الأسس المرجعية والمبادئ العملية للاقتصاد الإسلامي في القضاء على ظاهرة الفقر
بقلم الدكتور/ محمد السيد علي حامد
التوصيف الإسلامي لقضية الفقر:
يمثِّل الاقتصاد الإسلامي مذهبًا فريدًا ونظامًا متميّزًا من حيث النظر إلى قضية الفقر وسبل القضاء عليها، بل التصدي لوجودها في المجتمع من الأساس، فهو في توصيفه لهذه الظاهرة لا يقف عند حد تفسيرها على أنها نقصٌ في الموارد ولا عِوزٌ في الدخول لدى بعض الأفراد، بل ينظر إليها على أنها في الأساس قضية أخلاقية ومشكلة اجتماعية يتحمل تبعتها كل أفراد المجتمع ومن ثم جعلها من صفات هؤلاء المكذبين بالدين {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الماعون: 1 – 3] وقد خصَّ القرآن الكريم الذم بمجرد الحض؛ لأنه مقدمة الإطعام والجود، ولأنه من وسائل جعل هذا الواجب قضية مجتمعية، فلا يكفي مجرد الإطعام بل يجب أن يتواصى المجتمع به وأن يكون سمةً عامةً ومبدأ تكافليًّا.
ومن جهة أخرى لا يغفل العوامل الموضوعية والأسباب المادية لهذه الظاهرة، ويعمل على تلافيها والتكافل من أجل إزالة مظاهرها وترميم آثارها ولهذا جعل في أسهم المستحقين للزكاة سهما للغارمين سواء لإصلاح ذات البين أو لنازلة نزلت بهم. ومع مستويات العناية الإنسانية من قبل هذا النظام وحرصه على القضاء على ثالوث التخلف الفقر والجهل والمرض، ومع تكامل منظومته التشريعة مع منظومته المرجعية المذهبية يمثل الاقتصاد الإسلامي إطار عمل متكامل لتحقيق التنمية المستدامة، وقد ظهر ذلك من خلال منطلقاتٍ فلسفيةٍ وأسسٍ مرجعيةٍ، ومبادئ عمل ضمن نطاق من الأهداف الاستيراتجية التي يعمل هذا النظام على تحقيقها بمختلف الوسائل المتاحة، مع الأخذ في الاعتبار تطوير الآليات والوسائل والسعي نحو الابتكار والتجديد بحيث تعظم الإنتاجية وتعم الرفاهية، وفيما يلي رصد لأهم الأسس المرجعية والمذهبية والعملية في الاقتصاد الإسلامي للقضاء على ظاهرة الفقر.
1. اعتبار التنمية الشاملة مهمةً إنسانيةً دائمةً:
إن الاقتصاد الإسلامي يجعل تنمية المجتمعات مهمة إنسانية دائمة، ويعتبرها هدفا من أهداف إنزال الإنسان إلى الأرض وهذا مدلول عليه بظهور في قوله تعالى على لسان النبي صالح عليه السلام مخاطبًا قومه ثمود: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [الأعراف: 73].
فالهدي القرآني في الآية السابقة يعتبر التنمية واجبًا من واجبات الإنسان، وهدفًا وراء إنزاله إلى هذه الأرض وتسليطه على مقدراتها وتسخير إمكانياتها ليديه، وقد جاء الأمر بالعمارة بين العبادة والتوبة للدلالة على قيمتها الدينية، ثمَّ تمَّ الربط بين جميع هذه الجوانب؛ ليُفهَم من مجموع النظم الكريم أن عمارة الأرض تكليفٌ من الله سبحانه وتعالى يرتبط بالعبادة وتلزم التوبة من التقصير فيه.
إن الاقتصاد الإسلامي يعمل بكل طاقته على توجيه الجهود نحو الإنتاج والعمل والعمارة، ليكثر الدخل وتحصل الكفاية وتعم الوفرة، وتختفي ظاهرة الفقر ويحل محلها الغنى.
2. تكامل المال والعمل في صناعة النهضة:
والاقتصاد الإسلامي يعظِّم من دور العمل في تحصيل الأرزاق وتحقيق الكفاية، ولأهميته وقيمته الاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية ورد مدحه على لسان النبي صلى الله عليه وسلم في أبسط مظاهره؛ كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ، خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ»(1).
