الهجرة النبوية وتأسيس النظام الاقتصادي في الإسلام
بقلم الأستاذ الدكتور/ فياض عبد المنعم حسانين
كثير من الشواهد تدل على أن الهجرة النبوية هي أبرز حدث في تاريخ الإسلام؛ لهذا اختارها الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكبار الصحابة معه لتكون بداية التأريخ الإسلامي، وتبرز أهمية الهجرة النبوية في أنها بداية تأسيس دولة الإسلام في المدينة المنورة، بما تقتضيه عملية بناء دولة جديدة من القيام بمهام تنظيم شئون هذه الدولة، في الاقتصاد والسياسة والاجتماع والقانون والإدارة … إلخ.
لقد كانت الهجرة النبوية باختصار مشروع بناء دولة جديدة، متفردة عبر التاريخ الإنساني بامتداده منذ آدم عليه السلام إلى نهاية عمر الدنيا، إنها دولة تتأسس على وحي السماء يقوم على تنفيذه عمليًّا في واقع حياة الإنسان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الذي جاء بآخر رسالات السماء لهدى الأرض.
وهناك جوانب متعدِّدة يمكن أن نتأمل فيها بالدراسة والفحص والتحليل أبعاد الهجرة النبوية، وفي كل جانب منها دروسٌ وعبرٌ، ومواقفُ وحكمٌ، وآثار ونتائج، لكننا هنا سنقتصر على جانب واحد هو الجانب الاقتصادي في الهجرة النبوية، فيما يختصُّ بعلاقته بتأسيس نظام اقتصادي إسلامي، فإن الهجرة النبوية لم تكن هروبًا ولا نزوحًا ولا لجوءًا، بل كانت تخطيطا محكما مدروسا لبناء مجتمع جديد، وفق مشروع تنموي لإنشاء اقتصاد عمراني من نوع فريد، حيث الالتزام بالمبادئ والقيم والأخلاق والفاعلية الاقتصادية والوفاء بالتضامن والتكافل الاجتماعي، كانت مشروع بناء اقتصاد إيماني أخلاقي عمراني إنساني.
ماذا يعنى النظام الاقتصادي؟
يستعمل الأدب الاقتصادي مصطلح النظام الاقتصادي، وينتشر هذا المصطلح في الدراسات الاقتصادية المتخصصة، ويبرز بشكل خاص عند التعرُّض لتقييم الأداء الاقتصادي لدولة ما، فيقال: إن أداء النظام الاقتصادي للدولة كان أداء مُرضيًا، أو أنه على العكس من ذلك، لم تحقق مؤشرات أدائه الاقتصادي الأهداف المنشودة. ومن ثَمَّ يقولون: إن الأداء الاقتصادي لبلد ما هو قياس لمدى كفاءة النظام الاقتصادي، أو بتعبير آخر «قياس أثر النظام الاقتصادي»، باعتباره من أهم العوامل التي تؤثر في الأداء الاقتصادي للمجتمع.
ولتبسيط المسألة، فإن هناك دراسات اقتصادية متخصصة تقرِّر أن القوى المؤثرة في النتائج الاقتصادية لدولة ما هي عوامل ثلاثة:
- النظام الاقتصادي السائد في هذا المجتمع.
- السياسات الاقتصادية المتبعة في ذلك النظام الاقتصادي.
- العوامل البيئية، أي الموارد الطبيعية المتوفرة، ومستوى التطور الاقتصادي والثقافة والعادات السائدة وغيرها.
لكن دراسات عديدة تؤكِّد على أن أثر النظام الاقتصادي في معدلات الأداء الاقتصادي المحقَّقة -كما تبدو من خلال التحسُّن وارتفاع الرفاهية الاقتصادية على أفراد المجتمع- ترجع إلى طبيعة النظام الاقتصادي السائد في المجتمع، وذلك بدليل أن هناك دُولًا تتشابه في توفير الموارد الطبيعية وفي العديد من العوامل البيئية، لكن يحصُل الاختلاف من خلال الأداء حيث توجد فوارق ملحوظة في مستوى التقدُّم الاقتصادي الذي حقَّقته دولة دون الأخرى، والأمر يرجع إلى اختلاف طبيعة النظام الاقتصادي السائد بين هذه الدول، بمعنى: أن أثر النظام الاقتصادي على الأداء الاقتصادي أمر مشاهدٌ وملحوظٌ.
