الْمَنْطِقُ الاقتصادي الإِسْلَامِيّ لِتَحْرِيمِ الرِّبَا خلال:
7.توالي الأزمات بين النظام الاقتصادي الإسلامي والنظام الوضعي

بقلم الأستاذ الدكتور/ عبد الرحمن أحمد يسري

تناولنا في المقال السابق المنطق الاقتصادي الإسلامي لتحريم الربا من خلال: تعبئة المدخرات بين النظام الاقتصادي الإسلامي والوضعي، ونكمل في هذا المقال.
تُعَدُّ القروض بفائدة والتجارة المتزايدة في الديون بالأسواق الماليّة من العوامل الرئيسة وراء الأزمات المالية التي يتكرر حدوثها على نحو دوري، وحيث لا تسمح الشريعة الإسلاميّة بمثل هذه الممارسات فإن تطبيقها سوف يحمي العالم من هذه الأزمات الماليّة الدوريّة.
لقد طُرحت كثير من الحجج والمناقشات مرارًا وتكرارًا منذ (1929-1933م) حول الدور الذي يلعبه العامل النقديّ في الأزمات الماليّة. والاجتهادات في الفكر الاقتصادي حول السياسات والتدابير المناسبة التي تنظم قروض البنوك، وبيع الديون في الأسواق الماليّة. من أجل تجنب الأزمات الماليّة المتكررة المعروفة بين الاقتصاديين الليبراليين الذين يدافعون عن نظام الفائدة ويعتبرونه أساسياً للمعاملات الماليّة. وعلى الرغم من الاجتهادات في هذا الميدان فإن الأزمات المالية تكررت واشتدت في بعض السنوات وعصفت بالنشاط الاقتصادي.
ومن المنظور الإسلاميّ فإنه لا يمكننا تفسير وتبرير الأزمات الماليّة الدوريّة في الاقتصادات الليبراليّة فقط بالإخفاق في اتخاذ التدابير التنظيمية الماليّة المناسبة، أو بتبني سياسات نقديّة غير متقنة أو بها ثغرات من قبل البنوك المركزية، بل نرى أن هذه الأزمات الماليّة المتكررة هي في الواقع متأصلة ومتجذرة وطبيعة جوهرية في النظام الماليّ القائم على الفائدة(1).
قد تدعم حجج بعض الاقتصاديّين الغربيّين ومناقشاتهم الموقف الإسلاميّ الذي يعارض التمويل القائم على الفائدة حتى إن كان ذلك بطريقة غير مباشرة، وفي هذا السياق يمكننا أن نذكر أولًا نظريّة هوتري Hawtrey النقديّة للدورة التجاريّة(2) التي تؤكد أن معظم تمويل الأعمال يعتمد على الاقتراض من البنوك؛ ولذلك فمن الطبيعيّ أن يلعب النظام المصرفيّ دورًا جادًّا في تحديد استقرار الاقتصاد الكليّ من خلال التوسع والانكماش في الائتمان المصرفيّ.
ووفقًا لهوتري فإنه عند التوسُّع في الإنتاج (ظروف الرواج) تتوسع البنوك في الائتمان عن طريق شراء الأوراق الماليّة أو خفض سعر الفائدة؛ لأن رجال الأعمال الذين يجذبهم انخفاض سعر الفائدة يصبحوا راغبين في تمويل إضافي والتوسع في الإنتاج؛ ومِنْ ثَمَّ فإن العمالة والإنفاق والدخل النقديّ، كل ذلك سوف يزيد. وبهذه الطريقة سيؤدي التوسع في الائتمان المصرفيّ إلى تحسن ملحوظ في دورة الأعمال، وتقوم البنوك التي تدفعها المنافسة مع بعضها البعض بالتوسع في إقراض رجال الأعمال فيستمر الدخل النقديّ في الارتفاع.