والعمل في الاقتصاد الإسلامي هو أساس اكتساب الملكية، سواء عن طريق التعاقدات القائمة على مبادلات الأموال بالأموال “عمليات البيع والشراء”، أو الأموال بالمنافع “عقود الإجارة”، أو تكامل الأموال والجهود الإدارية في شكل شركات أموال في صور مختلفة “عنان – مضاربة – وغيرها”.
هذا إلى جانب العمل في الموارد الطبيعية الذي يكسب الإنسان حقًّا في حيازة هذه الموارد وامتلاكها {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران: 195] وقال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97] ولهذا تقرَّر أن من قدم جهدا مؤثرا في مورد من موارد الطبيعة المباحة فإنه يستحقه كما في نموذج إحياء موات الأرض(2).
وإذا كان الإبداع يكسب صاحبه قيمةً مضافةً على المادة التي يعمل فيها فيستحق ثمرةَ إبداعه وتفننه، فإن الاقتصاد الإسلامي يشجِّع الاحتراف ويعزِّز من قيمته، ومن هنا تحتل الصناعة أهمية كبرى، ويكفي في ذلك أن القرآن الكريم ضرب مثلًا لأهميتها يفوق كل تقدير حيث ربط بين الصناعة وبين الأمن القومي كما في قصة نوح عليه السلام [هود: 36 – 49] وقصة ذي القرنين [الكهف: 83 – 98]، فسفينة نوح وَقَتِ المجتمع الصالح من مغبّة الغرق التي استوجبت المفسدين في الأرض من قوم هذا النبي الصالح، وأما ذو القرنين فقد ضَمِن الأمن القومي لمجتمع من المجتمعات تعرَّض لحملات إغارة عاتية من قبائل مجرمة اعتادت الإغارة عليه من حين إلى آخر.
والزراعة كذلك تحتلُّ هذه الأهمية، فقد شجَّع النبي صلى الله عليه وسلم على الزراعة، بل استغلَّ هذه العمليات في أعقاب الهجرة للقضاء على التفاوت بين المسلمين في ذلك الوقت، حيث ندب الأنصار إلى منح أراضيهم ممن يقدر على زراعتها فيقول صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ، فَلْيَزْرَعْهَا أَوْ لِيَمْنَحْهَا، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ، فَلْيُمْسِكْ أَرْضَهُ»(3)، وليس هذا بنهي عن المعاملات الواردة على الأرض بالإجارة أو الزراعة بل هو دعوة إلى المواساة والاتهاب والتضامن، وقد بوَّب البخاري في نفس هذا المعنى “باب ما كان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يواسي بعضهم بعضا في الزراعة والثمرة“(4). وعن ابن عباس رضي الله عنه قوله: إن النبي صلى الله عليه وسلم، لم ينه عنه ولكن قال: «أَنْ يَمْنَحَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْخُذَ شَيْئًا مَعْلُومًا»(5). وقد خصَّ النبي صلى الله عليه وسلم الزراعة بالحث عليها ولو مع قيام الساعة فقال: “إِنْ قَامَتْ عَلَى أَحَدِكُمُ الْقِيَامَةُ، وَفِي يَدِهِ فَسِيلَةٌ فَلْيَغْرِسْهَا“(6).
3. اعتبار الانتفاع بالمال حقًّا لجميع البشر:
تقوم فلسفة الاقتصاد الإسلامي في المال وتتأسس على أن المال ملكٌ لله في الحقيقة، وأن البشر مستخلفون في توجيهه لصالح الفرد والجماعة، وأن جميع الناس لهم حق الانتفاع منه انتفاع مباشرة ممن استخلف عليه أو وساطة، وهذا متأسِّسٌ على قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾ [البقرة: 29].
وهذا الحق يعيِّن أن كل فرد من الجماعة له الحق في الانتفاع بثروات الطبيعة والعيش الكريم منها. فمن كان من الجماعة قادرًا على العمل في أحد القطاعات العامة والخاصة، كان من وظيفة الدولة أن تهيئ له فرصة العمل في حدود صلاحيتها. ومن لم تتح له فرصة العمل، أو كان عاجزًا عنه .. فعلى الدولة أن تضمن حقه في الاستفادة من ثروات الطبيعة، بتوفير مستوى الكفاية من العيش الكريم، فالمسؤولية المباشرة للدولة في الضمان، ترتكز على أساس الحق العام للجماعة في الاستفادة من ثروات الطبيعة، وثبوت هذا الحق للعاجزين عن العمل من أفراد الجماعة(7).
