البحث العلمي في الاقتصاد الإسلامي في ظل عصر الرقمنة

بقلم الدكتورة/ هيام سامي الزعبي
أستاذ مساعد في الاقتصاد والمصارف الإسلامية

تبرز أهمية البحث العلمي بشكل كبير، في ظل التطوُّر التكنولوجي الهائل الذي يشهده العالم اليوم، والذي لم يقتصر على مجال واحد بل شمل جميع مجالات الحياة وغَيَّر الكثير من أنظمة المؤسسات المالية والمصرفية والتعليمية والشركات وغيرها، فتتجلى أهمية البحث العلمي في مواكبة الباحثين لكل جديد، كلٌّ في اختصاصه، وليس مجال الاقتصاد الإسلامي ببعيد عن هذه الحاجة الملحة، خاصة بعد ظهور كثير من إفرازات التحوُّل الكبير نحو الرقمنة مثل: انتشار التعاملات الرقمية بين الأفراد والمؤسسات، إلى جانب ظهور النقود الرقمية كوسيلة جديدة للتبادل والاحتفاظ بالقيم، مع تعالي الأصوات الداعية إلى تبنيها، والحاجة الكبرى إلى استشراف المستقبل في مدى هيمنتها على النظام النقدي العالمي، ما يعني أن التحول الرقمي أصبح أمرًا لا مفرّ منه، وخاصة بعد جائحة كورونا التي اجتاحت العالم في عام 2019م وأصبحت الحاجة ملحة للتحول الرقمي في جميع القطاعات.
وعلى الرغم من أهمية التحول الرقمي وضرورته والآثار الإيجابية له، إلا أنه يحمل في طياته العديد من السلبيات والتساؤلات في الوقت نفسه، خاصةً: ما يتعلق بعنصر الأمان والخصوصية والمشروعية، وتحديدًا عندما يتعلق الأمر بالمعاملات المصرفية والمالية، وظهور أدوات وطرق ووسائل رقمية بديلة عن الوسائل التقليدية، بالإضافة إلى مسألة الاعتراف بالنقود الرقمية واعتمادها، ولعلها القضية الأبرز في الوقت الحاضر، حيث تظهر تساؤلات عديدة لدى الفرد المسلم حول مشروعية التعامل معها ودرجة أمانها، ومع ذلك فقد لاقت العديد من المؤيدين لها، بل والمتعاملين بها، وإن كان اقتناع البعض بها جاء اعتمادًا على آراء صادرة عن غير المتخصصين.
وعليه تظهر أبرز التحديات التي تواجه الباحث في مجال الاقتصاد الإسلامي، حيث يقع على عاتقه مسؤولية كبيرة كمسلم أولاً، وكباحث ومتخصص في مجال شرعي اقتصادي ثانياً. ولذلك يتوجب عليه أن يعمل بجدية في البحث والتحري والتدقيق في مثل هذه القضايا المستجدَّة، حتى يصل إلى إجابات للتساؤلات التي لا تزال دون إجابة، سواء من حيث موضوع الأمان أو الخصوصية أو الجهالة، وصولاً إلى إصدار الحكم الشرعي فيها.
ومن هنا تبرز أهمية البحث العلمي وإجراء الدراسات في مجال الاقتصاد الإسلامي؛ لتوضيح حقائق مثل هذه المعاملات، وطبيعة الوسائل المتبعة في ظل الرقمنة، كأساليب التكنولوجيا المالية، والنقود الرقمية، وغيرها من القضايا التي تحتاج إلى دراسة دقيقة تظهر إمكانية قبولها بشكلها الحالي، أم إنها تحتاج إلى تعديل في بعض آليات عملها، ووضع ضوابط معيَّنة لتصبحَ متوافقةً مع الشريعة الإسلامية.

