الْمَنْطِقُ الاقتصادي الإِسْلَامِيّ لِتَحْرِيمِ الرِّبَا خلال:
6-تعبئة المدخرات بين النظام الاقتصادي الإسلامي والوضعي.
بقلم الأستاذ الدكتور/ عبد الرحمن أحمد يسري
تناولنا في المقال السابق المنطق الاقتصادي الإسلامي لتحريم الربا من خلال: أساليب التمويل بين الاقتصاد الإسلامي والوضعي، ونكمل في هذا المقال.
تعبئة المدخرات:
إنَّ تحريم الفائدة لن يؤثر في المدخرات، ولا في تعبئة الموارد الماليّة وحشدها، وذلك بشرط سيادة الأخلاق الإسلاميّة مع التطبيق السليم الناجح لأساليب التمويل الإسلاميّ الخالي من الفائدة من قِبَل المؤسسات الماليّة الإسلاميّة المتخصصة.
يرى الاقتصاديّون الكلاسيكيون والنيو كلاسيكيون أن الادخار القوميّ يرتبط إيجابيًّا بمعدل الفائدة S = f (r)، وقد دحضت النظريّة الكينزية ذلك مُبَيِّنةً أن الادخار دالة في الدخل، وتؤكد الأدلة والبراهين العملية وجهة النظر الكينزية بدرجة كبيرة. ذلك لأننا نجد الفئات ذات الدخل المرتفع أكثر قدرة على الادخار في أي مجتمع بالمقارنة بالفئات ذات الدخل المتوسط أو المنخفض، كما نجد على المستوى العالمي أنَّ الاقتصادات مرتفعة الدخل تَدَّخِر نِسَبًا أعلى من دخولها مقارنة بالاقتصادات منخفضة الدخل أو متوسطة الدخل. وعلى الرغم من ذلك فقد استمرت محاولات الدفاع عن الفائدة بوصفها محركًا رئيسًا للادخار ولكن على أساس جديد؛ إذ أولى الاقتصاديّون الوضعيّون اهتمامًا أكبر بمعدلات الفائدة الحقيقيّة بدلًا من معدلات الفائدة الاسمية.
لا يمكننا هنا مسح الأدبيات المتعلقة بتلك المحاولات في البلدان المتقدمة والنامية، وأخذًا في الاعتبار أن البلدان الإسلاميّة تنتمي إلى العالم النامي فإننا سنوجه اهتمامنا إلى الدراسات التجريبيّة التي تختبر استجابة المدخرات لسعر الفائدة الحقيقيّ في هذا المجال.
استعرض ج. أرييتا G. Arrieta(1988م)(1) دراسات بحثية وتجريبيّة عدة أظهرت أن استجابة الادخار لسعر الفائدة الحقيقيّ لا يمكن تأكيدها وإثباتها، وذلك في خمس دراسات من أصل تسع دراسات يمكن عرض بعضها فيما يأتي:
- كشف جوبتا Gupta (1984م) الذي اختبر تلك الفرضية في 12 دولة من البلدان الأقل نموًا في آسيا عن أن هذا الفرض قد رُفض في جميع الحالات باستثناء 4 دول فقط هي: (باكستان والفلبين وسريلانكا وتايلاند)؛ ومِنْ ثَمَّ فقد استنتج أن الظروف الماليّة (تأثير أسعار الفائدة الحقيقية) لا تبدو ذات أهمية لأداء الادخار الكليّ على نطاق واسع(2).
- قام ليتي وماكينون Leite and MacKinnon (1986م) باختبار معامل معدلات الفائدة الحقيقيّة في 6 دول أفريقية من البلدان الأقل نموًا، وقد وجد أن المعامل موجبًا لكنه يختلف اختلافًا معنويًّا عن الصفر في حالة استبعاد متغير التغير في الدخل فقط، وقد توصل إلى أن الظروف الماليّة ذات أهمية للمدخرات الخاصة بشكل عام، لكن تأثيرها المباشر ضئيل بطريقة واضحة(3).
- أوكامبو وآخرون Ocampo, et al. (1985م) قاموا بدراسة حالة كولومبيا، وتوصلوا إلى أن معدل الفائدة الحقيقيّ ذو معنوية إحصائية منخفضة للغاية على الرغم من أن العلاقة موجبة؛ مما يعني أن الظروف الماليّة لا تبدو مهمة لأداء المدخرات الكلية(4).
