تَحْرِيمُ الرِّبَا (الفَائِدَة) فِي اليهودية والمسيحية والإِسْلَام

بقلم الأستاذ الدكتور/ عبد الرحمن أحمد يسري

تناولنا في المقال السابق حقيقية الربا وأنواعه ومراحل تحريمه في الإسلام، ونكمل في هذا المقال.

الحجج الداعمة للربا في العصور الوسطى

لقد حُرِّم الرِّبَا قبل الإسلام في اليهوديّة والمسيحيّة، وعلى الرغم من ذلك فقد سجَّل القرآن أن اليهود لم يلتزموا بهذا التحريم ولا سيما مع غير اليهود؛ ذلك لأنهم لم يستطيعوا مقاومة إغراء المصالح المادية واعتبارات زيادة الثروة الناتجة عن المعاملات الرِّبَوِيَّة.
ولقد أُثير الخلاف حول تطابق الفائدة مع الرِّبَا عشرات المرات على مدار التاريخ، وقد أدان أرسطو (384-322 قبل الميلاد) الفائدة وعَدَّها مماثلة للربا، وكلمة الرِّبَا usury قد اشتقت من الكلمة اللاتينية usura التي تعني الربح الذي يتحقق للمُقْرِض من المقترض مباشرة مقابل القرض، فمثلاً يقرضه ألف درهم مقابل تعهده بردها كاملة ولكنه يسلمه تسعمائة فقط. فالربا هو استخدام النقود في معاملة ينتج عنها مباشرة ربح للمقرض.
أما كلمة الفائدة interest المشتقة من الكلمة اللاتينية interesse وتعني تعويض عن خسارة، واعتاد المقترضون دفعها للمقرضين عند سداد أصل القرض، ثم أصبحت العادة ملزمة مع الزمن. ولقد رأى أرسطو أن الرِّبَا والفائدة من حيث المبدأ متطابقين؛ فكان صريحًا في أنه ليس هناك مبرر لزيادة النقود التي تعد وسيطًا للتبادل بمجرد انتقالها من يد إلى أخرى سواء أخذ المقرض الربا عند الإقراض أو سُمِّي فائدة عند السداد، لأن كلاهما زيادة، وليس طبيعيًّا أن تلد النقود نقودًا أو تعيد إنتاج نفسها بهذه الطريقة؛ لأن “النقود عقيمة لا تَلِد” كما قال.
أما الكنيسة المسيحيّة في روما فقد ظَلَّت مُلتَزِمَة بتحريم الرِّبَا حتى القرن الثاني عشر تقريبًا، وعملت على معاقبة من يأخذها أو يعطيها بشدة، ثم بدأ الدكاترة المدرسيون Scholastic Doctors (مجموعة من رجال الدين المسيحيّ الكاثوليكيّ في روما) في القرن الثاني عشر ميلادي جدلًا حول الرِّبَا لاكتشاف أسباب حظره وتحريمه. ومضى الدكاترة المدرسيون في مناقشاتهم لمعرفة المبررات الاقتصاديّة للفائدة التي تُعَدّ الشكل الأكثر شيوعًا من أشكال الرِّبَا الذي مارسه صَرَّافو النقود في أوروبا في العصور الوسطى؛ ومِنْ ثَمَّ فقد أُثاروا مسألة تطابق الفائدة أو عدم تطابقها مع الرِّبَا، وانتهوا إلى اختلاف الفائدة عن الرِّبَا في حالات؛ ومن ثم فقد سمحوا بالتعامل بالفائدة ولم يعتبروها ربا في هذه الحالات.

  • أول هذه الحالات: أن الفائدة تعويض عن الخسارة التي يتعرض لها المقرض حين يتخلى عن نقوده التي يقرضها، فهو معرض لخطر الخسارة الكامنة لنقوده إن لم يستردها كلها أو جزءًا منها.
  • وثانيها: أن الفائدة تعد تعويضًا عن الخسارة التي تنجم عن تأخُّر السداد في الموعد المحدد.
  • وثالثها: أن المُقرض حين يتخلى عن نقوده يتعرض لخسارة الأرباح التي كان من الممكن له تحقيقها من هذه النقود إذا ما وظفها لصالحه في استخدامات بديلة.