وفي مرحلة لاحقة تدرك البنوك أنها ذهبت بعيدًا جدًّا في مسألة تسليف رجال الأعمال وإقراضهم حتى إن بعض البنوك ستجد أن نسبة احتياطاتها النقديّة قد تدنت إلى مستوى خَطِر؛ ومِنْ ثَمَّ تتخذ البنوك على الفور إجراءات لتقييد الائتمان واسترداد السُلف والقروض المصرفيّة. ومع تقلص حجم الائتمان الجديد من البنوك ومطالبتها بسداد الديون في أوقاتها يواجه رجال الأعمال موقفًا جديداً. فهم يعجزون عن تمويل رأس المال العامل بسعر فائدة منخفض من البنوك، ومن ثم يعملون على تقليل نشاطهم وتقليص الإنتاج. وعلى المستوى الكلى يترتب على هذا الاتجاه انخفاض حجم التوظيف والإنفاق والدخل النقديّ. وهكذا يؤدي انكماش الائتمان المصرفيّ إلى الكساد وتبدأ مرحلة تدهور ملحوظة لدورة الأعمال. والخلاصة أن دورة الأعمال (الدورة التجاريّة) في نظريّة هوتري تُفَسَّر بالتغيرات في حجم الائتمان المصرفيّ.
لا شك في أن نظريّة هوتري قد لفتت الانتباه لفترة طويلة إلى الدور الخطير للبنوك في هذا النظام عن طريق زيادة أو تقليص المعروض النقديّ، وجديرٌ بالذكر أن هذا الدور النقديّ لم يتغير من حيث المبدأ لكنه اتخذ أبعادًا أكبر عن طريق الابتكارات الجديدة التي حدثت في السوق الماليّ المعاصر، كما أثبت ذلك دورة الأعمال في 2008م والتي ليست عنا ببعيدة.
لقد أظهرت نظريّة هوتري أن التوسع في الائتمان المصرفي هو العامل الرئيس وراء الدورة التجاريّة، فالبنوك التجاريّة في قيامها بالنشاط الإقراضي والتوسع فيه محفوزة في المقام الأول بعاملين: أحدهما: رغبتها في تعظيم صافي أرباحها الناتجة عن الفوائد، والآخر: المنافسة في السوق المصرفي (المنافسة بين البنوك لحيازة نصيب أكبر من السوق).
أما العامل الأول فلن يعمل ضمن نظام إسلاميّ؛ لأن الفائدة غير مسموح بها (حيث هي من أبرز صور الرِّبَا المحرَّم). أما العامل الثاني الخاص بالمنافسة فالسؤال هو: إلى أي مدى يمكن الدفاع عن المنافسة بين البنوك؟ من الممكن الادعاء بأن للمنافسة تأثيرًا مرغوبًا على الكفاءة المصرفيّة، التي نجد أنها عندما تتحسن تنعكس بشكل إيجابي على أنشطة التمويل والتي بدورها تنعكس على الاقتصاد كله. ولنفترض بغرض المناقشة ولأجل التوصل إلى الحقيقة أن المنافسة بين البنوك تلعب هذا الدور، لكن سؤالنا الآن: كيف يمكن مقارنة هذا التأثير المرغوب فيه للمنافسة في الأجل القصير بنتائجه النهائية المدمرة حين تبدأ دورة الكساد وتحدث الأزمة؟ أليس صحيحًا أن المنافسة بين البنوك التي تنعكس في التمويل السهل بالفوائد ستدفع الاقتصاد في نهاية المطاف إلى الركود حيث ترتفع البطالة وينخفض الناتج القوميّ الحقيقيّ؟ والخلاصة أن النظام الماليّ القائم على الفائدة غير قادر بطبيعته على المحافظة على الاستقرار الاقتصاديّ.
