العملات الرقمية المشفرة في ضوء عقود المعاملات الشرعية – المبادئ الحاكمة (4/7)

الدكتور/عبد الناصر حمدان بيومي

تحدثنا في المقال السابق عن القواعد الضابطة للعقود المالية الإسلامية ومنها العملات المشفرة؛ وفي هذا المقال نتناول المبادئ الحاكمة لعقود المعاملات المالية، والتي يندرج تحتها العملات الرقمية المشفرة.

أهم المبادئ الحاكمة لإصدار النقود والعملات:

هناك مجموعة من المبادئ الحاكمة لإصدار النقود عمومًا، وأي عملة أخرى تجري مجرى النقود في الدولة المعاصرة؛ لأن إصدار النقود على مدار التاريخ كان من الأعمال السيادية للدولة كما سنبينه.
أولاً: مبدأ سيادة الدولة، يُعرِّف القانون الدولي الدولة ذات السيادة بأنها كيان يأوي سكانًا دائمين، ولها حدود جغرافية معروفة، وحكومة واحدة، وقادرة على الدخول في علاقات مع غيرها من الدول ذات السيادة. ومن المفهوم أن الدولة ذات السيادة لا تخضع ولا تعتمد على غيرها من الدول أو القوى؛ طبقًا للنظرية التصريحية عن الدولة، قد توجد الدولة دون الحصول على اعتراف الدول ذات السيادة الأخرى. ولكن الدول غير المعترف بها ستجد صعوبة في إبرام المعاهدات أو الدخول في العلاقات الدبلوماسية مع الدول الأخرى. فالدولة ذات السيادة عبارة عن كيان سياسي تعبر عنه حكومة مركزية لها سيادة على منطقة جغرافية معينة.(1)
ولسيادة الدولة مجموعة من الخصائص والمظاهر، فمن خصائص سيادة الدولة: أنها استئثارية مطلقة غير مقيدة بموجب قانون أو دستور أو معاهدة دولية… فالمعاهدات الدولية لا تتعارض مع مبدأ سيادة الدول، وصفة الاستئثارية في سيادة الدولة تعني أن لها إمكانية إخضاع الأفراد والهيئات داخل إقليمها لإدارتها المطلقة التي هي مسئولة عليه، بممارسة السيادة المطلقة داخل نطاق حدودها، فهي القانون بحد ذاته. فالدولة لا تقبل سلطان أعلى من سلطانها أو حتى مساو لها؛ لأن الدولة لا تقوم إلا باكتمال سلطانها، وتندثر الدولة إذا سمحت لسلطات أخرى بموازاتها. فدولة لبنان كادت أن تنهار بسبب ظهور التنظيمات السياسية والميليشيات التي تدخلت في دواليب السلطة بفرضها نظامًا وقوانين بقوة السلاح، وكادت أن تستولي على الدولة لولا تدارك الأمر من السلطة الحاكمة في لبنان واستعادة سلطانها. كما أن السيادة شاملة عمومية في قواعدها القانونية على جميع الأفراد الذين يقطنون داخل إقليمها باستثناء ما تنص عليه الاتفاقيات الدولية والمعاهدات؛ كالدبلوماسيين والقنصليات والسفارات، وموظفي المنظمات الدولية الذين يتمتعون بحصانة دبلوماسية. والسيادة غير قابلة للتنازل أو التقسيم أو التجزئة أو التخلي عنها جزئيًّا أو كليًّا، وإلا فقدت الدولة أحد ركائزها الأساسية، وانعدمت صفة السيادة.
ومن مظاهر سيادة الدولة الداخلية: السلطة القانونية والتشريعية والتنفيذية، التي تقوم بوضع وتعديل وإلغاء وتنفيذ القوانين بالدولة. والممارسة السياسية بتحديد الأشخاص الذين لديهم الحق في التصويت والانتخاب، والطريقة المتبعة في ذلك. وأما مظاهر السيادة الخارجية: فمبناها على ثلاثة حقوق رئيسية: حق الاستقلال، وحق تقرير المصير، وحق المساواة. وتتمثل كذلك في استقلال الدولة في إدارة شئونها مع الدول الأخرى، بإبرام معاهدات واتفاقيات، وإقامة علاقات مع أي كيان دولي خارجي دون قيد أو تدخل في شئونها.(2)
ولا شك أن سيادة الدولة تقتضي أن تبسط سلطانها على كل مؤسساتها، وتوجهها في خدمة أهدافها، ومن ذلك: إصدار النقود وترتيب طرق طباعتها وتداولها وصرفها الذي هو من أعمال السيادة في كل دولة، وذلك عن طريق البنك المركزي للدولة كما سنبينه في الفقرة التالية.
ثانيًا: البنك المركزي وإصدار العملة، البنك المركزي: هو مؤسَّسة رسميّة تتولّى إصدارَ النَّقد، وإدارة معدَّلات الصَّرف، والرِّقابةَ على النَّشاط الماليّ للدَّولة، وتقوم بتنظيم التَّزويد والإقراض النَّقدي، والإشراف على المصارف الأخرى.(3)
وهي المؤسسة المسئولة عن مراقبة وتوجيه النظام المصرفي في الدولة (أو في مجموعة دول)، وتهدف بشكل عام إلى الحفاظ على الاستقرار النقدي والمالي في الدولة، والإسهام في تعزيز النمو الاقتصادي والسيطرة على التضخم وتخفيض البطالة. وتتعدد مهمات المصرف المركزي وتختلف من دولة لأخرى، ولكنها تشمل عادة مهام مثل: صياغة وتنفيذ السياسة النقدية للدولة، وإصدار النقد (العملة الوطنية)، ومراقبة الجهاز المصرفي، وإدارة نظام المدفوعات وتنظيم الائتمان والإقراض، وإدارة احتياطي العملة الأجنبية، والعمل كمصرف للحكومة وللمصارف التجارية العاملة في البلد، وتحديد الحد الأدنى لسعر الفائدة، مما يؤثر بدوره على السلوك الاستهلاكي والاستثماري للفرد والمجتمع. ويطلق على البنك المركزي: بنك الإصدار، وبنك الحكومة، وبنك البنوك. بجانب إدارته وسيطرته على القطاع المصرفي في أي دولة، حيث يعد بنك البنوك، فإن البنك المركزي هو الإدارة الرئيسية في الدولة لتحديد وإدارة السياسة النقدية بما يسهم في مساعدة الاقتصاد على تحقيق التوازن المطلوب وتلبية الأهداف الاقتصادية التي تتطلع لها الدولة. ترتبط فكرة البنوك المركزية بالتوسع في الاعتماد على الاقتراض لتمويل التجارة والمبادلات التجارية والتوسع في النقد خارج نطاق أن يُغَطَّى بالمعادن الثمينة مثل الذهب والفضة.(4)
فمن أهم وظائف البنك المركزي: إصدار النقود بشتى أنواعها، ومراقبتها وضبطها، وتوجيه النظام المصرفي، والسيطرة على التضخم والركود، وضبط السيولة النقدية، وتنفيذ السياسة النقدية للدولة.
ثالثًا: النقود الورقية الاستبدادية، فقد أصبح لكل بلد في العالم الحديث نقده الورقي الاستبدادي، الذي يستمد وضعه كوسيط للمبادلات من القانون المحلي، الذي يلزم المواطنين بقبوله. فالنقود الورقية تشتمل على ثلاثة أنواع:

