الشريعة وحريَّة التصرفات المالية

بقلم الأستاذ الدكتور/ عزُّ الدِّين بن زغيبة
أستاذ الفقه والأصول والمقاصد
ورئيس هيئة الرقابة والفتوى في عدد من المصارف الإسلامية

إن من أعظم الأسس التي بُنِي عليها نظام التصرفات المالية: رعايةَ حق التملُّك، وصيانةَ الأملاك عن كل يدٍ ظالمةٍ تعمد إلى إلغاء هذا الحق، أو الحدِّ منه من دون مسوِّغ شرعيٍّ، ويحصل هذا عندما يختص كل مالك بما يملكه، ويتصرف فيه بوجوه التصرف المختلفة، المعبَّر عنها بـ: “حُرِّية التصرُّف”، وهي أصل جِبِلِّيٍّ وشرعيٍّ وسُلطانيٍّ، ودليله قوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ، وَلَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ»(1)، وقال مالك رحمه الله: “والعرق الظالم كل ما احتُفر أو أُخِذَ أو غُرِسَ بغير حقٍّ” ثم قال: (وعلى ذلك الأمر عندنا)(2).
وهذا إقرارٌ من الشريعة بأن المال حقٌّ للذي اكتسبه بطريق من الطرق الصحيحة شرعًا؛ لأن حق الاكتساب للمال يخوِّل المرءَ حيازتَه والاستبدادَ به عن الغير، فلا يُباح إلا بإباحته، ويُمنَع بمنعه، ولا يحق التصرُّف في جزء منه إلا بإذنه، فحق الملكية على مال من الأموال يمنح صاحبه سلطةً على ما ماله وملكيته، يصير معها حقُّ الله تابعًا لحقه، قال ابن عبد السلام: “وأما الأموال فحقُّ الله – تعالى – فيها تابعٌ لحقوق العباد بدليل أنها تُباح بإباحتهم ويُتصرَّف فيها بإذنهم(3)، ومن ثم استحقّ مكتسبُ المال صفة المالك تمييزًا لسلطته على ما اكتسب عن غيره من الخلق، قال صلى الله عليه وسلم: “كُلُّ ذِي مَالٍ أَحَقُّ بِمَالِهِ” قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: يَصْنَعُ بِهِ مَا شَاءَ(4).
واعتباراً لمعنى حرية التصرفات المالية، جاء عن مالك أنه بلغه أن عاملاً لعمر بن عبد العزيز على أيلة(5) كتب إليه: أن قومي يمترون القمح منها إلى غيرها، وأنه بلغني أن أمير المؤمنين منع طعامًا أن ينتقل. فكتب إليه عمر بن عبد العزيز: ما ظننت أن أحدًا أَبِه لهذا، وإن الله تعالى أحل البيع وحرم الربا، فخلِّ بين الناس، وبين البيع والابتياع، قال مالك: (كان من العيب الذي يُعابُ به من مضى، ويرونه ظُلمًا عظيمًا منعُ التَّجْر) (6).
ولولا اعتبار حرية التصرف في الأقوال والأعمال، لما كانت الإقرارات، والعقود، والالتزامات، وصيغ الوصايا، والوقف، مستتبعةً آثارَها؛ ولذلك لا يُلتفت إليها متى تحقَّق أنها صدرت في حالة إكراه، وبناءً على هذا ذهب الحنفية إلى أنه لو تعاقد اثنان على عدم الاشتغال في التجارة يكون ذلك العقد غير مفيد؛ لأن حرية الإنسان في اختيار الوسيلة المشروعة لاكتسابه مبدأ يقرره النظام العام في الإسلام فلا ينبغي تقييدها(7).
واستنادًا إلى هذه المعاني اتَّفق العلماء على اشتراط الاختيار، وإطلاق التصرف في الشخص الذي يباشر عقد البيع، وإلا فإن البيع لا يصح.
ومما يندرج تحت هذا المعنى: قول المالكية بفسخ بيوع الثنايا(8) ما دام البائع متمسِّكًا بشرطه؛ وبيوع الثنايا: أن يبيع الرجل السلعة؛ على أن المشتري لها لا يبيعها ولا يهبها، أو إن باعها المشتري فالبائع أحقُّ بها بالثمن الذي اشتريت به منه، أو على أنه فيها بالخيار إلى أجل بعيدٍ لا يجوز الخيار إليه، أو ما يشبه ذلك من الشروط التي تقتضي التحجير على المشتري وتُقيِّد حرية تصرفه في السلعة التي اشتراها.
وحتى يكون لزوم العقد لزومًا صحيحًا وذا أثر في الواقع اشْتُرط في وجوده حصول صيغ العقود، وهي الأقوال الدالة على التراضي بين المتعاقدين، أو ما يحلُّ محلها ويأخذ حكمها، كالأفعال والإشارة في بعض التصرفات؛ لأن المقصود من العقود هو الرضا فما دل عليه كفى.
ومن أجل هذا قال الفقهاء في حكمة مشروعية البيع هي: الوصول لما في يد الغير على وجه الرضا، وجعلوا أول أركانه الصيغة، وقالوا في تفسيرها: هي الإيجاب والقبول، أو ما يشاركهما في الدلالة على الرضا الباطن من قول أو فعل قُصِد به ذلك.
والذي يتضح من هذا الكلام: أن التراضي أساس الالتزام. أي: إنه إذا تعاقد شخصان على تصرُّف معيَّنٍ، وتراضيا به، وجب عليهما الالتزام بمقتضياته .
ولهذا جعل الفقهاء ظهور ما يدل على الرضا بالعيب من المشتري مانعًا من الخيار ومبطلًا للرد مطلقًا، سواء كان ذلك بالقول، أو بالسكوت، أو بالفعل.
ولا يُفهم من هذا الكلام أن كلَّ ما رضي به العاقدان أو أحدهما من التصرفات والالتزامات ملزِمٌ لهما كيفما كان، وإنما يَلزمُهما – مما رضيا به من التصرفات- ما كان وقوعه موافقًا للشريعة، أما ما كان مخالفًا لها فهما ممنوعان منه، ولا عبرةَ لرضاهما به، قال ابن حارث الخشني: “انظر فكلُّ صفةٍ انعقدت على ظاهر الصحة والسلامة، ثم تَبيَّن فيها وجهٌ لو تعاملا عليه لم يجُزِ البيعُ؛ فلا يجوز أن يتراضيا بتنفيذ ذلك الوجه الذي لا يحل التعامُل فيه(9).
ولما كان التراضي شرطًا في كل عقد، كان الإكراه على البيع مانعًا من لزومه للمكرَه عليه؛ وذلك لافتقاده أهلية المعاوضة المبنية على الرشد وعدم الإكراه؛ ولهذا المعنى قال الفقهاء في بيع المضغوط: إن البيع لازم من جهة غير المضغوط، ولا خيار فيه إلا للمضغوط وحده(10).
وهذا نزرٌ قليلٌ من فيض الشريعة في مجال المعاملات المالية التي وضعتْها للمكلفين الداخلين تحت سلطانها، أردتُ من خلاله أن ألفت عناية المنتمين إلى الاختصاصات الاقتصادية أو ما يدور حولها أو في فلكها من فروع العلم، غير المرتبط بالنظام الإسلامي في هذا المجال؛ حتى يطالعوا حكمة الشريعة وفلسفتها في هذا النظام المحكَم للمعاملات المالية؛ فإنهم سيستمتعون بما يسبح بهم في عالم الحكمة الإلهية الذي بسلطانه يصقُل النفس، ويهذِّب الطبائع، ويَعرُج بالتفكير إلى مدارج النماذج المنتخَبَة لقيادة الأمة والإشراف على سلوكها؛ ليكون مطابقًا للسلوك النبوي، ومستنسَلًا من معين ومعاني النظام الأخلاقيِّ، الذي بُعث الرسول صلى الله عليه وسلم من أجل إتمامه في الخُلُق.

(1) أخرجه أبو داود، كتاب الفرائض، باب في إحياء الموات (3/ 178) حديث رقم (3073) والترمذي، أبواب الأحكام، باب ما ذكر في إحياء أرض الموات (3/ 654) حديث رقم (1378) بلفظه وقال حسن غريب، وأخرجه (3/ 655) حديث رقم (1379) دون لفظة “وليس لعرق ظالم حق” وقال: حسن صحيح، وأخرجه البخاري بلفظ: (3/ 106) حديث رقم (2335) من حديث عائشة بلفظ «من أعمر أرضا ليست لأحد فهو أحق»، قال عروة: «قضى به عمر رضي الله عنه في خلافته» وأخرجه مالك في الموطأ، كتاب الأقضية، (4/ 1076) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه برقم (2752).
(2) موطأ مالك رحمه الله، تحقيق الأعظمي (4/ 1076).
(3) قواعد الأحكام في مصالح الأنام، للعز بن عبد السلام، مكتبة الكليات الأزهرية – القاهرة، 1414 هـ – 1991 م (2/ 78).
(4) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى، أبواب عطية الرجل ولده، باب ما يستدل به على أن أمره بالتسوية بينهم في العطية على الاختيار دون الإيجاب (6/ 296) حديث رقم (12007) عن ابن المنكدر مرسلا، وقال ابن حزم في المحلى بالآثار (8/ 104) إنه خبر صحيح.
(5) مدينة أيلة من مدن ساحل البحر الأحمر مما يلي الشام، ينظر: معجم البلدان، ياقوت الحموي، دار صادر، بيروت، الطبعة: الثانية، 1995 م (1/ 292).
(6) البيان والتحصيل، لابن رشد الجد، تحقيق: د محمد حجي وآخرون، دار الغرب الإسلامي، بيروت – لبنان، الطبعة: الثانية، 1408 هـ – 1988 م (17/ 73).
(7) بل يشير القدوري في التجريد إلى أن مقتضى عقد الشركة هو التصرف وأن هذا التصرف لا يتوقف على إذن أو شرط، ينظر: التجريد للقدوري، مركز الدراسات الفقهية والاقتصادية، دار السلام – القاهرة، الطبعة: الثانية، 1427 هـ – 2006 م (6/3056).
(8) الثنايا: جمع ثنيا وهي اسم مصدر من استنثى والمصدر هو الاستثناء يقال استثنى استثناء وثنيا، وفي تهذيب اللغة باب الثاء والنونتهذيب اللغة (15/ 102): “وَيُقَال: حَلَفَ فلانٌ يَمِينا لَيْسَ فِيهَا ثُنْيا، وَلَا ثَنْوَى، وَلَا ثَنِيَّة، وَلَا مَثنَوِيّة، وَلَا اسْتِثْنَاء، كُله وَاحِد”، وصورتها في الاصطلاح كما ذكر كاتب المقال ينظر كذلك: تحرير الكلام في مسائل الالتزام، الحطاب الرعيني، المحقق: عبد السلام محمد الشريف، الناشر: دار الغرب الإسلامي، بيروت – لبنان، الطبعة: الأولى، 1404 هـ – 1984 م (ص: 350).
(9) أصول الفتيا لابن حارث الخشني، تحقيق: محمد أبو الأجفان وآخرون، الدار العربية للكتاب، 1985م (ص: 114).
(10) المضغوط اسم مفعول من أضغط على قياس أكراه وزنا ومعنى، فالمضغوط هو من أكره على تصرف ما، ينظر: مواهب الجليل في شرح مختصر خليل، الحطاب الرعينيي، دار الفكر، الطبعة: الثالثة، 1412هـ – 1992م (4/ 248).

Comments are disabled.