العملات الرقمية المشفرة في ضوء عقود المعاملات الشرعية – القواعد الضابطة (3/7)

الدكتور/عبد الناصر حمدان بيومي

تحدثنا في المقال السابق عن مفهوم العملات المشفرة وأنواعها ومقاصد إصدارها؛ وفي هذا المقال نتناول القواعد الضابطة لعقود المعاملات المالية، ويندرج تحتها العملات الرقمية المشفرة.

القواعد الضابطة لعقود المعاملات المالية:

كل عقود المعاملات المعاصرة لا تخرج عن القواعد العامة لعقود المعاملات المالية الإسلامية، ومن القواعد الواجب استحضارها واعتبارها في موضوعنا ما يلي:

  1. لا يَحْرُم على الناس من المعاملات التي يحتاجون إليها إلا ما حرَّمه الكتاب والسنّة.
    وهذه من الكليات الشرعية في المعاملات، فالأصل في المعاملات الحل والإباحة والمشروعية، ولا يحرم منها إلا ما حرمه القرآن والسنة؛ لعلة من العلل الشرعية المعتبرة، فيعدى الحكم إلى الفرع المقيس بجامع العلة، “فمن المعاملات ما قد تنازع فيه المسلمون لخفائه واشتباهه، فقد يرى هذا العقد والقبض صحيحًا عدلاً، وإن كان غيره يرى فيه جورًا يوجب فساده، وقد قال الله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾ [النساء/59]، والأصل أنّه لا يَحْرُم على الناس من المعاملات التي يحتاجون إليها إلا ما دلّ الكتاب والسنّة على تحريمه، كما لا يُشرع لهم من العبادات التي يتقرّبون بها إلى الله إلا ما دلّ الكتاب والسنّة على شرعه، إذ الدين ما شرعه الله، والحرام ما حرّمه الله”.(1)
  2. حرمة أكل أموال الناس بالباطل.
    وهذه من الكليات القرآنية، وهي من مكونات المقصد الكلي حفظ المال، وتحريم أكل أموال الناس بالباطل يفيد حفظه من جهة العدم، ولا تقتصر على باب المعاملات بل في كل مجالات الحياة يحرم أكل أموال الناس بالباطل، في الكسب والإنفاق والعمل والميراث والوصية والوقف والزكاة والنذور والكفارات، والقيام على أمور الأيتام، واستثمار المال والمتاجرة فيه وسائر المجالات. قال ابن العربي عند تفسير قوله تعالى: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ﴾ [البقرة/188]: “هذه الآية من قواعد المعاملات، وأساس المعاوضات ينبني عليها، وهي أربعة: هذه الآية. وقوله تعالى: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ [البقرة/275]. وأحاديث الغرر. واعتبار المقاصد والمصالح”.(2)
    فقد حصر أسباب تحريم المعاملات المالية في الشريعة الإسلامية في أشياء: الظلم، والغرر، والربا، والميسر. فالظلم: كالغش، والغرر: كبيع المجهول، والربا: كبيع درهم بدرهمين. فأي معاملة تشتمل على واحد منها فإن الشرع لا يقرها.
  3. من القواعد الكبرى: قاعدة: الأعمال بالنيات.
    فكل عمل لا بد له من نية، فالنية هي مناط التمييز بين العبادات والعادات، وبين رتب العبادات وبعضها. قال العز بن عبد السلام: “والغرض من النيات تمييز العبادات عن العادات، أو تمييز رتب العبادات أثناء تمييز العبادات عن العادات ومن أمثلته: دفع الأموال مردد بين أن يفعل هبة أو هدية أو وديعة، وبين أن يفعل قربة إلى الله؛ كالزكاة والصدقات والكفارات، فلما تردد بين هذه الأغراض، وجب أن تميز النية لما يفعل لله عما يفعل لغير الله”(3).
    ومن أهم القواعد المتفرعة عنها، وتتعلق بالمعاملات المالية: “العبرة في العقود للمقاصد والمعاني دون الألفاظ والمباني”(4)، والمقصود أنه عند التعاقد لا ينظر للألفاظ التي يستعملها العاقدان حين العقد، بل إنما ينظر إلى مقاصدهم الحقيقية من الكلام الذي يلفظ به حين العقد؛ لأن المقصود الحقيقي هو المعنى وليس اللفظ ولا الصيغة المستعملة، وما الألفاظ إلا قوالب للمعاني.
    ومثاله: أن ما كان في معنى البيع أو الإجارة أو الإسقاط أخذ حكمه. وكذلك إذا تم الصلح على الوجه المطلوب دخل بدل الصلح في ملك المدعي، وسقطت دعواه المصالح عنها، فلا يقبل منه الادعاء بها ثانيًا، ولا يملك المدعى عليه استرداد بدل الصلح الذي دفعه للمدعي.(5)
  4. من القواعد الكبرى: قاعدة: الضرر يزال.