كشف مينسكي Hyman Minsky(3) نظريّاً عن أن الهشاشة الماليّة financial fragility سمة وخصيصة لأي اقتصاد رأسماليّ، وحدَّد ثلاثة أنواع من التمويل وَفْق مستوى المخاطرة: تمويل التحوط Hedge Finance ( تمويل فيه تحوط من مخاطر الاستخدام الخطأ للقروض أو عدم الرد)، وتمويل المضاربة Speculative Finance ( تمويل تقل فيه درجة التحوط ، أي به مجازفة)، وتمويل بونزي Finance Ponzi، ( وهو تمويل غير رشيد وقد لا يسترد) والنوع الأخير (التمويل البونزي)(4) هو أخطرها من حيث يؤدي إلى أكبر قدر من الهشاشة، وقد أظهر تحليله أن الهشاشة المرتفعة هي التي تؤدي إلى زيادة مخاطر انفجار أزمة ماليّة.
وللشرح دعنا نبدأ من مرحلة ما بعد الركود في دورة الأعمال، حيث نجد أن الشركات والمشروعات تتعافى وتختار تمويل التحوط فقط بوصفه التمويل الأكثر أمانًا، ومع سيادة مرحلة الانتعاش ينمو الاقتصاد وترتفع الأرباح المتوقعة وتصبح مؤسسات الأعمال متفائلة ومستعدة لتحمل مزيد من المخاطر، فتشرع في تمويل المضاربة، وبه مجازفة بمعنى أن هذه المؤسسات لا تتوقع أن تغطي أرباحها طوال الوقت جميع مدفوعات الفوائد التي تطالبها بها البنوك، لكنها تتوقع أن تزداد أرباحها في نهاية المطاف فتُسَدَّد ديونها من دون متاعب كثيرة.
ولا شك أن زيادة القروض تؤدي إلى مزيد من الاستثمار ونمو الاقتصاد بشكل أكبر. لكن الهشاشة المالية العالية في النظام تبدأ عندما يكون المقرضون (البنوك أساساً) مستعدين لإقراض الشركات ومؤسسات الأعمال من دون وجود ضمانات كافية للنجاح. وفي هذه المرحلة تقود ظروف الازدهار المُقرضين إلى الاعتقاد بأنهم سيستردون كل الأموال التي يقرضونها، وهذا ما يسميه مينسكي تمويل بونزي الذي يعني دخول الائتمان المصرفي في دائرة الخَطِر المتزايد.
عندئذ لن يكون الأمر سوى مسألة وقت قبل أن تتخلف بعض مؤسسات الأعمال الكبرى فعلًا عن السداد، وبمجرد حدوث ذلك يشعر المقرضون بالانزعاج وتنقلب سياسة إقراضهم السهلة إلى العكس، وحينئذ يحل التشاؤم محل التفاؤل وتزداد الأمور سوءًا بتخلف مزيد من الشركات عن السداد. وتستمر سياسة الإقراض الصعبة بل تشتد ويتدنى الائتمان الجديد ويجف شيئًا فشيئًا؛ ومِنْ ثَمَّ تبدأ أزمة حقيقيّة؛ لأنه ليس هناك أموال جديدة تدخل في النشاط الاقتصادي بحيث تسمح بإعادة تمويل مؤسسات الأعمال، ووفقًا لمينسكي فإن مؤسسات الأعمال في أثناء فترة الركود ستتجه إلى التحوط مرة أخرى.
إن هذا التحليل لمينسكي يعكس مرة أخرى عدم قدرة النظام الماليّ القائم على الفائدة على الحفاظ على التوازن بين عرض النقود والطلب عليها، فالمحرك الرئيس للتمويل المصرفي هو رغبة البنوك في كسب مزيد من الأموال الإضافية (الفوائد) على قروضهم ولا يهتمون بأي شيء آخر.
ويلاحظ أن كل بنك يتصرف بشكل فرديّ بناء على تقديره الخاص للمخاطر التي ينطوي عليها التمويل. من ناحية أخرى فإن النظام المصرفي القائم على الفوائد لا يوفر أي ضمانات لتحقيق التوازن بعد تجاوز مرحلة تمويل التحوط، وأن ما يسميه مينسكي الهشاشة يعبر عن عدم القدرة على حساب المخاطر التي ينطوي عليها تمويل المضاربة الذي ينطوي على مجازفة مالية.