وإلى جانب هذه المسؤولية الرسمية من قبل الدولة، تظهر مسؤولية الأفراد، وما الدولة في الأساس إلا ممثل عن عموم الأمة في القيام بمصالحها(8)، ولذلك تتصرف وفق المصلحة، لكن التضامن الذي يقوم عليه الإسلام والحاجات الطارئة يستوجبان دوران دائرته من الدولة إلى المجتمع أفرادا وجماعات، ثم إلى الدولة مرة أخرى لتظل دائرة العطاء والتضامن تدور كما تجري الدماء في الجسد الإنساني.
وهذا المبدأ ينيط جزءًا من المسؤولية بالقائمين على المال أو المتصرفين فيه بحكم الملكية الاستخلافية، فهؤلاء عليهم جملة من الأعباء لضمان توجيه المال نحو التنمية والتصدي لظاهرة الفقر وهي:
- أولا: توجيه المال لصالح المجتمع واستثماره في سد الخلات وتوفير الحاجيات.
- ثانيا: إخراج الحقوق المالية الواجبة كالزكوات والضرائب، ثم الحقوق الطوعية المتمثلة في التطوعات المختلفة.
- ثالثا: تنمية مهارات العاملين وتأهليهم باستمرار لمواجهة تطورات نظم وتقنيات الإنتاج.
وهذا الدور ليس فحسب يرتِّب الكفاية للأفراد ويوفر لهم حاجياتهم، بل كذلك يؤهلهم للصعود في درج الغنى بما يتجدد لديهم من مهارات وقدرات، وهنا يتم القضاء على الفقر المادي وفقر القدرات في الوقت ذاته.
4. التوازن الاقتصادي هدف محوري من الأهداف الاستراتجية للاقتصاد الإسلامي:
لا يقف الاقتصاد الإسلامي عند حد القضاء على الفقر فحسب وتحقيق الكفاية للأفراد، بل القضاء على التفاوت الفج الذي يجعل الناس في المجتمع طرفي نقيض: بعضهم أغنياء متخمون وبعضهم فقراء مدقعون، إن هذا النظام الذي عرفته بعض المجتمعات قديمًا وحديثًا لا يعرفه الاقتصاد الإسلامي ولا يقره، فليس في الإسلام امتيازات ثابتة لأشخاص مميزين دون غيرهم من البشر، بل جميع الناس سواءٌ في حقوقهم الاقتصادية، والإسلام يقر بالتفاوت بين البشر في المواهب العقلية والقدرات الجسمانية، فيقول: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ﴾ [الأنعام: 165]، ومنطق العدالة يرفض أن يكون الناس سواءً في العوائد مع التفاوت فيما يبذلونه من جهود وما يتمتعون به من ملكات، ولكن الإسلام إذ يسمح بالتفاوت فإنه يحدده بالإطار الذي لا يصل به إلى التناقض بين مستويات المعيشة كما هو الحال في المجتمع الرأسمالي.
ومن هنا يقوم على ما يسمى بالتوازن الاقتصادي أي: حصول كل فرد من أفراد المجتمع على نصيب عادل من الدخل القومي يتناسب مع جهده الذي يبذله ثم مع حاجته ثم مع مستوى الدخل القومي(9).
وقد ضرب التاريخ الإسلامي مثلا فريدا في عدالة التوزيع التي قضت على الفقر حتى بات فائض الزكاة يعود لبيت المال، ليتوجَّه مرة أخرى لترفيع مستويات الغنى مستوى بعد مستوى كما في قصة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، حين كتب إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن، وهو بالعراق: أن «أخرج للناس أعطياتهم» فكتب إليه عبد الحميد: إني قد أخرجت للناس أعطياتهم، وقد بقي في بيت المال مال، فكتب إليه: أن «انظر كل من ادَّان في غير سفه ولا سرف فاقض عنه»، فكتب إليه، إني قد قضيت عنهم، وبقي في بيت مال المسلمين مال، فكتب إليه: أن «انظر كل بكر ليس له مال فشاء أن تزوجه فزوجه وأصدق عنه»، فكتب إليه: إني قد زوجت كل من وجدت، وقد بقي في بيت مال المسلمين مال، فكتب إليه بعد مخرج هذا: أن «انظر من كانت عليه جزية فضعِّف عن أرضه فأسلفه ما يقوى به على عمل أرضه، فإنا لا نريدهم لعام ولا لعامين»(10).