    فالضرر مفسدة يجب رفعها وإزالتها إذا وقعت، كما يجب دفعها قبل وقوعها؛ لأن في إبقاء الضرر إبقاء لما يلحق الفساد بالكليات الخمس الضرورية: الدين والنفس والعقل والنسل والمال. وإزالة الضرر الواقع على الأموال يتحقق بالتعويض الذي يجبر فيه الضرر.
    ومن أهم القواعد المتفرعة عنها؛ المتعلقة بالمعاملات المالية: “الضرر لا يزال بالضرر”،”الضرورات تبيح المحظورات”، وقيدها: “ما أبيح للضرورة يقدر بقدرها”، “يتحمل الضرر العام لدفع الضرر الخاص”، “يُدفع الضرر الأشد بالضرر الأخف”، “الاضطرار لا يبطل حق الغير”، و”متى أمكن الدفع بأسهل الوجوه لم يعدل إلى أصعبها”، و”درء المفاسد أولى من جلب المصالح”…
  5. قاعدة: الأصل في المعاملات الإباحة(6)، وأنه لا يحرم منها إلا ما حرّمه الله ورسوله، ومن ادّعى تحريم معاملة أو عقد، فعليه إقامة الدليل على التحريم.
  6. قاعدة: الْأَصْل في الْمُعَامَلَاتِ والْعُقُودِ وَالشُّرُوطِ الصِّحَّةُ إلَّا ما أَبْطَلَهُ الشَّارِعُ أو نهى عنه(7)، فالأصل في المعاملات المشروعية والجواز والصحة، فلا يبطل منها إلا ما قام الدليل على بطلانه. وقد تشتد حاجة بعض الناس في عصرنا لمعاملة مشروعة؛ لقضاء ديونه والبدء في عمل مباح؛ كعقود المرابحة والقراض والسلم ونحوها؛ ولأجل هذا جعل الشارع المعاملات حلالاً إلا ما قام الدليل على منعه. فأي معاملة ليس فيها غرر ولا غش ولا جهالة كبيرة ولا ما يقتضي بطلانها، فهي صحيحة.
  7. المعاملات وسائل إلى تحصيل مصالح الدنيا والآخرة ودرء مفاسدهما(8)، فالمعاملات ليست مقصودة في ذاتها بل هي وسيلة لتحقيق مصالح الخلق، وتبادل المنافع، والتيسير على الجميع في أمور معايشهم، ودرء المفاسد والشرور عنهم، فلا ينبغي أن تكون المعاملة وسيلة إلى مفسدة.
  8. الحيل باطلة في عقود المعاملات المالية إذا هدمت أصلاً من أصول الشريعة. فكل تحيل في معاملة كان قصد المكلف منها إسقاط الواجب أو استحلال الحرام، أو التوسل بفعل تكليف إلى إسقاط تكليف آخر، أي إسقاط حقٍّ لله تعالى أو لآدمي، فإن حيلته باطلة مردودة عليه.
  9. الأصل في العادات والمعاملات الالتفات إلى المعنى(9)، فتدور أحكام المعاملات أو العادات مع المقاصد والمصالح والمحاسن الشرعية المعقولة حيث دارت. وعلى هذا ينبني فهم العلماء لأحكام العادات والمعاملات من جهة توسيع دائرة الاجتهاد في فهم النصوص المتعلقة بها، وكذلك في التفريع والتخريج عليها في النوازل والمستجدات؛ لأن لها معان مدركة ومعقولة.
  10. إذا اجتمع الحلال والحرام غلب الحرام(10)، فالحلال ما أحله الله تعالى، والحرام ما حرمه الله تعالى، فإذا اجتمع الحلال
    والحرام في شيء واحد ترجح جانب الحرام، لأنه محظور، كما أن الحرام ممنوع في جميع حالاته، ويمكن تحصيل الحلال من مصدر آخر، فما اجتمع محرم ومبيح إلا غلب المحرم.
  11. الأصل في المعاملات هو العمل بالظاهر؛ كي لا يضيق الأمر على الناس(11)، فإذا كان ظاهر المعاملة مشروعًا ومباحًا ولا يتحيل المتبايعان على الحرام، فلا ينبغي أن نفتش على البواطن؛ لأن ما غاب عنا كالمعدوم لا نسأل عنه، والمعدوم حسًّا كالمعدوم معنى.
  12. الأصلُ في الأموالِ العِصْمة(12)، فلا تصرف إلا بإذن صاحبها، فإذا وقت مدة لخروجها فله ذلك ويلزم شرطه.
  13. مبنى المعاملات على العدل والرحمة ونفي الظلم والحيف.(13)، فإذا بُني العقد على التظالم والتواثب وأكل أموال الناس بالباطل؛ فإنه يخرج عن إطار المشروع إلى الممنوع.
  14. كل بيع كان المقصود منه مجهولاً غير معلوم، ومعجوزًا عنه غير مقدور عليه، فهو غرر(14)، فالجهالة والغرر الكبيران، وعدم القدرة على التسليم بأن يبيع المكلف ما ليس عنده، أو ما لا يقدر على تسليمه، كلها من مبطلات العقود.
  15. المعاملات المالية مبناها على التراضي، فإن انعدم بطل التصرف، وفسد العقد؛ لقوله تعالى: ﴿‌إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾ [النساء: 29].