وفي الواقع العملي نجد أن البنوك تبني توقعاتها بقدرة مؤسسات الأعمال على سداد ديونها على التفاؤل فقط. وحقيقة الأمر أنه لا يمكن التحدث عن تدابير دقيقة أو عقلانية عند التوسع في تمويل المجازفة، أما في حالة التمويل البونزي فإن الرشد والعقلانية تكاد تكون مفقودة تقريبًا، بل هو نوع من التمويل المغامر المبنيّ على سلوك المقامرة؛ لذلك فمن المتوقع إخفاق هذا النظام في أي وقت. وكل هذا ينشأ، مرة أخرى، بسبب أن البنوك وغيرها من المقرضين يسعون للحصول على أرباح ومكاسب من القروض النقديّة من دون الاهتمام بالنتيجة النهائية لسلوكهم على الاقتصاد والمجتمع، فشهوتهم للمكاسب والأرباح من الفوائد تصبح عنيفة، خاصة في مرحلة التمويل البونزي، إلى الحد الذي يجعلهم عميانًا تقريبًا.
إن نظريّة مينسكي عن الهشاشة الماليّة تسلط الضوء على سمة جوهرية في أي اقتصاد رأسماليّ أو ليبراليّ، كما أنها تساعد على تحليل الأزمة الماليّة العالمية العنيفة التي حدثت في 2007-2008. ويمكن القول إن الهشاشة الماليّة قد زادت تدريجيًّا في النصف الأخير من تسعينيّات القرن العشرين في الولايات المتحدة الأمريكية، والاقتصادات الغربيّة الأخرى بسبب توسع البنوك في الائتمان المصرفيّ لمقترضين ذوي ملاءة ائتمانية منخفضة. وبالطبع فإن الدافع الرئيس للبنوك التقليديّة الذي يحفز نشاطها الإقراضي هو رغبتها في تعظيم صافي أرباح الفوائد (الفرق بين الفوائد الدائنة والفوائد المدينة) وذلك في إطار المنافسة مع بعضها البعض. وهذه الدوافع غير مقبولة من وجهة النظر الإسلاميّة؛ ذلك لأن مكاسب الفائدة (قليلة كانت أم كثيرة) ممنوعة في التمويل الإسلاميّ بناء على تحريم الرِّبَا، كما أنه لا يمكن الدفاع عن المنافسة المصرفيّة إلا على أساس تأثيرها المحتمل والمرغوب على كفاءة الصناعة الماليّة. لكن مثل هذه المنافسة لا تعد عقلانية أو رشيدة أبدًا إذا كانت ستؤدي في نهاية المطاف إلى الهشاشة الماليّة وتتسبب في دفع الاقتصاد نحو الكساد حيث ترتفع البطالة وينخفض الناتج القوميّ الحقيقيّ(5).
أضف إلى ذلك أنه على مدى عقود منذ الكساد العظيم (1929-1933م) إلى الأزمة الماليّة العالمية الأخيرة (2008) قام الاقتصاديّون بالتركيز على الدور الخطير الذي تلعبه البنوك في تغيير إجماليّ العرض النقديّ عن طريق عملية خلق الائتمان، وهذا الدور النقديّ لم يتغير من حيث المبدأ. لكن علينا الانتباه إلى التطورات التي غيرت هيكل الأسواق الماليّة منذ سبعينيّات القرن الماضي.
لقد تطور دور الأوراق الماليّة بسرعة في العالم كله ولا سيما في اقتصادات السوق الحرة المتقدمة. كما كان لتوريق الرهن العقاري Mortgage من قِبَل البنوك دوره البارز في تجديد احتياطاتها وتعزيز قدرتها على خلق النقود. لقد شجعت ظروف الرواج بنهاية تسعينيّات القرن العشرين، الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا على التوسع في توريق الرهن العقاري وعدم الاقتصار على القروض الأولية الأساسية بل الانتقال إلى القروض العقارية لمنخفضي الملاءة الائتمانية؛ مما عزَّز عملية خلق الائتمان وزاد حدتها.
