الْمَنْطِقُ الاقتصادي الإِسْلَامِيّ لِتَحْرِيمِ الرِّبَا: عجز نظام الفائدة عن التخصيص الأمثل للموارد الاقتصادية
بقلم الأستاذ الدكتور/ عبد الرحمن أحمد يسري
تناولنا في المقال السابق الربا في البلدان الإسلامية من منطق الضرورة إلى الأمر الواقع، وأهم القواعد الفقهية التي يستند إليها تحريم الربا، ونستكمل في هذا المقال.
1. مبادئ تمهيدية
قبل معالجة المنطق الاقتصاديّ لتحريم الرِّبَا هناك بعض الملحوظات التي ينبغي لنا استعراضها على النحو الآتي:
أولًا: يجب التنبيه مقدَّمًا على أن جميع الحجج والمناقشات المتعلقة بالمنطق الاقتصاديّ لتحريم الرِّبَا لا ينبغي أن تؤخذ على أنها “السبب” (الأصل) في تحريم الرِّبَا في الشريعة؛ ذلك لأن “سبب” أصل تحريم الربا قائم على أن الله تعالى حرمه في كتابه الكريم، وأكدت السنة النبوية المطهرة على ذلك التحريم الإلهي؛ ولذلك فإن الحجج والمناقشات الاقتصاديّة التي نسطرها ليست إلا محاولة من جانبنا على ضوء المعارف السابقة والمعطيات والتجارب الحالية لفهم “الحكمة” في تحريم الرِّبَا في الإسلام وبيانها وتفسيرها.
ومن حيث البحث في “الحكمة” من تحريم الربا، فإنها، أي: الحكمة، لا ترتبط فقط بالأسباب والمبررات الاقتصاديّة البحتة، فقد تكون هناك أسباب اجتماعية أو إنسانية أو أخلاقية تفوقها أهمية، فضلًا عن ذلك علينا فهم أن بعض الحجج والنظريّات الاقتصاديّة التي نسطرها لبيان حكمة تحريم الربا قد تُقبل اليوم وتُرفض غدًا، أي قد تثبت صحتها الآن ويظهر خطؤها بعد ذلك، وعلى الرغم من ذلك فإن الرِّبَا سيظل محرَّما وسيبقى مرفوضًا في الإسلام؛ لأن الله عز وجل قد حرمه.
ثانيا: سوف نشير في مناقشاتنا إلى النظريات الاقتصادية الوضعية وننتقدها ونبين عجزها في الدفاع عن نظام الفائدة، وقد نستطيع في حالات الاستفادة من بعض النظريات الوضعية إذا ( وإذا فقط) كانت المُسَلَّمات والافتراضات الأساسية التي تقوم عليها متوافقة أو غير متعارضة مع قواعد الشريعة الإسلاميّة وأخلاقها وفلسفتها، لكن علينا تمييز المنطق الاقتصاديّ من وجهة نظر إسلاميّة عن المنطق الاقتصادي الوضعي؛ لأن ذلك الأخير يعتمد أساسًا على حجج مادية متعلقة بالواقع وبالمنافع الدنيوية دون أخذ الدين والأخلاق أو ما ينبغي في الاعتبار.
ثالثاً: حيث لا تزال النظريّة الاقتصاديّة الإسلاميّة في طَوْر التكوين فإن تركيزنا في عرض المنطق الاقتصادي الإسلاميّ لتحريم الرِّبَا يعتمد بدرجة كبيرة على فروض وحجج نظريّة في إطار القواعد والأخلاق والمقاصد الإسلاميّة، وعلى الرغم من أن التجارب الاقتصاديّة الإسلاميّة المعاصرة محدودة وقد لا تساعد على إجراء اختبارات تجريبيّة فإنه يمكننا الاستشهاد بها لدعم تلك الحجج النظريّة.
رابعاً: الفائدة ليست الشكل الوحيد للربا، لكنها الصورة الأكثر شيوعًا للربا في وقتنا الحاليّ كما كانت في الماضي؛ ومِنْ ثَمَّ فإن منهجنا في بيان المنطق الاقتصاديّ الإسلاميّ لتحريم الرِّبَا سيركِّز على الكشف عن عدم كفاءة نظام الفائدة في تحقيق الأهداف الاقتصاديّة، وعدم قدرته على تحقيق العدالة الاجتماعية والاقتصاديّة، مع عرض المزايا المتوقعة للتمويل الخالي من الفائدة.
2 – تخصيص الموارد المالية بين نظام الفائدة والنظام الإسلامي
تقوم هذه الحجة على فرضية أن نظام الفائدة بطبيعته غير قادر على تخصيص الموارد الماليّة المتاحة بين مؤسسات الأعمال (الشركات والمشروعات) والأنشطة في المجتمع وَفْق اعتبارات الكفاءة والإنتاجيّة والنمو، بينما يقدم النظام الإسلاميّ القائم على أساليب التمويل بالمشاركة في الربح والخسارة – من حيث المبدأ – بديلًا ذا كفاءة وفاعلية.
تدَّعي النظريّة الاقتصاديّة الوضعيّة أن آلية سعر الفائدة تضمن تخصيص الموارد الماليّة المتاحة في الاقتصاد بكفاءة، -ونظريًا – فإن هذا بفرض التوظُّف الكامل يضمن للمجتمع تحقيق أعلى ناتج قومي ممكن، وتقرر النظريّة الكينزية أن رجل الأعمال يقوم بتقدير الكفاءة الحدية للاستثمار لمشروعه(1)، ويقارنها بسعر الفائدة الذي يتحدد في السوق المالي بعرض النقود والطلب عليها، فإذا كانت الكفاءة الحدية للاستثمار أكبر من، أو تساوي سعر الفائدة فإن الاقتراض وتمويل المشروع الاستثماريّ سيكون مُجْدِيًا، وإلَّا فإن المشروع لا يمكن تنفيذه، ومِنْ ثَمَّ فإن الموارد الماليّة المتاحة للإقراض ستُخَصَّص بكفاءة، وفق هذه الآلية، بين المشروعات والأنشطة الاقتصاديّة.
