المعالم الاقتصادية في خطبة الوداع1
الدكتور/ محـــمــد عبد الحليم هـــيكـل
وقف النبي ﷺ منذ أربعة عشر قرنًــا يخطب في المسلمين خطبة جامعة شاملة، تعدُّ دستـورًا عاما للمسلمين، حيث تضمَّن هذه الخطبة جملة من الوصايا في شتى القضايا الاقتصادية، واشتملت الخطبة على حفظ الدين، والنفس، والمال، والعرض، والعقل، وتلك الكليات التي لا يستقر اقتصادي المجتمع قبل حفظها وصيانتا، كما اشتملت على بعض المعالم الاقتصادية المحددة والتي يعرضها المقال فيما يلي:
- حرمة المال: قال ﷺ:” فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ“. يُرسي هذا المبدأ قواعد الأمن، والأمان، والسلامة بين الخلق فلا يُعتدى على المال المعصوم بالسرقة، أو الغش، أو الضرر، أو الخداع، أو غير ذلك من الطرق المحرمة، التي من شأنها أن تُؤدِّي إلى ضياع المال؛ لأنه قُوَام الاقتصاد والحياة فإذا تم الاعتداء عليه هرب من مجال النشاط الاقتصادي وتعطَّلت الأعمال.
- صيانة المال وحفظه: قال ﷺ: ” ولا يحل لامريء مال أخيه إلا عن طيب نفس منه”. يؤكِّد هذا المبدأ أهمية صيانة المال وحفظه وضرورة، كما يقرر حرمة الأموال سواء كانت عامة أو خاصة، إلى جانب مبدأ تداول الأموال وهو الرضا والبذل عن طيب نفس؛ ولذلك آثار اقتصادية فذة تتجلى في تحقيق الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي للأفراد والمجتمعات.
- حماية الملكية الخاصة: قال ﷺ ” ولا يحل لامرئ مال أخيه إلا عن طيب نفس منه“. يتضمن هذا المبدأ تقرير الملكية الفردية وكفالة حفظها، واعتبارها دعامة من دعائم فلسفة الملكية في الاقتصاد الإسلامي، ويرتب الاقتصاد الإسلامي على تقرير الملكية الفردية أحكاما كثيرة أهمها: حماية الملكية الفردية من العبث والنزع بغير وجه حق، ولا ريب أن ذلك يشجِّع على الإنتاج والعمل على تنمية الملكيات والثروات وتحقيق التنمية الاقتصادية.
- تحريم الربــا: قال ﷺ:” وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ، وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُ رِبَانَا رِبَا عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ”. وهذا مبدأ فريد على مستوى التقرير والتنفيذ، فقد بدأ النبي ﷺ بتحريم الربا بالأقربين عليه؛ ليكون ذلك أوقع في النفس وأدعى لتلبية النداء، وليكون الناس على معرفة بأنه ﷺ أول المطبقين لأمر الله في ترك الربا، والذي يظهر بالتأمل أنه أساس الكوارث والأزمات الاقتصادية في العالم، فهو شكل من أشكال أكل أموال الناس بالباطل، وهو سبب في وجود الفقر والأزمات؛ إذ هو سبب تركُّز الثروات بأيدي القلة، وهو كذلك سبب للتضخم وارتفاع الأسعار.
- رد الأمانات: قال ﷺ: ” فمَنْ كان عندَهُ أَمانَةٌ فَلْيُؤَدِّها إلى مَنِ ائْتَمَنَهُ عليْها”. يشمل هذا المبدأ المؤسس لفكرة الأمانة والاستحفاظ جميع الأمانات الواجبة على الإنسان من حقوق الله، وحقوق العباد بعضهم على بعض كالأعيان، والديون الخاصة والعامة، ويوجب حفظ الودائع وردها، وتعهد مال الشريك، والموكِّل، والمضارب، ومال المولى عليه: من اليتيم وأهل الوقف ونحو ذلك، وكذلك يشمل وفاء الديون من أثمان المبيعات، وبدل القرض وصدُقات النساء وأجور المنافع ونحو ذلك(2). وتقرير الأمانة والاستحفاظ عماد رواج الأعمال وانتشارها، فهي الثقة التي تنشِّط الشركات وتشجع على الاستثمار، وذلك يعزز الاستقرار الاقتصادية والتنمية المستدامة.