وفي هذا الإطار نما سوق المشتقات Derivatives وأصبح للمخاطر التي تحتوي عليها منتجاته(6) أثر أكبر بكثير من التمويل البونزي الذي صوره مينسكي بأنه من أخطر العوامل التي تسبب الهشاشة المالية(7). إذاً لم تكن الهشاشة الماليّة في 2007-2008 ناتجة فقط عن تقديم قروض تقليديّة عالية المخاطر بل أُضيف إليها ناتج التوريق المفرط للوكالات وعدم قدرتها على حساب المخاطر المتضمنة في منتجاتها بدقة، أو وضع تصورات بشأن تضاعف حجمها على مستوى السوق.
في النظام المالي الإسلاميّ لا يمكن السماح بالتوريق Securitization(8) إلا في ظل حدود معينة، فالأصول المخصَّصة التي ستستخدم في عملية التوريق يجب الحصول عليها وتوظيفها وفق القواعد المسموح بها في الشريعة الإسلاميّة، كما يجب أن تكون الأصول حقيقيّة ومنتجة، بمعنى أنها ليست نقودًا ولا ديونًا؛ ومِنْ ثَمَّ فإن الدخل المتولد عنها حلال.
لذلك لا يمكن تطبيق التوريق الإسلاميّ على حقوق المقرضين في القروض العقارية والقروض السكنية وقروض الطلاب وغيرها من الديون، هذا بخلاف الأنظمة الرأسماليّة والليبراليّة التي يُبْنى معظم التوريق فيها على مثل هذه الديون المحملة بالفائدة.
إن الشريعة الإسلاميّة تحرم تمامًا كلًّا من الفائدة والتجارة في الديون؛ وهذا يعني أن قروض الرهن العقاري محرَّمة وفق الشريعة الإسلاميّة لأنها مبنية على الفائدة (الرِّبَا)، وكذلك الأوراق الماليّة المدعومة بالرهن العقاري لأنها تنطوي على بيع الدين المحظور شرعًا، بالإضافة إلى التزامات الدين المضمونة التي هي إعادة بيع للدين فَتُحَرَّم لنفس الأسباب على الرغم من أنها أسوأ أثرًا وأشد ضررًا.
إن الأعمال المصرفيّة الإسلاميّة لم تكن معروفة للعالم إلا في سبعينيّات القرن العشرين، ومنذ ذلك الحين بدأ تطبيق صِيَغ التمويل الخالية من الفائدة يأخذ طريقه في السوق المالي. وهذه الصيغ تمثل تجربة جديدة تختلف تمامًا عن الصيغة المصرفيّة التقليديّة. ويمكن تصنيف أساليب التمويل المصرفيّ الإسلاميّ إلى صنفين؛ التمويل المباشر بالنقود أو الأصول الإنتاجية للمستثمرين وأصحاب المشروعات؛ والتمويل غير المباشر بمنح ائتمان مصرفي خالي من الفوائد للعملاء ليحصلوا على سلع ومنافع حقيقية يحتاجونها.
والصنف الأول: يجرى من خلال أساليب المشاركة والمضاربة والمزارعة ويخدم الأنشطة الصناعيّة والتجاريّة والزراعيّة، والصنف الثاني: يمارس بالاعتماد على أساليب المرابحة والسَّلَم والاستصناع والإجارة. وكلا الصنفين من التمويل يرتبطان بالنشاط الإنتاجي الصناعي والزراعي والتجاري في القطاع الحقيقي. وهكذا فإن الأنشطة الماليّة المصرفيّة الإسلاميّة لا تنفصل عن أنشطة القطاع الحقيقيّ ، على عكس أنواع التمويل الربوي التي لا تخدم القطاع الحقيقي فتتسبب في الهشاشة المالية.
