الْمَنْطِقُ الاقتصادي الإِسْلَامِيّ لِتَحْرِيمِ الربا خلال: أساليب التمويل بين الاقتصاد الإسلامي والوضعي
بقلم الأستاذ الدكتور/ عبد الرحمن أحمد يسري
تناولنا في المقال السابق المنطق الاقتصادي الإسلامي لتحريم الربا من خلال: توزيع الدخل والثروة بين الاقتصاد الإسلامي والاقتصاد الوضعي، ونكمل في هذا المقال.
أساليب التمويل بين الاقتصاد الإسلامي والوضعي:
يشجع نظام الفائدة أصحاب الفوائض الماليّة على اتباع سلوك سلبيّ غير فعال حيث يتيح لهم فرصة التغلب على مخاطر استثمار أموالهم مقابل حصولهم على عائد مضمون دون جهد. أما أساليب التمويل الإسلاميّ القائمة على المشاركة في الربح والخسارة فإن جوهرها هو تقاسم المخاطر والشراكة في مسئولية استخدام الأموال.
إن نظام الفائدة يُعْفي أصحاب رؤوس الأموال من تحمل المسئوليات ومواجهة المخاطر المرتبطة بتمويل الأعمال والأنشطة الاستثماريّة الممولة من أموالهم. ويزعم أنصار هذا النظام أن من أهم مزاياه هو حصول أصحاب رؤوس الأموال بشكل دوريّ على دخول معروفة ومضمونة خالية من المخاطر. كما يدعي أيضًا المدافعون عن نظام الفائدة أن المنظمين ورجال الأعمال يقبلون شروط الإقراض عن طيب خاطر، وأنهم يفضلون عدم تدخل من يمولهم في أعمالهم؛ وأنهم يقومون بتضمين الفوائد المدفوعة في تكاليف نشاطهم الإنتاجي، ومن ثم فهي تُحَمَّل على المشترين عن طريق المبيعات، ويكون صافي الربح حين تحققه ملكًا لهم بالكامل.
على الرغم من هذه المنافع الظاهرة لكل من أصحاب الأموال من جهة وأصحاب الأعمال من جهة أخرى، فإن هذا النظام يُنْظَر إليه بشكل مختلف تمامًا بناء على الأسس الأخلاقية والاجتماعية، وكذلك الاقتصادية. فمن جهة يروِّج هذا النظام لسلوك سلبيّ غير أخلاقي حيث يستسيغ أصحاب رؤوس الأموال التملص من أية مسؤولية بالنسبة لاستخدام أموالهم في القطاع الإنتاجيّ، فخسارة المقترضين أو ربحهم ليس من شأنهم. بل لا بد أن يسترد أصحاب الأموال أموالهم كاملة بالإضافة إلى فوائدها، هذا ما تضمنه البنوك الربوية، حتى لو كان معنى هذا تصفية وهلاك المشروعات المقترضة، وبطالة من يعملون فيها وهو ما فيه خسارة اقتصادية على المستوى الكلي للمجتمع.
ومن ناحية أخرى فإن رواد الأعمال الذين يُمَوَّلون بالقروض ويدفعون فوائد عليها لا يقومون بذلك بأريحية سواء في حالة الرواج عندما تكون أسعار الفائدة مرتفعة نسبيًّا والمخاطر غير المحسوبة أكبر من المعتاد، أو في حالة الركود عندما تكون أسعار الفائدة منخفضة نسبيًّا، لكن توقعات الخسارة أكبر من المعتاد. وإذا لم تتحقق أرباح فعلية فإن رواد الأعمال والمنظمين هم وحدهم الذين يواجهون نتائج أعمالهم وقد يتعرضون للإفلاس.
ومن الناحية الاقتصادية فإن التمادي في الاقتراض مقابل الفائدة في ظروف الرواج كثيرًا ما يؤدي إلى أزمات عدم قدرة على السداد. لكن لا أصحاب رؤوس الأموال يبالون بذلك ولا البنوك، إلا حينما تزداد الديون المعدومة وتصبح معرضة هي نفسها للإغلاق.
إن نظام الفائدة بما فيه من سلبية بسبب عدم المشاركة في المخاطرة بين من يملكون ومن يستخدمون الأموال يعد من الناحية الأخلاقية نظامًا يقبل أو يشجع على المقامرة Gambling بدلًا من تحمل المخاطر Risk بناء على الحسابات العقلانية الرشيدة. ولذلك فإنه في ظل نظام الفائدة نجد أن المشروعات تضع حداً معينًا للتمويل بالديون Leverage، فلا تعتمد على هذه فوق حد معين، وإلا تعرضت للهلاك والتصفية في بعض حالات.
إن نمو التمويل القائم على الفائدة في أي مجتمع سواء عن طريق النظام المصرفيّ أو عن طريق بيع السندات في أسواق رأس المال سينعكس مباشرة على نمو السلوك السلبيّ بين أفراد المجتمع. هؤلاء الأفراد الذين لديهم الاستعداد والرغبة لتلقي فوائد مضمونة تُدْفَع لهم دوريًّا من دون تحمل أية مخاطر أو مسئوليات لا يمكن اعتبارهم أعضاء نشطين في المجتمع. حقيقة ليس لهم دور يلعبونه في النمو أو التنمية الاقتصادية، وكل ما لديهم هو أموال يحصلون منها على دخول مضمونة، ويطلق عليهم في الأدبيات الاقتصادية الوضعيّة مصطلح “الشركاء النائمون”، ولا شك أن النمو المتزايد لهؤلاء الشركاء النائمين في أي مجتمع يعرض النمو الاقتصاديّ للخطر في الأجل الطويل.
غنيٌّ عن القول إن الشراكة المبنية على آلية المشاركة في الربح والخسارة ستساعد على التخلص من السلوك السلبيّ للأفراد، فصِيَغ التمويل الإسلاميّة تدعم وتعزز أخلاقيات ودوافع تحمل المسؤولية وأَخْذ المخاطر الضرورية للنمو الاقتصاديّ ، أي أن المنطق الاقتصاديّ للتمويل الخالي من الفائدة واضح بجلاء هنا؛ لأن مُقَدِّمي التمويل ومستخدميّه سيتشاركون جميع المسئوليات ويتحملون معًا مخاطر الأنشطة الاستثماريّة من الألف إلى الياء، معنى هذا أن جميع الشركاء ينبغي لهم أن يكونوا “شركاء نَشِطين” في النظام الإسلاميّ، فالأخلاق الإسلاميّة تحفز الناس على تبادل الآراء والنصائح والمشاركة الإيجابية في الإنتاج، ولا رَيْب في أن هذه الأخلاقيات ضرورية للسلوك الاقتصاديّ الرشيد، وفي الوقت نفسه ستدعم أخلاقيات المشاركة روح الأخوَّة والتعاون بين أعضاء المجتمع الإسلاميّ وأفراده.
هذا هو المنطق الاقتصادي الإسلامي لتحريم الربا من خلال: أساليب التمويل بين الاقتصاد الإسلامي والوضعي، وأما المنطق الاقتصادي الإسلامي لتحريم الربا من خلال: تعبئة المدخرات بين النظام الاقتصادي الإسلامي والوضعي، فهو موضوع المقال التالي.
(1) المال أمانة لدى مالكه ويسأل يوم القيامة كما في الحديث النبوي الصحيح عن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه.