وحاجاته” (6). بحيث تستنفذ منافع السلع والخدمات، باستخدامها في إشباع الحاجات الإنسانية. ويدخل في معنى الاستهلاك الاقتصادي أيضاً إنفاق الأموال في إشباع الحاجات المختلفة حيث عُرفت أموال الاستهلاك:” بأنها الأموال التي تستخدم مباشرة في إشباع الحاجات، كالملابس والأطعمة، وهذه الأموال تنتهي منفعتها باستعمالها مرة واحدة ” كالخبز” أو باستعمالها مرات عديدة كالملابـــس (7).
وتظهر الملامح الاقتصادية للإرث على الاســتـهـلاك من خلال: –
من المعروف أن السلوك الاقتصادي للشخص، يتحدد من خلال عوامل واعتبارات حاضرة، واعتبارات وعوامل متوقعة في المستقبل، فقد يندفع شخص للاستهلاك لتوقعه الحصول على دخل في المستقبل، وقد يمتنع عن الاستهلاك إذا توقع العكس، ولا شك أن لهذه التوقعات أثر على سلوك الوارث والمورث (8). وذلك من خلال الآتي: –
أولاً: أثر الإرث على السلوك الاستهلاكي للموِّرث:
ويظهر ذلك من خلال حرص الآباء دائمًا على تأمين مستقبل الأبناء، و يعد نظام الميراث أحد العوامل المؤثرة في حجم ونمط استهلاك المورث، وفي الغالب نجده يقيد استهلاكه، من أجل توجيه الأموال نحو الادخار والاستثمار، ومن جهة أخرى فإن وجود الذرية والحرص الفطري على تأمين أوضاعهم بعد الوفاة، يؤثر على هيكل الاستهلاك وإشباع الحاجات، فقد يدفع ذلك الفرد إلى التعليم وإلى العلاج، للتمكن من بذل الجهد لممارسة النشاط المرغوب، بل قد يندفع الفرد للهجرة والتنقل حيث العمل، ومن هنا نجد نظام الميراث يواجه مشكلة البطالة وتوزيع وتوطين القوى العاملة.
إذن يتأثر السلوك الاستهلاكي بالميراث، والاستهلاك يؤثر بدوره في الادخار والاستثمار، حيث يحرص المورث على مزيد من الادخار من أجل التشغيل والاستثمار لتوفير متطلبات الذرية، ولأجل ذلك تجده يكد ويتعب ويبذل أقصى جهد (9). قال النبي صلى الله عليه وسلم:” إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ” (10).
ثانيًا: أثر الإرث على السلوك الاستهلاكي للوارث:
نظام الميراث ما هو إلا آلية لقسمة تركة المورث بعد موته لورثته، مما يعني حصول الوارث على دخل جديد بعد قسمة التركة، الذي يؤدي إلى زيادة دخله كمستهلك، وزيادة الدخل تعني زيادة القوة الشرائية للمستهلك، ومن ثم زيادة طلبه على السلع والخدمات المختلفة. وكون المستهلك قد زاد دخله بعد قسمة التركة، فهذا قد يؤدي إلى زيادة الطلب على السلع الكمالية بنسبة أكبر من زيادة طلبه على السلع الضرورية، وكذلك قد يؤدي إلى التحول إلى سلع أفضل، ويقل الطلب على بعض السلع والخدمات (11).
في حالة كان الورثة فقراء فإن التركة تزيد في دخولهم، بالتالي ستوجه هذه الزيادة للاستهلاك، وهذا ما يحدث عند الطبقات الفقيرة، فيزيد من الطلب الفعال على السلع، مما يتبعه زيادة مضاعفة في الاستثمار.