- اختبر جيوفانيني Giovannini (1985م) تلك الفرضية في 7 دول من البلدان الأقل نموًا في آسيا، وقد أظهرت النتائج أن معامل معدلات الفائدة الحقيقيّة سالب لكنه غير معنويّ؛ ومِنْ ثَمَّ فليس هناك دليل وبرهان يدعم تلك الفرضية في هذه الدول.
- قام جيوفانيني (1985م) بدراسة أخرى بالتطبيق على 18 دولة من البلدان الأقل نموًا، وقد وجد أن معاملات معدل الفائدة الحقيقيّ تختلف اختلافًا معنويًّا عن الصفر فقط في حالات (جامايكا وبورما والهند واليونان وتركيا)، وخلص إلى رفض الفرضية المتعلقة بتأثير سعر الفائدة الحقيقي في قرارات الاستهلاك والادخار(5) .
ينبغي للاقتصاديّين الإسلاميّين أن يتعاملوا مع مثل هذه النتائج التي توصل إليها الاقتصاديّون التقليديّون أنفسهم بعناية، فمعظم النتائج ليست في صالح نظام الفائدة، وهذه من شأنها أن تقوي الحجة والمناقشة الاقتصاديّة ضد هذا النظام، بينما هي محايدة لا تتدخل في قضية الاعتقاد بتحريم الرِّبَا في الإسلام.
وهناك حالات لبعض البلدان النامية تشير الدراسات التجريبيّة بها إلى أن أسعار الفائدة الحقيقيّة لعبت دورًا في تعبئة الموارد المدَّخرة، وستدعم مثل هذه الدراسات وجهة النظر الوضعيّة التي تتبنى نظام الفائدة، لكنها لا تمت بصلة إلى المنطق الاقتصاديّ الإسلاميّ المتعلق بتحريم الرِّبَا. ومطلوب من الاقتصاديين الإسلاميين ذوي الخبرة في التحليل القياسي أو الكمي القيام بدراسات تجريبية على نمط الدراسات السابقة لرؤية الحقيقة.
من الناحية النظرية فإن آلية الفائدة، منطقيًا، يمكن أن تلعب دورًا مهمًا في تعبئة الموارد المُدَّخَرة إذا سبقها استيفاء المتطلبات الداعمة لنجاحها، مثل القوانين الوضعيّة التي تعفي الفوائد من الضرائب بينما تفرض الضرائب على الأرباح، ومثل القيم الثقافية التي لا ترى في الدخول المتحققة من الفوائد أي شيء غير أخلاقي، والمؤسسات الماليّة النشطة في ترويج الاقتراض بالفائدة سواء للاستهلاك أو للإنتاج، وكذلك العادات السائدة بين فئات المُدَّخِرِين من حيث تفضيلاتهم الحصول على عوائد مضمونة ومنتظمة على أموالهم وعدم الدخول في مخاطرة النشاط الاقتصادي.
وبناء على ذلك يجب أن نكون حَذِرين قبل أن نَخْلُص إلى أي استنتاج فيما يتعلق بالدول الإسلاميّة واستجابة المدخرات فيها لأسعار الفائدة (الاسمية أو الحقيقيّة). فالقوانين الوضعيّة السائدة في الوقت الحاضر بهذه البلدان مواتية لنظام الفائدة مع استثناءات في حالات قليلة، كما أن البنوك التجاريّة قد تأسست في معظم الدول الإسلاميّة في أثناء الاستعمار الغربيّ ونجحت في تطوير وتوسيع أنشطتها الماليّة تدريجيًّا.
ولا شك أن هناك قطاعًا من السكان المسلمين قد اعتاد إيداع مدخراته في البنوك التجاريّة مقابل الحصول على عائد (دخل) مضمون، وقد تأثر معظم الذين تبنوا سلوكيات مناقضة للإسلام بأسلوب الحياة الغربيّ وقِيَمِه العلمانية، بالإضافة إلى أن نسبة من المتعاملين مع البنوك التجاريّة يؤكدون أنه لا يوجد أمامهم بديل آخر لحماية أموالهم، فضلًا عن أنهم لا يستطيعون استثمارها بأنفسهم.
ومن ثم فإنهم يقولون إنهم مضطرون إلى التعامل مع البنوك التجارية. هذا بالإضافة إلى أن الحكومات نفسها والشركات الكبيرة والمتوسطة في قطاعات التصنيع والتجارة والخدمات تقوم بإيداع مدخراتها في البنوك التجاريّة مما يقوي جانبها بلا شك في السوق المالي.