وتوجد تعريفات عديدة – عند الاقتصاديين – للنظام الاقتصادي، ومنها: أن النظام الاقتصادي هو مجموعة القواعد والآليات والترتيبيات المؤسَّساتية التي تصنع وتنفِّذ القرارات المتعلقة بالنشاط الاقتصادي: أي: قرارات الإنتاج والدخل والاستهلاك، أو قرارات تخصيص الموارد الاقتصادية النادرة لإشباع حاجات المجتمع.
ويرى بعض الاقتصاديين أن النظام الاقتصادي يشمل القواعد والمعتقدات والقيم الضابطة للسلوك الاقتصادي، إلى جانب المؤسسات والمنظمات والقوانين، وذلك مثل الاقتصادي الشهير (راير)، فيما يختصر البعض تعريف النظام الاقتصادي بأنه القواعد التي تحدد أهداف النظام الاقتصادي، وفلسفته، وقاعدة الملكية فيه، وحوافز النشاط الاقتصادي، وآلية تنسيق عملية تخصيص الموارد، بمعنى: أن قواعد النظام الاقتصادي تحدِّد أولويات الأهداف الاقتصادية، هل هي عدالة توزيع الدخل والثروة؟ أم المعدلات الأعلى من النمو الاقتصادي؟ وتحدد فلسفة النظام، هل هو نظام قائم على تعظيم الفردية أم على الجماعية؟ وما نوع الملكية فيه؟ هل هي الملكية الفردية أم الملكية الجماعية؟ وكيفية تنظيم التخصيص للموارد الاقتصادية، هل عن طريق قوى السوق الحرة؟ أم بقرارات إدارية؟.
ولا يغيب عنا أن مصطلح النظام الاقتصادي يشير إلى نظام له مكوناته. أي: عناصره، وأن هناك علاقة تناسق بين هذه المكونات، وأن هذه العلاقات تتميز بالاستقرار ولا تخضع للتغيير والتبديل، ولهذا فمن السهولة التعرف على طبيعة وخصائص أي نظام اقتصادي من واقع قواعده أو عناصره والعلاقة بينها، فلدينا مثلًا النظام الرأسمالي وهو نظام اقتصادي يقوم على فلسفة الحرية والفردية، وقاعدته في الملكية هي الملكية الفردية، وآلية تنسيق النشاط الاقتصادي هي آلية السوق الحرة، وحوافز النشاط الاقتصادي هي الربح المادي، وعلى النقيض من ذلك، فإن النظام الاقتصادي الاشتراكي هو نظام يستند إلى الفلسفة الجماعية، والملكية العامة، والتخطيط المركزي كآلية لتنسيق النشاط الاقتصادي، وحافز النشاط الاقتصادية فيه مادي كما هو في النظام الرأسمالي، وقد يكون معنويًّا أو أدبيًّا.
الهجرة النبوية وتأسيس النظام الاقتصادي الإسلامي:
مثَّلت الهجرة النبوية الحدث الهام لتأسيس نظام اقتصادي للدولة الإسلامية الوليدة، وبرزت لنا بكل وضوح قواعد هذا النظام، وآلياته، ومؤسساته، وأولويات أهدافه، والسياسات الاقتصادية المتبعة فيه، والتي تنطلق من قواعد هذا النظام الاقتصادي وهي:
1. تحقيق الكفاية لكل مسلم غاية النظام الاقتصادي النبوي في المدينة
قد بيَّنت لنا السنة النبوية وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة إلى المدينة أنه صلى الله عليه وسلم بادر مبكِّرًا إلى تأسيس قواعد النظام الاقتصادي وبناء مؤسساته وتوظيف آلياته لتنظيم الأوضاع الاقتصادية في المدينة المنورة، فوجدنا بيانًا واضحًا لأولوية أهداف النظام الاقتصادي في العهد النبوي في المدينة المنورة، في توفير الكفاية لكل فرد في الأمة، من خلال نظام المؤاخاة، فقد آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار، وبالتالي حقَّق كفاية العيش للمهاجرين، وعلينا أن نلاحظ أن هذا النظام التكافلي نظام مبتكرٌ غير مسبوق في التاريخ البشري، ولقد ضرب الأنصار أروع الأمثلة في تجسيد معاني هذا النظام والوصول به إلى أعلى درجات البذل. أي: تحقيق أعلى مستويات التضامن بتقديم المشاركة الكاملة في الأموال والإقامة للمهاجرين الوافدين، وهذه نقطة سوف نتناولها فيما بعد، وهي مسألة: فاعلية النظام الاقتصادي في تحقيق أهدافه، فالمعروف عن كل النظم الاقتصادية الوضعية أنه توجد لديها فجوة دائما بين الأهداف المنتقاة ومستوى تحقيق هذه الأهداف، بينما نجد أن الأنصار قد حقَّقوا في نظام المؤاخاة أعلى مستوى ممكن من الأداء.