في مقابل هذا الواقع الزاهر الذي عرفه التاريخ وسجَّله كنتائج لحضور الاقتصاد الإسلامي نجد عالما آخر، طالما نادى بأن أفكاره ونظرياته كفيلة بتحقيق الرخاء للعالم أجمع، وطالما ادعى الوصاية والأستاذية على سائر الحضارات، وقادته جرأته وغروره إلى اقتحام المدن الهادئة وبعثرة مقدراتها تحت دعوى الاستعمار والتنمية، لا يعرف له التاريخ إلا نظريات كالأشجار الرخوة التي لا ثبات لها أمام ريح الأزمات، ولئن كانت تحقِّق بعض النجاحات ويُرى من ورائها بعض الثمار، فإنها ثمار لا تنفع بقدر ما تضر، ولنقرأ وصف المفكر الفرنسي المسلم رجاء جارودي وهو مفكر درس النظم الغربية، بل عاشها ولامسها، ثم انتهى إلى هذا النص المؤسس الذي أطرحه للقارئ ليدرك مدى الفارق بين اقتصادنا وهذه الاقتصاديات يقول رحمه الله: “بعد خمسة قرون من هيمنة الغرب هيمنة لا يشاركه فيها أحد، يمكن أن ننظر إلى الأرقام الثلاثة الآتية: فى 1982م تظهر لنا ملامح وقسمات الحضارة الغربية؛ فمع حوالي 600 مليار دولار من الإنفاق على التسليح، وصُنع ما يعادل أربعة أطنان من المتفجرات فوق رأس كل إنسان من سكان كوكب الأرض، مات حوالي 50 مليون نسمة في العالم من الجوع وسوء التغذية في نفس العام الذي أنفق الغرب ملياراته على أسلحة التدمير، ومن ثم فمن الصعب أن نطلق كلمة تقدُّم على هذه المرحلة التي قطعتها الحضارة الغربية في تاريخ البشرية“(11).
5. التكامل مع التنمية المستدامة:
لقد أصبح تحقيق التنمية المستدامة مطلبًا عالميًّا ينادي به الجميع بعدما شهد العالم في الآونة الأخيرة العديد من الاختلالات البيئية والاجتماعية والاقتصادية، والتي أصبحت لا تهدِّد فقط استمرارية وتقدُّم العالم ورفاهيته فقط، بل أيضا وجوده وحياته على هذا الكوكب، فالكثير من رجال الاقتصاد والسياسة والفكر يعتقدون الآن أن التنمية المستدامة هي الأداة الناجعة لعلاج هذه الاختلالات، ولتجنيب العالم الانعكاسات السلبية لتطبيق النموذج التنموي التقليدي خلال العقود الماضية(12).
وفي الحقيقة يتساوق هذا المطلب مع الطابع التنموي للإسلام الذي هو عين الاستدامة، التي تضمن حق المعاصرين في ثمرات أعمالهم مع الاقتصاد في الموارد والمحافظة على حقوق الأجيال الآتية لا في موارد الطبيعة البكر فحسب، بل في التراكم الرأسمالي الذي صنعه الأولون، ويتوصل الاقتصاد الإسلامي إلى ذلك من طرق مختلفة:
فهناك الميراث الذي ينقل ثروات السابقين إلى الجيل الخالف لهم، مع توزيعها على أطراف عدة بقدر الإمكان حتى تدور إحدى دورات التوزيع في المجتمع المسلم، فيتم ردم الفجوات المختلفة التي صعنتها التحديات التي واجهت بعض الأفراد، ومن خلال هذه الأرصدة يتم توجيه جزء من مال المجتمع نحو المشروعات الصغيرة لهؤلاء الأفراد، أو إلى المشروعات الكبيرة حينما تتجه هذه الأرصدة إلى السوق المالية للمساهمة في شركات كبرى أو حتى شركات الأفراد بين بعضهم البعض، وناهيك بالمواريث وسيلة من وسائل ديمقراطية التمويل وتحقيق النزعة الاجتماعية فيه.
