الكتاتيب والمدارس الوقفية منارات علمية وشواهد حضارية
بقلم الأستاذ الدكتور/إبراهيم عبد الحليم عباده
أستاذ الاقتصاد والمصارف الإسلامية-جامعة اليرموك/ الأردن
يدور تعريف الوقف عند الفقهاء حول التصرف في العين وما تدره من دخل مع بقاء أصلها، وجعل منفعتها لجهة من جهات البر المختلفة، لتخرج من ملك صاحبها بجعلها مبذولة على وجه القربة لله تعالى.
وقد تسابق صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بوقف أنفس أموالهم للبرَّ والخير، سعياً لمرضاة الله، واقتداء برسوله صلى الله عليه وسلم حتى أنّ جابر بن عبد الله قال: “لم يكن أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذو مقدرة إلا وقف”(1).
أولاً: الوقف على المدارس والكتاتيب: المفهوم وأهم النماذج
1. الوقف على الكتاتيب:
الكُتّاب مدرسة صغيرة لتعليم الصبيان القراءة والكتابة وتحفيظهم القرآن والجمع كتاتيب. “(2). وسمي الكتاب بهذا الاسم نظراً لأن الطفل كان يتعلم فيه الكتابة، وأصبح يشمل كل مؤسسة تعليمية تُعنى بتربية الصغار حتى ولو لم تكن القراءة والكتابة مادتها الدراسية الوحيدة، فقد أطلق هذا الاسم على مؤسسات تعليمية كان همها الأول تعليم الطفل وتحفيظه القرآن الكريم”(3). وقد أدى الوقف إلى إنشاء واستمرار الكتاتيب، ومن كتاتيب بلاد الشام على سبيل المثال التي وقف عليها:
- مكتب الأيتام (بجانب المدرسة الجقمقية) في دمشق: بانيها سيف الدين جقمق سنة 822هـ داخل باب الجابية وطاحون الأعجام بالوادي والخان شمالي المصلى(4).
- مكتب الأطفال (بجانب المدرسة اللبودية للطب) في دمشق أقامها الشيخ محيي الدين يحيى سنة 949هـ لتأديب الأطفال وافتتحها قاضي القضاة محمد بك الرومي الحنفي وجعل لها شيخاً يؤدب الأطفال(5).
- كتاتيب الأيتام التي بناها نور الدين زنكي في بلاد الشام ومصر وأجرى عليهم وعلى معلميهم الجرايات الوافرة، ويذكر أبو شامة أنه بلغه من عارف بأعمال الشام أن وقوف نور الدين في سنة 608هـ، في كل شهر 9 آلاف دينار صورية* “().
وكون الكتاب شكل مصغر للمدرسة ونواة أولى لها فإن المقال يكتفي بهذه النماذج ويمكن الانتقال للحديث حول المدارس الوقفية لأهميتها وكونها النواة لإنشاء الجامعات الوقفية.
2. إنشاء المدارس وملحقاتها والتمويل الجاري عليها:
انتشر نمط الوقف على المدارس ودور التعليم بعامة انتشاراً واسعاً في الحضارة الإسلامية، مما كان له أثرٌ واضح في حركة التعليم عند المسلمين، فبنيت المدارس ابتداء عن طريق الوقف، ووفِرَت متطلبات التعليم المختلفة من مدرسين وسكن وتجهيزات مدرسية.