  1. نقود ورقية نائبة: وهي عبارة عن شهادات أو شيكات ورقية تُعادل قيمتها قيمة النقود أو الذهب أو السبائك المودعة في المصرف، وتتم عملية تداول هذه الودائع دون الحاجة إلى انتقالها من الخزانة.
  2. نقود ورقية وثيقة: وهي ما يسمى بالبنكنوت التي تجمل تعهُّدًا بالدفع عند الطلب، يُصدرها مصرف مركزي واحد، وتتوقف قوتها على رصيدها الذهبي وثقة الجمهور بها ورقابة الدولة عليها.
  3. نقود إلزامية ورقية: وهي النقود التي يقابلها رصيد معدني، وتكون لها صفة إلزام الجمهور بقبولها من خلال سلطة الدولة ودعمها.

وهذا النوع من النقود هو الشائع اليوم، وترجع بداية تداولها إلى الحرب العالمية الأولى عام 1914م، حيث أعلن عن عدم قابلية صرف الأوراق النقدية إلى ذهب، وتحللت بنوك الإصدار من الارتباط بين إصدار هذه الأوراق وكمية الذهب. وأصبحت الدولة الحديثة تعتمد في إصدار عملتها على قوتها الاقتصادية، ومدى قدرتها على إنتاج السلع والخدمات، وما تمتلكه من العملات الصعبة، وما عندها من مخزون ذهبي، ولم يعد الأمر مرتبطًا بالذهب وحده، بل يمكن لها أن تصدر النقود دون وجود أي غطاء من الذهب كما تفعل بعض الدول اليوم.(5)

هذه أهم المبادئ الحاكمة لإصدار النقود والعملات، وفي ضوئها يتم فهم أي نازلة في هذا الباب، ولابد من أخذها بعين الاعتبار مع مقاصد تشريع العقود المالية، وهو موضوع المقال التالي.
(1) راجع موقع: https://ar.wikipedia.org/wiki/.
(2) انظر: مبدأ سيادة الدولة في ظل أحكام القانون الدولي العام، لزيناني سيف الدين، رسالة ماجستير في جامعة محمد العربي بن مهيدي-كلية الحقوق والعلوم السياسية، أم البواقي-الجزائر 1440هـ/2020م: 16-23.
(3) انظر: معجم اللغة العربية المعاصرة، د. أحمد مختار عبد الحميد عمر، ت: ١٤٢٤هـ، ط1 عالم الكتب-بيروت ١٤٢٩ هـ/٢٠٠٨م: 2/936، 1292.
(4) راجع موقع: https://ar.wikipedia.org/wiki/.
(5) راجع موقع: https://www.annajah.net/.

Comments are disabled.