بأماكننا، إذاً، القول بإنَّ النظام المصرفيّ الإسلامي الخالي من الفائدة له دور إيجابي في تحقيق التوازن المطلوب بين التغيرات النقديّة والتغيرات الحقيقيّة. هذه “فرضية” Hypothesis نستطيع اعتماداً على الاستنباط تأكيدها، ولكن لا يمكن اختبارها بالطرق التجريبية في وقتنا الحاضر.
أولًا: لأنه على الرغم من نجاح المصرفيّة الإسلاميّة في اتجاهات عِدَّة وانتشارها في مناطق كثيرة من العالم فإن النسبة المئوية للتمويل من دون فائدة ما زالت لا تزيد عن 15% من إجماليّ التمويل المصرفيّ، مثلما الحال في منطقة الخليج العربي وماليّزيا.
ثانيًا: لأنه في السودان وإيران حيث يُدَّعى التطبيق الكامل للأعمال المصرفيّة الخالية من الفائدة نجد أن المعاملات الماليّة لا تزال تتأثر بشكل كبير بالصناعة الماليّة العالمية وسياسات أسعار الفائدة.
علينا أن نأخذ في الاعتبار أن المصرفيّة الإسلاميّة في جميع البلدان لا تُشَكِّل حتى الآن أكثر من نسبة ضئيلة للغاية من إجماليّ التمويل المصرفيّ في العالم، وأنها بالرغم من ولادتها في سبعينيّات القرن العشرين لا تزال تمر بمرحلة طفولة وقصور ناتجة عن عدم إمكانية تجنب تأثير الصناعة المصرفيّة التقليديّة عليها، أي أننا ما زلنا ننتظر منها أداء أفضل في المستقبل.
ولعلنا بهذه المقالات العشر نكون قد استطعنا أن نلقي الضوء على أبرز سلبيات النظام الاقتصادي القائم على الفائدة، وما يميز النظام الاقتصادي الإسلامي من تحقيق استثمار حقيقي ينعكس على المجتمع والعالم بأسره، مجنبًا الجميع الأزمات المالية، التي تعصف بالنظام القائم على الفائدة.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

(1) يجب أن نأخذ في الاعتبار أنه على الرغم من أن النظام الاقتصاديّ الإسلاميّ يحمي المصالح الخاصة وحرية المعاملات فإنه لا يسمح بتحقيقها على حساب الإضرار بالمصلحة العامة.
(2) السير رالف جورج هوتري (1879-1975م)، كان اقتصاديًّا بريطانيًّا معروفًا وصديقًا مقرَّبًا لجون مينارد كينز، من منشوراته المهمة في هذا المجال: “النظرية النقدية للدورة التجارية (1929)”، “الدورة التجارية وكثافة رأس المال (1940)”.
(3) Hyman Philip Minsky, “Stabilizing An Unstable Economy. Yale University Press (1986), and “The Financial Instability Hypothesis”, Working Paper No. 74, May 1992, The Levy Economics Institute of Bard College. Hyman Philip Minsky (1919 –1996) was an American professor of economics at Washington University in St. Louis
(4) تم تسمية هذا التمويل على اسم تشارلز بونزي، الذي خدع الآلاف من سكان نيو إنجلاند في الولايات المتحدة بالاستثمار في مضاربات وهمية في عشرينيات القرن الماضي. وفي الوقت الذي كان فيه معدل الفائدة السنوي للحسابات المصرفية 5%، وعد المحتال بونزي المستثمرين بأنه سيعطيهم عائد بنسبة 50% في غضون 90 يومًا فقط. وخسر من صدقوه أموالهم.