ويشار هنا إلى أنه بظهور المدارس النظامية، وبروز فريق من المعلمين المتفرغين لمزاولة مهنة التدريس، إضافة إلى تزايد أعباء الحياة هذا الأمر دعا إلى ظهور الحاجة إلى مورد ثابت يُنَفَق منه عليهم، فكان أن وقفت بعض الممتلكات الخاصّة على المدارس للصرف عليها وعلى المشتغلين بها، وأنفقت في ذلك أموال طائلة مما ضمن بقاء هذه المؤسسات واستمرارها في أداء الوظيفة التي أنشئت من أجلها، لأن الوقف جعل هذه المعاهد تكتسب صفة الدوام والاستمرار، وبدون الأوقاف لا يمكن أن تقوم قائمة لأي مدرسة أو منشئة تعليمية في كثير من العصور الإسلامية، وقد بلغ مجموع المدارس التي أحصاها أحد الباحثين المعاصرين في المدينة المنورة وحدها حتى بداية التعليم النظامي ثمانية وثلاثين مدرسة.(7)
ولم يقتصر الوقف في عملية التعليم على كونه مورداً مالياً له، بل تعدى ذلك إلى طرقه جوانب العملية التعليمية كافة، حتى أنه يمكن القول: إن وثيقة الوقف كانت بمثابة اللائحة الأساسية للمؤسسة التعليمية، حيث تضم الأسس التربوية للتعليم والشروط التي يجب أن تتوافر بالمدرسين ومواعيد الدراسة، والحقوق والواجبات، وغير ذلك من التنظيمات الإدارية والمالية.
ولما كانت الموارد المالية للمدرسة محددة بريع الوقف، فقد حدد الواقفون أعداد الطلبة الذين يتلقون العلم في المدرسة، وحددوا طلبة كل مذهب من المذاهب الأربعة وطلبة التفسير، وطلبة الحديث، وما إلى ذلك من التخصصات التي تدرس في المدرسة(8).
وقد حرص واقفو المدارس ودور التعليم المختلفة في كثير من العواصم الإسلامية على توفير كافة احتياجات الطلبة الدارسين فيها، ومدرسيهم، وبالأخص المسكن الملائم لهم، وقد انتشرت هذه المساكن الداخلية في كثيرٍ من مدارس مصر والشام والعراق، وأصبحت مرفقاً من مرافقها المهمة والضرورية، ولم تكن تلك مقصورة على المدارس الإسلامية بل يشاركها في ذلك كل من المساجد والخوانق والربط، حيث كانت تلك الأماكن مراكز تعمل جنباً إلى جنب مع المدارس على رعاية شؤون الطلبة وإيوائهم.
وكان نظام المساكن الداخلية في المدارس الإسلامية من أبرز سمات التعليم الإسلامي، حيث ساعد هذا النظام على توفير الجو المناسب للطلبة والمدرسين، كي يتفرغوا لطلب العلم بعد أن تكفل مؤسسو المدارس بتوفير ما يلزم المقيمين بها من المأكل والملبس والمسكن بجانب ما يتقاضونه من مرتبات شهرية. كما أنها جعلت التعليم حقاً للجميع، خصوصاً الفقراء والغرباء(9).
وقد رصد ابن جبير مشاهداته لهذه المرافق في دمشق أثناء رحلته فيها في أواخر القرن السادس الهجري، وتحدث عن التسهيلات الكبيرة لطلبة العلم في هذه البلاد جميعاً، ومنها هذه المرافق، فقال: “ومرافق الغرباء بهذه البلدة أكثر من أن يأخذها الإحصاء ولا سيما لحفّاظ كتاب الله عزّ وجل والمنتمين للطلب… وهذه البلاد المشرقية كلها على هذا الرسم لكن الاحتفال بهذه البلدة أكثر والاتساع أوجد. فمن شاء الفلاح من نشأة مغربنا فليرحل إلى هذه البلاد ويتغرب في طلب العلم، فيجد الأمور المعينات كثيرة، فأولها فراغ البال من أمر المعيشة، وهو أكبر الأعوان وأهمها”(10).
وكان للوزير السلجوقي نظام الملك الطوسي المتوفى سنة 485هـ (1092م) مبادرة في إنشاء المدارس النظامية في عدد مدن العراق والمشرق الإسلامي، وكذلك في إجراء الأوقاف اللازمة للصرف على هذه المدارس، ومدرسيها والطلبة المنتظمين بها ما يصلح معاشهم وسكناهم ومتطلباتهم(11)، بل عدت هذه المدارس من وجهة نظر المؤرخين أولى المبادرات للمدارس النظامية وكانت أول مدرسة في بغداد عام 458 هجرية(12).
