تَحْرِيمُ الرِّبَا (الفَائِدَة) فِي الإِسْلَام
بقلم الأستاذ الدكتور/ عبد الرحمن أحمد يسري
ماهية الربا ومراحل تحريمه
تعني كلمة “الرِّبَا” في اللغة العربية “الزيادة”(1)، أما في الفقه الإسلاميّ فإن مصطلح (الرِّبَا) له معنى خاصّ هو الزيادة غير المُبَرَّرة في اقتراض الأموال أو إقراضها، وقد تكون تلك الزيادة في صورة نقديّة أو عينيّة، سواء اشترطها المُقْرِض أو جرت العادة بردها، وفي هذه الحالة يُسَمَّى الرِّبَا بربا النسيئة أو ربا الديون، وهناك نوع آخر من الرِّبَا هو الزيادة غير المُبَرَّرَة التي قد يكسبها البائع أو المشتري عند تبادل سلع من نفس النوع بكميات مختلفة، ويُسَمَّى الرِّبَا في هذه الحالة ربا الفضل أو ربا البيوع (ربَا التجارة)؛ أي أن الرِّبَا وَفْقَ المنظور الإسلاميّ يغطي جميع الزيادات غير المبررة المرتبطة بتبادل غير متكافئ للنقود أو السلع أو الخدمات.
لقد مارس العرب قبل الإسلام الرِّبَا بأشكال عِدّة، لكن الصورة الأكثر شيوعًا تمثلت في الرِّبَا المرتبط بتأجيل سداد القرض بعد فترة سماح معينة، وهو ما يُسمَّى في الفقه بربا النسيئة، وإذا تكرر تأجيل سداد الديون فترة تلو الأخرى فسوف يتراكم الرِّبَا بمعدل مُركَّب، وهذا هو الربا المضاعف في حالة الديون .
هناك شكل آخر من صور ربا الديون شاعت ممارسته قبل الإسلام في التمويل التجاريّ، وقد أشار الإمام الرازيّ والإمام الجصَّاص إلى أن التجار في شبه الجزيرة العربية اعتادوا قبول القروض لتمويل تجارتهم مع اشتراط دفع الرِّبا دوريًّا للمُقْرِض كل ثلاثة أشهر أو ستة أشهر والوعد بِرَدِّ أصل المبلغ بعد عام أو أكثر حسب الاتفاق، وإذا أخفق المدين –لأيِّ سبب- في سداد أصل القرض في الوقت المحدد فإن الرِّبَا سيتراكم بمعدل مركب كما في الصورة السابقة.
وقد بيَّن لنا النبيّ –صلى الله عليه وسلم- أيضاً ربا البيوع (ربا التجارة)، وحدَّده مُحَذِّرًا الناس من أن المقايضة المثلية أو مبادلة السلع من نفس النوع ستؤدي إلى هذا النوع من الرِّبَا؛ ولذلك نصح النبيّ –صلى الله عليه وسلم- التجار باستخدام النقود لتبادل مثل هذه السلع تجنبًا للربا، وفي الأدبيات الإسلاميّة يُوصف هذا النوع من الرِّبَا بالرِّبَا الخفيّ أو الرِّبَا المُقَنَّع أو الرِّبَا الضمنيّ، وهذا على النقيض من ربا الديون الذي يُعَدّ ربا جليًّا أو ربا صريحًا ناشئا من الاقتراض.
جاء تحريم الرِّبَا على ثلاث مراحل وَفْقَ الترتيب الزمنيّ لنزول القرآن الكريم
- المرحلة الأولى: أشارت إليها الآية 39 من سورة الروم في قول الله تعالى: (وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ ۖ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ)، وفي هذا تنبيه للناس أن الله لن يبارك المكاسب الناتجة عن الرِّبَا، أمَّا الزكاة التي تُنْفَق ابتغاء وجهه فإنها ستكون أكثر بركة وأعظم أجرًا.
- المرحلة الثانية: أشارت إليها الآية 130 من سورة آل عمران في قول الله سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً)؛ وفي تلك الآية نهي قاطع للمؤمنين عن أَخْذ الرِّبَا بمعدلات مُرَكَّبة.
- المرحلة الثالثة: أشارت إليها الآيات (275-279) من سورة البقرة في قول الله تعالى: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ)، وقد أدانت هذه الآيات الرِّبَا بكل أشكاله وحرَّمته تحريمًا قاطعًا، كما دحضت حجة أولئك الذين لا يجدون فرقًا بين الربح من تجارة النقود (الرِّبَا) والربح من تجارة السلع (البيع)، وقد أثار هذه الشبهة تجار العرب وقت نزول القرآن كما أثارها كثيرون قبلهم وبعدهم حتى عصرنا الحاضر، لكن القرآن أشار إلى تمايز البيع عن الرِّبَا واختلاف بعضهما عن بعض؛ ولذلك قطع بتحريم الرِّبَا بغض النظر عن الأسباب الداعمة له.
وبهذا يتبين لنا أن تحريم القرآن الكريم للربا كان قاطعًا، أما السنة النبوية فقد شرحت أنواعه المختلفة وصوره المتباينة مُؤكِّدة تحريمه، وقد حذَّر النبيّ –صلى الله عليه وسلم- من الرِّبَا مرارًا وتكرارًا مشيرًا إلى أنه من أكبر الكبائر حتى إنه أشد إثمًا من الزنا.
هذه هي حقيقية الربا وأنواعه ومراحل تحريمه في الإسلام، وأما موقف الديانات الثلاثة “اليهودية، والمسيحية، والإسلام” من الربا، فسنتناوله في المقال التالي.
(1)في القرآن: “وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ” [الحج:5] اهتزت. أي: تحركت التربة بسبب المطر ، وربت. أي: زادت بخروج الزرع وارتفاعه فوقها.