واقع البحث العلمي في القضايا المستجدة:

لقد ازدادت الدراسات والأبحاث من قبل الباحثين والمختصين في العلوم الشرعية، خصوصًا في مجال الاقتصاد الإسلامي، وتنوعت لتشمل كثيرا من القضايا المستجدة في ظل التحول الرقمي والتكنولوجيا المالية والنقود الرقمية، وغيرها من القضايا التي تُعنى بمجال الاقتصاد الإسلامي والصيرفة الإسلامية.
وترافقت مع هذه الدرسات كثير من المؤتمرات، والندوات، والملتقيات العلمية في العالم الإسلامي، بمشاركة المجالس العلمية والهيئات الشرعية ومجالس الفتوى جنبًا إلى جنب مع الباحثين والمختصين من مختلف دول العالم الإسلامي، وذلك لأجل مناقشة هذه القضايا وتوضيح ما يعتري هذه المعاملات من شبهات، وكيفية قبولها شرعًا، وكيفية مواجهة تحديات التحوُّل الرقمي، والعمل على إيجاد حلول مناسبة وابتكار منتجات وطرق ووسائل تكنولوجية متوافقة مع أحكام الشريعة الإسلامية.
وقد كان لهذه الدراسات تأثيرٌ واضحٌ على نموِّ وتطوُّر المصرفية الإسلامية، وظهور التكنولوجيا المالية الإسلامية وانتشارها في دول العالم، مما يعزِّز نظام الاقتصاد الإسلامي والصناعة المالية الإسلامية، ويبرز قدرته على احتواء القضايا المستجدة والعمل على مواءمتها مع أحكام الشريعة الإسلامية.
وقد تميَّزت بعض الدراسات بامتلاك رؤية ثاقبة وقدرة استثنائية على استشراف المستقبل في القضايا التكنولوجية المستجدة، إلى جانب الإيمان والقناعة بنظام الاقتصاد الإسلامي وأهميته في إيجاد الحلول للأزمات الاقتصادية العالمية، وتلك ثوابت لابد أن تكون موجودة لدى الباحث العلمي في مجال الاقتصاد الإسلامي، خاصة أن نظام الاقتصاد الإسلامي يتعرَّض لهجمةٍ شرسةٍ تستهدفُ إيجاد مفاهيم خاطئة وإثارة الشكوك لدى الأفراد والمؤسسات والمجتمعات الإسلامية، ومحاولة ترسيخ مفاهيم مغلوطة لدى ضعاف النفوس حول عدم وجود نظام اقتصادي إسلامي فعَّال، وهو ما أثبت الواقع نقيضه تماما، وحصل الاعتراف المتكرر بوجود ما يسمى بالاقتصاد الإسلامي.

لا بديل عن الاستمرارية في تطوير البحث الاقتصادي:

لقد تمخَّضت الدراسات المختلفة عن العديد من الفتاوى الشرعية التي تتعلق بمشروعية العديد من المعاملات المالية المستحدثة نتيجة التحول الرقمي، والأدوات والأساليب الرقمية المتَّبعة في المؤسسات المالية الإسلامية، كما صدرت فتاوى تتعلق بمشروعية التعامل بالنقود الرقمية، وتباينت الفتاوى والآراء بين مجيزٍ ومحرِّم، وتميَّزت بعض الدراسات بالتفصيل في ذلك ومحاولة وضع أسسٍ وضوابط مستوحاة من أحكام الاقتصاد الإسلامي؛ لجعلها مقبولةً متَّسقةً مع أحكام الشريعة الإسلامية وفلسفتها في النقود.
وهذا يُبرز أهمية الاستمرارية في البحث العلمي، ويقضي بضرورة إجراء المزيد من الدراسات والبحوث، إلى جانب السعي المتكرِّر نحو جمع المعلومات ورصد التداعيات، والتحري المبني على قواعد علمية سليمة، ولا بد أن يكون ذلك بالتعاون مع الهيئات الشرعية والمجالس العلمية؛ لمناقشة هذه القضايا بشكل دقيق، والخروج بالحكم الشرعي المناسب، كما أنه لابد من التشجيع والتحفيز المستمرّ للباحثين على البحث والاستنباط، فما زالت الكثير من المسائل الحادثة مبهمة عسيرة على الفهم، ويشكِّل هذا الغموض تحديًا كبيرًا إزاء إصدار الحكم الشرعي النهائي فيها، بالإضافة إلى أن التطوُّر التكنولوجي في استمرارية دائبة، مما ينتج عنه قضايا جديدة تستلزم البحث والتحري، وبيان الحكم الشرعي فيها، وكيفية استخدام الابتكارات التكنولوجية لتعزيز النظام المالي الإسلامي وجعله أكثر تكاملًا وفعالية.

Comments are disabled.