من جانب آخر لا يزال هناك قطاع من السكان في البلدان الإسلاميّة ضد معاملات الفائدة، بسبب الاعتقاد في حرمته. هذا القطاع من السكان لم يتأثر بالمحاولات الحديثة أو الفتاوي التي أصدرها البعض لتبرير الفائدة. ويتكون هذا القطاع أساسًا من الأسر ذات الدخل المنخفض أو المتوسط وصغار المزارعين والتجار وأصحاب الحرف أو الورش الصناعية الصغيرة.
ومن الناحية الاقتصادية فإن مدخرات هذا القطاع هي الأصغر على المستوى الكلي، كما أن هذه المدخرات الصغيرة نسبيًّا لتلك الفئات لا تحظى باهتمام كبير من قِبَل البنوك التجاريّة. في ظل كل هذه الظروف سيكون من المتوقع أن تنجح السياسات الماليّة القائمة على الفائدة في تعبئة المدخرات، على الأقل في بعض الحالات.
ولكن على الرغم من ذلك فإن كثيرًا من العوامل التي ذُكرت والتي يمكن أن تدعم نظام الفائدة في الواقع العملي قابلة للتغير بمجرد إنشاء مؤسسات ماليّة إسلاميّة ترفض التعامل بالفائدة وتنجح في إرساء طرق جديدة ناجحة مصرفيًا واقتصاديًا. وستقوم تلك المؤسسات الإسلاميّة بتعبئة المدخرات الصغيرة التي لا تهتم بها البنوك التجارية، وكذلك المدخرات المتوسطة أو الكبيرة لأولئك الذين يقولون إنهم يتعاملون مع البنوك التجاريّة في الوقت الحاضر لأنهم لم يجدوا بديلًا.
الحقيقة أن إحياء الشريعة الإسلاميّة بأخلاقها وآدابها من شأنه أن يحسم كثيرًا من الأمور بشكل قاطع في غير صالح النظام القائم على الفائدة، وقدرته على تعبئة مدخرات المسلمين. ولكن قدرة المؤسسات الماليّة الإسلاميّة على تعبئة المزيد ثم المزيد من الموارد الادخارية للمجتمع ومنافسة البنوك التجارية بفاعلية تعتمد على نجاحها في ممارسة أساليب التمويل الخالية من الفائدة بكفاءة. هذا الأمر الذي سيظهر دون جدال حين تنجح هذه المؤسسات في تحقيق أعلى عوائد حلال ممكنة من خلال الأساليب الإسلامية، حينئذ سوف تكتسب تلقائيًا ثقة كل المدخرين الذين يطمعون في عوائد مميزة.
هذا هو المنطق الاقتصادي الإسلامي لتحريم الربا من خلال: تعبئة المدخرات بين النظام الاقتصادي الإسلامي والوضعي. وأما المنطق الاقتصادي الإسلامي لتحريم الربا من خلال: توالي الأزمات بين النظام الاقتصادي الإسلامي والنظام الوضعي، فهو موضوع المقال التالي.
(1) (G. G. Arrieta, World Development, Vol.16 No.5, P.598, 1988, Great Britain.
(2) جوبتا(1984م) Estimating an aggregate savings function by the ordinary least squares method. Gupta (1984) وقام جوبتا بدراسة أخرى لتقدير دالة الادخار الكليّ باستخدام طريقة المربعات الصغرى العادية، وقد وجد أن أسعار الفائدة الحقيقية لها تأثير معنويّ في أربعة بلدان هي: (الهند وكوريا وباكستان وتايلاند).
(3) قدَّرت الدراسة دالة الادخار الخاصة باستخدام طريقة المربعات الصغرى المرجَّحة باستخدام متغيرات معدَّلة لمعالجة مشكلة عدم ثبات التباين.
(4) استخدمت الدراسة في تقدير دالة الادخار الكليّ طريقة كوكرين-أوركوت من أجل معالجة مشكلة الارتباط الذاتيّ.
(5) عتمدت الدراسة الأولى في تقديراتها على مدى فترة زمنية أطول، أما الدراسة الثانية فقد قَدَّرت المعادلة التي يكون فيها معدل نمو الاستهلاك دالة متزايدة (مُطَّرِدة) في معدل الفائدة الحقيقيّ المتوقع في إطار سلوك تعظيم المنفعة لكل فرد.