2. إقامة السوق الإسلامية في المدينة المنورة
لقد بادر النبي صلى الله عليه وسلم في أيامه الأولى في المدينة المنورة إلى تأسيس آلية تنسيق النشاط الاقتصادي، وهي السوق، حيث قام سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحديد موضع للسوق قريبًا من المسجد النبوي، كما وضع قواعده وضوابطه فيما بينه من أحكام للسوق، ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل إنه صلى الله عليه وسلم أولى هذه السوق عناية كاملة، فكان يتفقَّدها بعد صلاة الفجر في مسجده، ويحذِّر من الغش في صفقاتها ويختبر جودة السلع بنفسه، بل قد عَيَّن أماكن لتجارة بعض أصناف السلع من الحبوب ومنتجات الألبان والملابس والجلود…إلخ، فازدهرت هذه السوق، ووجد فيها بعض المهاجرين كعبد الرحمن بن عوف، وعثمان بن عفان، وغيرهم فرصةً عظيمةً للتجارة، فربحوا وحقَّقوا ثروةً استغنوْا بها عن العيش في ظل نظام المؤاخاة، وقد أكَّدت كُتُب التاريخ أن سوق المدينة المنوَّرة في تلك الفترة أصبح من أبرز الأسواق الاقتصادية في الجزيرة العربية.
3. إنشاء مؤسسات اقتصادية ومالية جديدة: مؤسسة الزكاة، ومؤسسة بيت المال
بالإضافة إلى مؤسَّسة السوق، فقد ابتكر الإسلام وطبَّق ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، أهم مؤسستين عرفهما تاريخ الإسلام وهما: مؤسسة الزكاة، ومؤسسة بيت المال.
وتعد مؤسسة الزكاة هي المؤسَّسة التي تختصُّ بتحقيق الكفاية لكل فرد في الأمة بشكل دائم ومستقرٍّ، نعم كان نظام المؤاخاة فاعلًا في القضاء على الفقر في وقته، ولكنه كان نظامًا مؤقّتًا لعلاج مشكلة الفقر بشكل عاجل سريع ومؤقت، بينما الزكاة هي مؤسسة القضاء على الفقر في البلاد بشكل أبدي، وتتميز مؤسسة الزكاة بوضوح القواعد الضابطة لطبيعة مواردها وتحديد المستحقين لمصارفها، وسعر الزكاة المستحق على المال الخاضع للزكاة وشروط خضوعه للزكاة، بل وكذلك أسَّس توزيع الزكاة مكانًا وقدرًا، ومرونة هذا المقدار بتغير متطلبات وظروف الحياة، وأيضًا مرونة تحصيل الموارد، وذلك بجواز تعجيل تحصيلها عن سنوات مقبلة.
أما مؤسسة بيت المال، فقد أوجَدتْ أول مؤسسة في التاريخ الاقتصادي تحدِّد الفصل بين ملكية مال الحاكم وملكية أموال الدولة، في ضوابط محددة وأحكام واضحة، وقد كان الأمر قبل الإسلام في دول أخرى مثل فارس والروم أن الحاكم يملك كل شيء ويتصرف في كل شيء بمفرده دون مراجعة من أحد، بينما قام بيت مال المسلمين في المدينة المنورة على أسس وقواعد نُظُم تحصيل محدَّدة، إلى جانب قواعد متعددة للصرف والتوزيع، لدرجة أن المسلمين قد وضعوا نظريات علمية للمحاسبة تطبق على بيت مال المسلمين.