وعن طريق التنمية المستمرة وتحقيق عوائد وأرباح تتمكن الدولة من تحصيل ضرائب ورسوم، تمكنها من الإنفاق على المرافق الاجتماعية ودور التعليم والمستشفيات وغيرها من المرافق، التي تعبِّد الطريق أمام التعليم والعمل والحياة الكريمة، كما أن تطوُّر الصناعة ونظم الإنتاج والتراكم الرأسمالي ينعكس على متوسط الدخول فتحصل الكفاية الإنتاجية ويعم الرخاء المجتمع، ومن خلال زيادة متوسطات الدخول وتوفُّر السلع الضرورية يحصل الأمن القومي والاقتصادي والاجتماعي.
والإسلام في مبادئه الاقتصادية، وفلسفته في التنمية، وفيما تقرر في مقاصد الشريعة وقواعدها الفقهية يؤسس لنظرية متكاملة عن الاستدامة، تتوخى إنتاج الأولويات وإشباع الحاجات، فضلا عن تجنُّب الإسراف في استهلاك الموارد، أو إنتاج ما هو ضار، أو كنز المال قبل ذلك وحبسه عن التوظُّف والعمل، ثم يقرر بعد ذلك عدم جواز الإضرار بالبيئة ولا بالمجتمع، ويفتح الأفُق لابتداع الآليات التي تعزِّز من سلامة البيئة وأمنها، والمحافظة على أرواح العاملين وتعزيز الصحة العامة في المجتمع.
وقد توجه الزجر نحو الإفساد لا في البر فقط بل في البر والبحر وما فوقهما من جو السماء قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41]، فيقرر المولى تبارك وتعالى أن ما أفسده الناس بأيديهم سينقلب عليهم في حياتهم قبل مماتهم، ويحذرهم ذلك حتى ينفكوا عن هذا الإفساد ويتركوا الأرض لمن يصلح فيها.
وقد توجَّه النبي صلى الله عليه وسلم بوعيد شديد لمن يقتنص عصفورا لغير فائدة “مَنْ قَتَلَ عُصْفُورًا عَبَثًا عَجَّ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَقُولُ: يَا رَبِّ، إِنَّ فُلَانًا قَتَلَنِي عَبَثًا، وَلَمْ يَقْتُلْنِي لِمَنْفَعَةٍ”(13). فاستغلال خيرات السموات والأرض مباح لبني آدم بشرط أن يكون في إطار الانتفاع المباح لا في إطار اللهو والعبث؛ ولهذا يحتجُّ هذا العصفور على قاتله يوم القيام ويجأر إلى الله بالشكوى لا لمطلق القتل، بل لأن قاتله قتله عبثًا، مما يدل على أن الموارد لا يجوز أن تذهب فيما لا يفيد شيئا(14).
وقد كانت تطبيقات الاقتصاد الإسلامي في عصوره الزاهية تتوخَّى هذه الاستدامة بل تقررها بكل وضوح، ويكفي في ذلك الإشارة إلى صنيع عمر في أرض سواد العراق حيث رفض قسمتها بين الفاتحين، وآثر أن يتركها موقوفةً على مصالح المسلمين؛ ليضمن عوائد تنموية مستمرة تشمل الأجيال التي لم توجد بعد، ثم يقرر ضمن ذلك قاعدة محورية في التوزيع وفي التنمية بقوله رضي الله عنه: «ما من أحد من المسلمين إلا له حق في هذا المال»(15).
فهذه جملة المبادئ والأسس المرجعية التي يقدمها الاقتصاد الإسلامي للقضاء على الفقر وتعميق فكرة التنمية، وجعلها مسؤولية عامة على الفرد والمجتمع والدولة، ونظامٌ هذا شأنه حريٌّ بألا يوجد فيه فقرٌّ ولا أن تتأخر فيه العوائد عن تحقيق المستهدف، إذا أمكنه أن يطبق هذه المبادئ ويفعل قنوات التمويل المختلفة المتمثلة في شتى موارده المالية وعلى رأسها الزكاة، والقروض الحسنة، والأوقاف بكل أنواعها، والصدقات التطوعية، والحقوق العينية والمالية للأهل والأقارب ومستحقي النفقة، وهي كما يظهر موارد متنوعة كفيلة بأن تملأ قنوات التمويل الإسلامي بالأموال اللازمة للتنمية والعمارة وليس فحسب في القضاء على الفقر.