(5) في الواقع يجب علينا أن نميز بين المنافسة في القطاع الحقيقيّ والمنافسة في القطاع الماليّ؛ ذلك لأن المنافسة في القطاع الحقيقيّ تؤدي قطعًا إلى استخدام أكثر كفاءة للموارد؛ ومن ثَمَّ فإن النظام الإسلاميّ يدعم تلك المنافسة بشدة عن طريق إدانة ومحاربة كل أشكال الاحتكار، لكن المنافسة في القطاع الماليّ في ظل نظام الفائدة تفتح باباً أمام إساءة استخدام الأموال السهلة المُقَدَّمة من قِبَل النظام المصرفيّ، ويميل المرء من منظور إسلاميّ إلى القول بأن هذه المنافسة بين البنوك التقليدية التي تزداد سخونة مع زيادة مستوى الإنفاق والدخل والأسعار هي منافسة غير عقلانية أو رشيدة إلى حد كبير؛ لأنها تعكس جشع البنوك ونوعًا من السلوك الحيوانيّ لكسب النقود من وراء تجارة النقود، وتجدر الإشارة إلى أن أخلاقيات الأعمال الإسلامية تعارض تمامًا مثل هذا النوع من التنافس.
(6) من بين أهم هذه المنتجات المالية “التزامات الدين المضمونة” Collateralized Debt Obligations (CDOs) و”مقايضات التخلف عن سداد الائتمان” Credit Default swaps (CDS) والتي أدى نشوئها وتداولها إلى تغيير حجم وهيكل السوق الماليّ بشكل كبير، كما أدى تصنيف التزامات الدين المضمونة ومقايضات التخلف عن سداد الائتمان من قِبَل وكالات التصنيف الائتمانيّ وشركات التأمين إلى تعزيز الترويج والتسويق لهذه المنتجات على الرغم من المخاطر المتزايدة للتخلف عن السداد؛ ولذلك شكَّك الخبراء الماليون في أن هذه الوكالات قد أخذت في اعتبارها بشكل كافٍ أي احتمال لانهيار واسع النطاق في السوق الماليّ مثل ما حدث في (2007-2008م).
(7) أشار مارتن بيلي Martin N.Baily (The Origins of the Financial Crisis, Nov. 2008 إلى أن الزيادة في الأموال المُقْتَرَضة على نطاق المنظومة كلها كانت كارثية وغير مسئولة، وأن ما هو صادم حقًّا كيف أخفقت المؤسسات على طول حلقات سلسلة التوريق في إجراء التقييم المناسب لمخاطر أصول الرهن العقاريّ التي يمتلكونها ويتاجرون فيها، بدءًا من منشئ الرهن العقاريّ مرورًا بخادم القرض إلى مُصْدِر الأوراق المالية المدعومة بالرهن العقاريّ إلى مُصدر التزامات الدين المضمونة إلى بائع حماية مقايضات التخلف عن سداد الائتمان إلى وكالات التصنيف الائتمانيّ وإلى حاملي جميع تلك الأوراق المالية؛ فكيف لم تتوقف أي مؤسسة أو أي متعامل للشك في نماذج المخاطر غير المفهومة أو للتساؤل عن شروط قروض الرهن العقاري الأساسية؟
(8) التوريق هو تحويل أصول Assets بما يكافئ قيمتها إلى أوراق مالية يمكن بيعها في السوق. وفي ظل النظم الحرة التي لا تبالي بتحريم الربا يجري توريق النقود وأصول كالديون.
(9) معنى هذا أنه يجب ألا تشارك البنوك الإسلاميّة في معاملات نقديّة أو ماليّة بحتة لا ترتبط بالمعاملات الحقيقيّة، مثل: التجارة في النقد والمضاربات في أسواق المال، ولكن على الرغم من بعض أوجه القصور فإن البنوك الإسلاميّة في تجربتها القصيرة نسبيًّا توفر نموذجًا أفضل كثيرًا من النموذج المصرفيّ التقليديّ فيما يتعلق بالتغيرات النقديّة والتغيرات الحقيقيّة، ومن المؤكد أن الأزمة الماليّة العالمية الحالية ما كانت لتحدث لو قام التمويل المصرفيّ على أساس إسلاميّ لتلبية الاحتياجات الحقيقيّة بدلًا من السيولة واحتياجات المضاربة التي تقوم على التجارة في النقود.

Comments are disabled.