كما أنه في الغالب سوف يزيد حجم الاستهلاك بسبب زيادة الميل الحدي للاستهلاك عند الفقراء، سواء أكان هذا الاستهلاك سلعي أم خدمي، ومن المعلوم أن أي زيادة في الاستهلاك سوف تؤدي إلى زيادة الاستثمار، فسيكون هناك استثمارات جديدة من أجل مواجهة الطلب الفعال للاستهلاك الجديد، بسبب انتقال التركة إلى مالكين جدد، فهذا يزيد من الطلب على المواد الأولية ومستلزمات الإنتاج، وهو بدوره يؤدي إلى زيادة الاستثمار والتشغيل وبالتالي يقلل من البطالة والكساد (12).
وفي حالة الانتهاء من تقسيم الميراث فإن الأنصبة تذهب إلى عدة أفراد يكون احتمال كونهم دون حالة التشبع، مما يؤثر إيجـابًـا على الميل الحدي للاستهلاك، وبالتالي يخدم الطلب الداخلي، والطلب الإضافي بدوره يدفع بالإنتاج ويخدم أهداف السوق. وفي حالة توزيع الميراث ينال الأفراد نصيبهم بصورة عادلة، ويتم تحويل الثروة إلى الأفراد المعوزين والفقراء، مما يخدم هدف محاربة الفقر (13).
ولعلنا في نهاية هذه المقالات نكون قد استطعنا أن نبرز الجوانب الاقتصادية في نظام الإرث في الشريعة الإسلامية.
(1) بدائع الصنائع: للكاساني، ت: 587هـ، ط2 دار الكتب العلمية، بيروت 1406هـ/1986م: 7/164، المنتقى شرح الموطأ: للباجي، ت: 474هـ، ط1 مطبعة السعادة، القاهرة 1332هـ/1913م: 5/272، روضة الطالبين: للنووي، ت: 676هـ، ت: زهير الشاويش، ط3 المكتب الإسلامي، بيروت/ دمشق/ عمان 1412هـــ/1991م: 3/170.
(2) معجم لغة الفقهاء: لمحمد رواس قلعجي، حامد صادق قنيبي، ط2 دار النفائس، بيروت 1408هـ/1988م: 66.
(3) قواعد الأحكام في مصالح الأنام: للعز بن عبد السلام، ت: 660هـ، ت: طه عبد الرؤوف سعد، د. ط مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة 1414هــ/1991م: 2/87.
(4) محاضرات في الفقه الحنفي: لمحمد نصار، ط1، 1388هــ/1968م: 48.
(5) نظرية الضمان في الفقه الإسلامي العام: لمحمد فوزي فيض الله، مكتبة التراث الإسلامي، الكويت: 86.
(6) النظرية الاقتصادية من منظور إسلامي: لشوقي دنيا: 91.
(7) الاستهلاك الاقتصادي والغاية منه في الفقه الإسلامي: لإبراهيم بن عبد الرحمن آل عروان، مجلة القراءة والمعرفة، جامعة عين شمس، كلية التربية، ع34، ربيع الأول 1425هــ/ مايو 2004م: 57.
(8) انظر: في ظلال البعد الاقتصادي والاجتماعي للميراث: لشوقي دنيا، ندوة نظام المواريث في الإسلام، مركز صالح كامل للاقتصاد الإسلامي، جامعة الأزهر، القاهرة 1422هـ/2001م: 10،9.
(9) المرجع السابق: 10.
(10) صحيح البخاري: 2/81 (1295) كتاب الجنائز، رثى النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن خولة، صحيح مسلم: 3/1250 (1628) كتاب الوصية، باب الوصية بالثلث.
(11) انظر: الآثار الاقتصادية لقسمة الميراث في إعادة توزيع الدخل والثروة “دراسة تأصيلية”: لفارس بن خالد صبيح العلوني، رسالة ماجستير، كلية الشريعة، الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة، 1436هـ/ 2016م: 70.
(12) نظرة اقتصادية على نظام الميراث في الإسلام: لحسين عبد المطلب الأسرج/ https://cutt.us/8BymI.
(13) المرجع السابق.