وختاما: فالظاهر أن القضاء على الفقر شرطٌ موضوعيٌّ في الاقتصاد الإسلامي لتحقيق الحياة الكريمة، ما يعني أن التنمية في الاقتصاد الإسلامي لا تقف عند حد إحداث تغييرات في الكم والكيف، بل هي تنمية إنسانية الأهداف مجتمعية الانتماء، فالإنسان هو غاية التنمية قبل أن يكون وسيلتها، ولا معنى لأي نمو اقتصادي يتجاهل البعد الإنساني والاجتماعي، وإذا كانت التنمية البشرية تتمثل في جملة من المؤشرات؛ كمكافحة الفقر وإحراز الكفاية، وجماهيرية التعليم، وشمول الرعاية الصحية، وإتاحة التدريب والتأهيل، والأمان الاجتماعي، فإن هذه التنمية من صميم المنهج الاقتصادي الإسلامي في التنمية(16)، وهي مطلوبة لكل فرد من أفراد المجتمع ولا يكفي أن يكون مجموعه غنيا، ويكفي في ذلك تذكر وعيد النبي صلى الله عليه وسلم لمن أهمل جاره جوعان دون أن يسد جوعته حيث قال صلى الله عليه وسلم: «مَا آمَنَ بِي مَنْ بَاتَ شَبْعَانًا وَجَارُهُ جَائِعٌ إِلَى جَنْبِهِ وَهُوَ يَعْلَمُ بِهِ»، فهذا فردٌّ واحد جاع فاستحق من يعلم به هذا الوعيد، حين تركه يعاني الجوع والطوى ولم يرفع بذلك رأسًا أو يول ذلك اهتمامًا.
عودًا على بدء فإن الاقتصاد الإسلامي يعتبر وجود الفقر في المجتمع مشكلة أخلاقية، ومن ثم يتوجه للنفوس لتزكيتها وتعميق معاني الإحسان والتضامن بداخلها، ثم يفرض عليهم مسؤوليات مختلفة في ضوء فلسفته الشاملة ومبادئه الرحيمة ليقضي على هذه الظاهرة من جذورها وإلى الأبد.
الاستراتيجيات المبتكرة للتخفيف من حدة الفقر: التكامل بين الاقتصاد الإسلامي والتنمية المستدامة:
يتزامن نشر هذا المقال مع مؤتمر البركة الإقليمي الثالث بعنوان، “الاستراتيجيات المبتكرة للتخفيف من حدة الفقر: التكامل بين الاقتصاد الإسلامي والتنمية المستدامة”، والذي ينعقد على مدار يومي 24 – 25 نوفمبر 2024 بمصر بمقر جامعة الدول العربية بالقاهرة في يومه الأول، وفي فندق تريومنف بالتجمع الخامس في يومه الثاني، ويشكِّل تعاونا بين منتدى البركة للاقتصاد الإسلامي وجامعة الدول العربية بالقاهرة.
ويستهدف هذا المؤتمر تحديد العوامل الأساسية للفقر في العالم العربي والإسلامي، واستكشاف الحلول المبتكرة والمستدامة لمعالجة مشكلة الفقر من خلال التسخير الأمثل لأهداف التنمية المستدامة، وتفعيل مبادئ وأدوات الاقتصاد الإسلامي.
ويقع هذا المؤتمر ضمن أهم أهداف منتدى البركة للاقتصاد الإسلامي، والتي تتمثل في تعزيز التعاون والشراكات الإقليمية، لتبادل الخبرات حول أبرز القضايا المتعلقة بالاقتصاد الإسلامي وتطبيقاته المختلفة، وجمع كبار الخبراء وصنّاع القرار وأصحاب المصلحة؛ لتبادل أفضل الممارسات وتطوير الأفكار، وبناء جسور التعاون والتفاهم بين الدول والمؤسسات في العالمين العربي والإسلامي، من أجل تحقيق تنمية اقتصادية مستدامة وشاملة في المجتمع.