وقد تبدو هذه الحجة منطقية بصفة عامة ونقبلها لأول وهلة، إلا أنه لا يمكن الدفاع عنها، لا نظريًّا أو تجريبيًّا!
فعلى فرض أن سعر الفائدة يقيس بدقة تكلفة الفرصة البديلة للنقود المتاحة للإقراض في سوق الائتمان، وأن المؤسسات المُقرضة (أساساً البنوك) تُطبق سعر فائدة موحَّد في جميع حالات الاقتراض، فإن النتيجة أن المشروعات الاستثماريّة ذات الكفاءة الحدية للاستثمار الأقل من سعر الفائدة سَتُسْتَبْعَد، بينما تتمكن كل المشروعات المستوفية للشرط (الكفاءة الحدية للاستثمار أكبر من أو تساوي سعر الفائدة) من الحصول على الأموال القابلة للإقراض دون أي تمييز بينها من قِبَل المقرضين (البنوك).
هذا ما تقرره النظرية الكينزية لتؤكد أن الموارد الماليّة المتاحة للإقراض سوف تُخَصَّص بكفاءة على النحو الأمثل والأفضل بين المشروعات والأنشطة الاقتصاديّة في المجتمع، وهذا غير صحيح؛ ذلك لأن التخصيص الأمثل للموارد التمويلية المتاحة يقتضي التمييز بين المشروعات التي ترغب في الاقتراض على أساس معدلات الأرباح المتوقعة من استثمارهم (الكفاءة الحدية للاستثمار المقدرة)، والنظرية الكينزية لم تفترض هذا التمييز.
ومن الناحية النظريّة فإن النظام الماليّ الإسلاميّ الخالي من الفائدة، بطبيعة قيامه على المشاركة في الربح والخسارة يؤكد على هذا التمييز، فالمؤسسات الماليّة الإسلاميّة التي يفترض أنها تهدف إلى تعظيم عوائدها الحلال المسموح بها في الشريعة الإسلاميّة سوف تعطي الأولوية في التمويل للمشروعات ذات الكفاءة الحدية للاستثمار الأعلى نسبيًّا (بافتراض أن هامش الخطر مأخوذ في الحسبان عند تقدير الكفاءة الحدية للاستثمار)، وهذا هو المطلوب لتحقيق التوزيع الأمثل للموارد المالية المتاحة، وقد لا نستطيع في الواقع العملي تفادي بعض الانحراف عن نمط التخصيص الأمثل للموارد الماليّة في الاقتصاد بسبب بعض العوامل الأخرى، مثل: إخفاق المشروعات في التقدير الدقيق للكفاءة الحدية للاستثمار، أو نقص خبرة مديري المؤسسات الماليّة في تقدير جدوى المشروعات الاستثمارية الطالبة للتمويل بالمشاركة(2)، لكننا في النهاية سنجد أن نظام التمويل الإسلامي بالمشاركة يقدم آلية تتفوق على نظام الفائدة بالنسبة لتخصيص الموارد الماليّة المتاحة بين الأنشطة والمشروعات المختلفة.
من الضروري، مع ذلك، أن نبين أن نظام التمويل الإسلامي لكي يحقق في الواقع العملي أهدافه النظرية المذكورة يحتاج إلى عقول وخبرات واعية بأساليبه، وخصائصها، وتطبيقها بكفاءة، ثُم تطويرها في إطار المقاصد الشرعية.
ومن حيث أساليب التمويل فإنها تنقسم بشكل عام إلى قسمين أحدهما: يقوم على تقديم التمويل المباشر لأصحاب المشروعات: كالمشاركة في رأس المال، والمضاربة، والمزارعة.
والآخر: يعتمد على تقديم تمويل غير مباشر عن طريق المرابحة، والبيع الآجل، والإجارة، والتصنيع، والسلم.
وجميع هذه الأساليب تتميز بالمرونة في التطبيق وتصلح للمشروعات الضخمة والصغيرة، لكن تطبيقها يحتاج إلى وعي خاص بخطر Risk التمويل الذي تحتويه وقدرة وخبرة المؤسسات على إدارة هذا الخطر Risk Management لتقليله إلى أدنى حد ممكن دون الوقوع في مخالفات شرعية.. ونجد أساليب التمويل المباشر- خاصة المضاربة- تحتوي على درجة عالية من الخطر، وهي أعلى عموما من أساليب التمويل غير المباشر.
هذا بينما يقوم نظام الفائدة أساساً على تقليل خطر التمويل إلى أدني حد ممكن من خلال أخذ الضمانات وتمييز العملاء على أساس ملاءتهم المالية (كما سيأتي فيما بعد).
هذا هو المنطق الاقتصادي الإسلامي لتحريم الربا من خلال: عجز نظام الفائدة عن التخصيص الأمثل للموارد الاقتصادية، وأما المنطق الاقتصادي الإسلامي لتحريم الربا من خلال: مظاهر فشل نظام الفائدة في تخصيص الموارد المالية، فهو موضوع المقال التالي.
(1) الكفاءة الحدية للاستثمار هي نسبة صافي العائد، المتوقع من استثمار معين، إلى حجم هذا الاستثمار، ويمكن على وجه التبسيط القول بأنها معدل العائد الصافي المتوقع من استثمار معين.
(2) لا شك في أن النظام الماليّ التقليديّ القائم على الفائدة َيَحْوِي مثل أوجه القصور هذه..