4. تعدد أنواع الملكية في النظام الاقتصادي النبوي
تعدَّدت نظم وأشكال الملكية في المجتمع الإسلامي منذ تقرير النظام الاقتصادي الإسلامي بدخول النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وساعد هذا التميز في تلبية الحوافز الفردية مع تقرير الملكية الفردية، وتغطية الالتزامات المختلفة للدولة من خلال تقرير ملكية الدولة، وتحقيق الضمان الاجتماعي بتقرير الملكية العامة، كل ذلك في تناسق وتكامل على تحقيق أهداف هذا النظام، وتشتمل نظم الملكية في الإسلام على ما يلي:
- الملكية الخاصة، فقد اشتمل هذا النظام على الملكية الخاصة، ووضع قواعد حمايتها ومنع الاعتداء عليها، ووسع دائرة كسبها في الإحياء والإقطاع…إلخ.
- كما قرَّر ما يُسمّى بملكية الدولة، ممثَّلة في ملكية بيت المال، وهي ملكية لها مصادرها وتخصَّص لإقامة المصالح العامة؛ من طرق، وسدود، وتُرَع وجسور، ورعاية اجتماعية قد لا تغطى بموارد الزكاة …إلخ.
- إلى جانب الملكية العامة، وهي الأموال العامة التي ينتفع بها كل الناس، مثل الترع والأنهار، والمراعي في الصحراء، والمعادن في باطن الأرض…
وقد حدد رسول الله صلى الله عليه وسلم قواعد كل نوع من الملكية، وضوابط إنشائه وحمايته والانتفاع به، مما زخرت به كتب السنة النبوية وكتب فقه المعاملات المالية.
5. الحوافز على النشاط الاقتصادي في النظام الاقتصادي النبوي
يُمثِّل مبدأ الحوافز قاعدة مهمة من قواعد النظام الاقتصادي بصفة عامة، وقد تميزت الحوافز على النشاط الاقتصادي في الإسلام بأنها حوافز متنوِّعة، فتجمع بين الحوافز المادية وبين الحوافز المعنوية والأدبية، وتجمع كذلك بين الحوافز الدنيوية والحوافز الأخروية، ومثال ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «مَا كَسَبَ الرَّجُلُ كَسْبًا أَطْيَبَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَمَا أَنْفَقَ الرَّجُلُ عَلَى نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَوَلَدِهِ وَخَادِمِهِ، فَهُوَ صَدَقَةٌ»(1)، فبين هذا الحديث الحافز الأخروى على نشاط اقتصادي خاص فالكسب الذي يكسبه الرجل من عمل يده من العمل الطيب الصالح، وإنفاق عائده على نفسه وولده صدقة منه، ومثله في الحث على الغني والنفقة «الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى»(2)، وهذا بيان للحافز المعنوي والأدبي في حث المسلمين على التسابُق في الفضل، أما الحافز المادي، فيتمثل في طيب الربح الحلال، وأنه أفضل الكسب، كما ورد في أحاديث كثيرة منها حديث ابن عمر وقد سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أَيُّ الْكَسْبِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «عَمَلُ الرَّجُلِ بِيَدِهِ، وَكُلُّ بَيْعٍ مَبْرُورٍ»(3).
ظهر مما سبق أن النظام الاقتصادي الإسلامي في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، تميز بجملة من القواعد الفريدة التي شكَّلت نظامًا اقتصاديًّا متميزًا، حقق أهدافه التي سعى إليها، بكل فاعلية واقتدار، باستعمال الآليات الاقتصادية العملية، وليس بانتظار معجزات خارقة من السماء، فانطلق المسلمون على هدى قواعد هذا النظام، فأسسوا حضارة اقتصادية متميزة، جمع فيها النظام الاقتصادي الإسلامي بين خيرات الدنيا والآخرة، في الوصول إلى الحياة الطيبة للأفراد، وإيجاد الاستقلال التام، وتحقيق الكفاية الذاتية للأمة في حاجاتها الاقتصادية، من خلال سياسات وآليات تنبثق من قواعد نظامها الاقتصادي الذي أسسه رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة.
(1) أخرجه ابن ماجه في سننه، (2/ 723) حديث رقم (2138) وقال البوصيري في مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه» (3/ 5): إسناد حسن.
(2) أخرجه البخاري (2/ 112) حديث ( 1427)، كتاب الزكاة، باب لا صقة إلا عن ظهر غني، ومسلم (2/ 717 ) حديث رقم (1033)، كتاب الزكاة باب بيان أن اليد العليا خير من اليد السفلى.
(3) أخرجه الطبراني في الأوسط، (2/ 332) حديث رقم «2140» وقال الهيثمي: رجاله ثقات، انظر: «مجمع الزوائد ومنبع الفوائد» (4/ 61).