فنرجو لهذه المؤسسة دوام التوفيق وتحقيق المرجو من وراء هذه الفاعلية العظيمة، التي تؤكِّد على أن الاقتصاد الإسلامي اقتصاد أخلاقي متميز في منطلقاته الفكرية وأدواته العلاجية ورؤيته للمشكلات وبالأحرى في طريقة وآليات العلاج.
(1) أخرجه البخاري، كتاب البيوع، باب كسب الرجل وعمله بيده (3/ 57) حديث رقم (2072).
(2) الخراج، لأبي يوسف، المكتبة الأزهرية للتراث، تحقيق : طه عبد الرءوف سعد ، سعد حسن محمد (ص 65).
1) وإحياء الأرض يعني: “التصرفُ في أرض مَوَات وإعمارها بالبناء والغرس والزرع والسقي وغير ذلك من الأغراض الصحيحة”. ينظر: التعريفات الفقهية، للبركتي، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة: الأولى، 1424 هـ (ص: 19).
(3) أخرجه البخاري (3/ 107) حديث رقم (2340).
(4) صحيح البخاري (3/ 107).
(5) أخرجه البخاري (3/ 107) ح (2340).
(6) أخرجه أحمد، مسند أنس بن مالك رضي الله عنه (20/ 251) حديث رقم (12902) وأخرجه الحاكم في المستدرك (2/ 237) حديث رقم (2862) وقال: «هذا حديث صحيح من حديث عاصم بن سليمان الأحول، على شرط الشيخين، ولم يخرجاه».
(7) اقتصادنا، محمد باقر الصدر، دار الفكر، بيروت، 1969م (ص: 664).
(8) الأشباه والنظائر، لابن نجيم، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1419 هـ – 1999 م ص: 106:
(9) ينظر: النظام الاقتصادي الإسلامي، يوسف إبراهيم يوسف، يوسف إبراهيم يوسف، مكتبة الرسالة الدولية، ط4، 2000م (ص: 244).
(10) الأموال للقاسم بن سلام، تحقيق: خليل محمد هراس، الناشر: دار الفكر. – بيروت (ص: 319).
1) (11) الإسلام وأزمة الغرب، نقلا عن كتاب أصول الاقتصاد الإسلامي، رفيق المصري، دار القلم، الطبعة الثانية، 1993م (ص: 105).
(12) فلسفة الاقتصاد الإسلامي كاستيراتيجية بنائية لتنمية مستدامة في العالم الإسلامي، بن عيسى لزهر، مجلة المفكر، كلية الحقوق والعلوم السياسية، جامعة محمد خيضر بسكرة، الجزائر، ع: 12، 2015م ص: 367.
(13) أخرجه أحمد، مسند الكوفيين، حديث الشريد بن سويد الثقفي (32/ 220) حديث رقم (19470)، وفي إسناده من هو مجهول، ولا تبعد صحته إذا عرف أن الأبعاض تشهد على بني آدم يوم القيامة فيشهد اللسان والأيدي والأرجل و﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النور: 24] بل يشهد السمع والبصر والجلود كذلك الجلود ﴿حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [فصلت: 20]، وذلك تشهد بعض الأعراض كالقرآن، فقد جاء في الحديث عن بريدة الأسلمي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” يجيء يوم القيامة القرآن كالرجل الشاب فيقول لصاحبه: أنا الذي أسهرت ليلك، وأظمأت نهارك”، أخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب الأدب، باب ثواب القرآن (2/ 1242) حديث رقم (3781)، وأخرجه الحاكم في المستدرك كتاب فضائل القرآن (1/ 742) حديث رقم (2043) وقال الحاكم: “هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه”، ومعنى الحديث المستنبط منه متفق مع النهي عن الإفساد في الأرض وذم المفسدين وذلك معروف في آيات كثيرة في القرآن الكريم، قال تعالى: ﴿وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [الأعراف: 56] وقال جل جلاله: ﴿أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ﴾ [ص: 28].
(14) ينظر: النظام الاقتصادي في الإسلام، يوسف إبراهيم يوسف (ص: 293).
(15) جاءت في قصة قسمة سواد العراق المشهورة على لسان الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، في السنن الكبير للبيهقي (13/ 295) حديث رقم «13134».
(16) فلسفة الاقتصاد الإسلامي كاستيراتيجية بنائية لتنمية مستدامة في العالم الإسلامي، بن عيسى لزهر ص: 367.