ومما تجب ملاحظته هنا: أن القواعد والضوابط ينبغي ألا تختلف مع أدلة الشريعة وأحكامها. فالقواعد والضوابط أصول تبنى عليها فروعها، كما أنه يتم من خلالها ضبط الأحكام المتشابهة؛ نظرًا لاتحاد المناط، غير أنه ينبغي ألا يتعارض تطبيق القواعد وإعمالها مع غيرها من أدلة الشريعة وأحكامها. فمن قواعد المعاملات المالية مثلاً: “الأصل في المعاملات الحل”، فلا ينبغي أن نجيز بمقتضاها كل أنواع العقود والتعاملات المعاصرة دون أن ندرك كنه المعاملة وتكييفها وحقيقتها، ونعرضها على نصوص الشريعة، وعلى القواعد الأخرى في المسألة، ومنها مثلاً: “العبرة في العقود للمقاصد والمعاني دون الألفاظ والمباني“، وغيرها من القواعد والضوابط التي سبق ذكرها.
هذه أهم القواعد الضابط للعقود المالية، وفي ضوئها يتم فهم أي نازلة في هذا الباب، ولابد من أخذها بعين الاعتبار مع أهم المبادئ الحاكمة لإصدار النقود والعملات، وهو موضوع المقال المقبل.

(1) السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية، لابن تيمية: 133.
(2) أحكام القرآن، لأبي بكر محمد بن عبد الله المعافري الإشبيلي المالكي ابن العربي، ت: 543هـ، ط دار الفكر-بيروت. د.ت: 1/137.
(3) قواعد الأحكام في إصلاح الأنام: 1/207-208.
(4) انظر: مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج، لمحمد الخطيب الشربيني، ت: 977هـ، ط دار الفكر-بيروت: 2/68.
(5) انظر: مجلة الأحكام العدلية المادة (3)، درر الحكام شرح مجلة الأحكام، لعلي حيدر: 1/18-19.
(6) دراسات في التصوف، لإحسان إلهي ظهير الباكستاني، ت: ١٤٠٧هـ، ط1 دار الإمام المجدد-باكستان ١٤٢٦هـ/٢٠٠٥م: 7.
(7) إعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن القيم: 1/344.
(8) انظر: قواعد الأحكام في إصلاح الأنام، للعز بن عبد السلام: 2/132.
(9) انظر: الموافقات، للشاطبي: 1/293-295، 2/300.
(10) انظر: شرح السير الكبير، لمحمد بن الحسن الشيباني، ت: 198هـ، ت: د. صلاح الدين المنجد، ط معهد المخطوطات-القاهرة: 2/411، المحلى، لأبي محمد علي بن سعيد بن حزم الظاهري، ت: 456هـ، ت: لجنة إحياء التراث العربي، ط دار الآفاق الجديدة-بيروت: 9/534.
(11) انظر: الهداية في شرح بداية المبتدي، لأبي الحسن علي بن أبي بكر بن عبد الجليل الفرغاني المرغيناني، ت: ٥٩٣هـ، ت: طلال يوسف، ط دار احياء التراث العربي-بيروت: 4/294.
(12) الذخيرة، للقرافي: 13/204، المبدع في شرح المقنع، لأبي إسحاق إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن مفلح الحنبلي، ت: 884هـ، ط المكتب الإسلامي-بيروت 1400هـ/1980م: 7/247.
(13) محاسن الشريعة، للقفال الشاشي: 400.
(14) عون المعبود شرح سنن أبي داود، لمحمد شمس الحق العظيم آبادي، ت: 1329هـ، ط2 دار الكتب العلمية-بيروت 1415هـ/1995م: 9/165.

Comments are disabled.