- تحديد أنصبة الميراث: قال ﷺ:” إن الله قسم لكل وارث نصيبه من الميراث، فلا تجوز لوارث وصية، ولا تجوز وصية في أكثر من الثلث”. يعتبر مبدأ الميراث من أهم المبادئ الاقتصادية التي تسهم في إعادة توزيع الثروات وتداولها بين شريحة كبيرة في المجتمع، وإعادة التوزيع من أهم مميزات ومعالم المنهج الاقتصادي الإسلامي ونظريته في التوزيع، وهي التي من شأنها أن تسد الفجوات والفراغات التي عجزت مرحلة التوزيع عن سدها، وشيئا فشيئا يؤدي تقسيم المواريث إلى تداول الأموال بين أغلب أفراد المجتمع؛ ليحصل الجميع على شيء من الملكية يمكنه استثماره وتحقيق كفايته، بل المساهمة في الاستثمار.
- تقرير نفقات الأسرة: قال ﷺ:” فعليكم رزقهـنَّ وكسوتهـنَّ بالمعروف”. إن مبدأ النفقة الواجبة من أهم وسائل توزيع الدخول وتحقيق الكفاية، والمميز فيه ربطه بالمعروف وهو المستوى الاقتصادي السائد في مجتمع من المجتمعات حتى لو فرض أنه ارتفع وجبت النفقة بقدره، وفي هذا إشباع للحاجات الأساسية وصعود بالإنفاق إلى مستوى الكفاية.
- تنظيم السقاية والسدانة: قال ﷺ:” وإن مآثر الجاهلية موضوعة، غير السدانة، والسقاية“. يتضمن تقرير أعمال السدانة والسقاية وسائر الأعمال التي تتعلق برعاية بالبيت الحرام وحجاج بيت الله آثارًا اقتصاديةً، فهذه الأعمال الضخمة تتعلق بشكل كبير بعنصر الطلب على العمالة، فتوفر فرص عمل للعديد من العمال المنتشرين في الحرم المكي، كما تتعلق بجوانب تجارية واستثمارية تنشِّط الاقتصاد المحلي وتعزز الطلب على العمالة، وحين تعود مداخيل هؤلاء العمال إلى أوطانهم ينعكس ذلك على مستوى الدخل في هذه البلدان بقدر مستوى هذه التحويلات، وبقدر وصولها إلى فئات مختلفة.
فهذه بعض الجوانب الاقتصادية في هذه الخطبة البليغة، التي أرست أجلَّ المعالم الاقتصادية والاجتماعية للمجتمع الإسلامي.
(1) صحيح مسلم: 2/ 886 (1218) كتاب الحج، باب حجة النبي ﷺ، 2/943 (1297)، كتاب الحج، باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكبًا، وبيان قوله ﷺ “لتأخذوا مناسككم”. صحيح ابن خزيمة: 4/250 (2808) كتاب المناسك، باب صفة الخطبة يوم عرفة، سنن الدارمي: 1/301 (233)، المقدمة، باب الاقتداء بالعلماء، السنن الكبرى: للنسائي4/156 (3987، 3988) كتاب المناسك، الخطبة على الناقة بعرفة، وذكرها الجاحظ كاملة في البيان والتبيين: دار ومكتبة الهلال بيروت، 1423هـ/ 2003م، 2/22.
(2) السياسة الشرعية: لابن تيمية 19، 20، 45، 46، تفسير القرآن العظيم: لابن كثير 6/489، الجامع لأحكام القرآن: للقرطبي 7/244، 245.