وتعتبر الحجة الأولى للدكاترة المدرسيين ضعيفة تمامًا من وجهة النظر المسيحية، فلقد ورد في الإنجيل قول السيد المسيح عليه السلام: “إذا أقرضت أخاك فلا تنتظر منه ردًّا” وهذا هو أساس مبدأ القرض الحسن بمعناه الكامل الذي أقره الإسلام، وعلى أساس هذا المبدأ ظلت الكنيسة تحرم الفوائد أخذاً وعطاءً؛ لذلك كانت حجة التعرض للخسارة تمثل هدمًا لأصل المبدأ.
ومنطقيًّا، فرضنا أن المقرض مرتاب في المقترض وأنه قد يخسر ماله؟ فلِمَ يُقرضه؟ إما أنه متعاطف معه ويريد الإحسان إليه فيساعده، وقد أخذ في اعتباره احتمال الخسارة لرأسماله جزئيًّا أو كليًّا، أو لا يريد أن يساعده، فلم يقرضه أصلاً؟ سواء كان مسيحيًّا أو بلا دين، فالإقراض من الناحية الاقتصادية البحتة -عند الماديين- لن يجري في هذه الظروف؛ لذلك فالقول بأن يقرضه ويأخذ منه ربا وهو مسيحي بافتراض احتمالية الخسارة منطق غير مستقيم ومبرر سخيف للربا.
والحجة الثانية هي حجة التعرض للخسارة في حالة عدم رد القرض الحسن في موعده الآجل، وقد تعهد المقترض بذلك امتثالاً لطلب المقرض الذي قدر حاجته لاسترداد ماله في يوم محدد. وتقوم هذه الحجة على أن المقرض لا يرجو أصلاً من المقترض تأجيل سداد أصل القرض مقابل فائدة (وهو ربا النسيئة) ويريد فقط استرداد ماله لحاجته إليه، فهو يتعرض للخسارة بسبب عدم استرجاع القرض في وقته، وبالتالي له حق في أخذ تعويض مقابل الخسارة التي يتعرض لها.
وفي الشريعة الإسلامية نجد الرد الأخلاقي على هذه الحجة، فالمدين بقرض (حسن) اقترضه ولم يستطع رده في وقته إما أن يكون معسراً فله عذره، أو يكون متيسراً قادرًا على السداد ولكنه يماطل. وقد أوجبت الشريعة الإسلامية ضرورة قبول عذر المدين المعسر بنص الآية القرآنية {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (البقرة: 280) ، أما إن كان المدين متيسرًا فتحكمه القاعدة التي قررها رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في حديثه “لي الواجد يحل عرضه وعقوبته”. قال ابن المبارك: يحل عرضه: يغلظ له، وعقوبته: يحبس له»(1).
وأجاز الفقهاء شكايته إلى الحاكم وللحاكم حبسه والتنفيذ عليه وفقًا لهذا الحديث.
أما الحجة الثالثة فتقوم على أساس افتراض أو ادِّعاء وجود فرصة بديلة لدى المقرض يستخدم بها ماله ويحقق من وراءه عائدًا، فإذا أقرض هذا المال فهو يضحى بهذه الفرصة فله حق في أن يأخذ مقابلاً ماديًّا مقابل هذه التضحية. وهذه هي حجة الفرصة البديلة وهي حجة ذكية عند الماديين وهي التي اعتمد عليها أصحاب النظريات الاقتصادية الذين دافعوا عن الفائدة فيما بعد، ولكنها تفتقر إلى الجانب الديني أو الأخلاقي.
ومن الوجهة الاقتصادية والشرعية الإسلامية هناك احتمالان: أحدهما: إما ألا يكون هناك بديل واقعي وسيبقى المال عاطلاً، والآخر: أن يكون هناك بديل فعلاً فيه توقعات الربحية. وفي الحالة الأولى يبطل ادعاء فرصة بديلة، ويصبح العائد وهميًّا ولا يبرر الربا. أما في الحالة الثانية فلماذا لا يشارك صاحب المال الشخص الذي يريد أن يقترض ويقاسمه في الربح (أو الخسارة)، والربح عادة أكبر مما يتصور من الفائدة؟
لقد أكَّد بعض علماء الفكر الاقتصاديّ أن الكنيسة الأوروبية في العصور الوسطى قد استغلت مناقشات قضية تطابق أو عدم تطابق الفائدة والرِّبَا لتحقيق مصالحها الخاصة، أي أنَّ الترحيب الرسميّ للكنيسة بالاجتهادات التي فصلت بين الرِّبَا والفائدة والتي استثنت الفائدة من الرِّبَا في حالات، كان بسبب تضخم ثروتها في أواخر العصور الوسطى ورغبتها في القيام بالإقراض رغبةً في الحصول على دخل جارٍ يتناسب مع ثرائها والمحافظة على وضعها المميز ومنع دخول المنافسين، وذلك على العكس من بداية العصور الوسطى حينما كانت الكنيسة فقيرة تقوم بالاقتراض؛ فكانت الفائدة تعني أعباء مادية إضافية لا تستطيع تحملها؛ لذلك رفضت الكنيسة الإقراض بفائدة رفضًا قاطعًا في بداية العصور الوسطى لإبقاء تكلفة الاقتراض منخفضة(2).
وقد كشف جوزيف شومبيتر J. Schumpeter عن أن استثناءات الدكاترة المدرسيين للفائدة من المعاملات الرِّبَوِيَّة قد فتحت الباب أمام مزيد من الاستثناءات، وبحلول القرن السادس عشر فُصِلت الفائدة عن الرِّبَا باستثناء الحالات التي تُفرض فيها الفائدة بمعدلات باهظة، وقد اعتُمِد هذا المفهوم في القوانين الغربيّة منذ ذلك الحين؛ فقد عرَّفت الموسوعة البريطانية Encyclopedia Britannica الرِّبَا في القانون الحديث بأنه “فرض سعر فائدة غير قانوني لإقراض النقود”، وصار هناك اتفاق في أوروبا والعالم الغربي بأن السعر القانوني لا يزيد عن 4% في السنة، كما عرَّفت موسوعة أمريكانا Encyclopedia Americana الرِّبَا في الاستخدام الحديث بأنه “رسوم باهظة exorbitant على استخدام النقود أو رسم يتجاوز المعدل القانوني للفائدة”، وتُعَرَّف الفائدة في الاستخدام الاقتصادي والمالي الحديث بأنها: “سعر أو تكلفة استخدام النقود”.
هذا هو موقف الديانات الثلاث: “اليهودية، والمسيحية، والإسلام” من الربا، وأما الربا في البلدان الإسلامية من منطق الضرورة إلى الأمر الواقع، وأهم القواعد الفقهية التي يستند إليها تحريم الربا، فنتناوله في المقال التالي.

(1) أخرجه أبو داود، كتاب الأقضية، باب في الحبس في الدين وغيره، (5/ 473) حديث رقم «3628».
(2) يُنْظر هذا الرأي تفصيلًا في: Raymond De Roover, The Scholastics, Usury and Foreign Exchange, Business History Review, Vol. 41, 1967, P. 266

Comments are disabled.