كما كان من آثار الملك الزنكي نور الدين محمود في مجال التعليم توسعة في إنشاء المدارس على مختلف المذاهب السنية، وتقدير الرواتب للصرف على المدرسين والطلاب والعاملين فيها، هذا إضافة إلى إنشاء العديد من مراكز الصوفية (الخوانق والربط والزوايا) وكذلك البيمارستانات في كثير من المدن، كما حرص على رصد الأوقاف السخية الدارّة لضمان استمرار تلك المؤسسات في القيام بوظائفها المنشئة من أجلها، هذا إلى جانب حرصه الشديد على إنشاء المكتبات المتخصصة داخل هذه المراكز لرجوع الروّاد إليها والإفادة منها كل حسب تخصصه، وقد ذكر ابن خلدون رحمه الله تعالى أنه كثرت الأوقاف على المدارس والزوايا والرباطات في دولة الترك (الأيوبيون والمماليك) (13). ويذهب بعض الباحثين إلى أن كل المؤسسات التعليمية التي أنشئت في ذلك الزمان كانت قائمة على الوقف. (14)
وما سبق من نماذج وقفية على دور العلم المختلفة عبر التاريخ الإسلامي يؤكد بشكل كبير الدور الذي أسهم به الوقف، ويمكن أن يسهم في النهضة العلمية والتعليمية وتشكل أداة هامة لنهضة الأمم.
(1) ابن قدامة، المغني، 8/185، وانظر: الطرابلسي، الإسعاف في أحكام الأوقاف، ص10-11.
(2) مجمع اللغة العربية، المعجم الوسيط، بيروت، دار إحياء التراث العربي، د.ط، د.ت، ج2/781.
(3) عبد الله، عبد الرحمن صالح، تاريخ التعليم في مكة المكرمة، دار الشروق، جدة، 1982م، ص49-50.
(4) النعيمي، عبد القادر بن محمد الدمشقي، الدارس في تاريخ المدارس، ت/ جعفر الحسيني، دمشق: مطبعة الترقي، 1948، ج 1، ص375.
(5) النعيمي، الدارس في تاريخ المدارس، ج2/106.
(6) أبو شامة، مختصر كتاب الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية، ص398-399. الدينار الصوري: نسبة إلى صور حيث كانت دار السك الصليبية بمدينة صور تنتج الجزء الاكبر من هذه الدنانير الصليبية.
(7) الزايدي، عبد الله، الأثر الثقافي للوقف في الحضارة الإسلامية، مجلة أوقاف، الأمانة العامة للأوقاف، الكويت، العدد 11، السنة السادسة، 2006م، ص94، نقلاً عن: تاريخ المدارس الوقفية في المدينة النبوية، طارق بن عبد الله الحجار.
(8) محمد أمين، الأوقاف والحياة الاجتماعية في مصر،648-923هــ/1250-1517م- دراسة تاريخية وثائقية، القاهرة، دار النهضة العربية، 1980م، ص 240.
(9) الزايدي، عبد الله، الأثر الثقافي للوقف على الحضارة الإسلامية، ص95.
(10) ابن جبير، أبو الحسين محمد بن أحمد الكناني الأندلسي، رحلة ابن جبير، بيروت، دار صادر، 1980م، ص258.
(11) انظر حول ذلك: السبكي، تاج الدين أبو نصر عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي، طبقات الشافعية الكبرى، ت: عبد الفتاح الحلو، ومحمد الطناحي، القاهرة، ط الحلبي 1966، ج4، ص313.
(12) ينظر حول هذا: أبا الخيل، سليمان، الوقف وأثره في تنمية موارد الجامعات، السعودية، جامعة الامام محمد بن سعود، 2004، ص45-46.وانظر: الساعاتي، يحيى، الوقف والمجتمع، نماذج وتطبيقات من التأريخ الإسلامي، كتاب الرياض، رقم، 39، مؤسسة اليمامة الصحفية، ص 20-22.
(13) ابن خلدون، عبد الرحمن بن محمد، العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر، دار الكتاب اللبناني، بيروت، ط2، 1961م، ج 1/778، 779.
(14) الساعاتي، يحيى، الوقف والمجتمع، ص 22