ذكريات اقتصادية لفريضة الحج

بقلم الدكتور/ أسامة السعدوني جميل

صرَّحت الآيات القرآنية التي تناولت فريضة الحج بإباحة الاتِّجار في موسم الحج سواء في مشعر مزدلفة أو عرفة أو منى أو في بطن مكة، وأن ذلك لا حرج فيه، فيقول الله تعالى: { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 198] وقوله: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج: 27، 28] وتطابقت كتب التفسير وسائر كتب التراث على هذا المعنى وتقرَّر أنه لا حرج في التجارة في موسم الحج والمنافع التي يشهدها الحاج كثيرة منها منافع البيع والشراء.
وقد رأينا عبر التاريخ الطويل للمسلمين كيف ترافَق ركب الحج – أيًا كانت جهة مجيئه – مع ركب التجارة وأريد هنا تسليط الضوء على فترة بعينها في هذا التاريخ الطويل، وعرض ما كان بها من ذكريات اقتصادية وتجارية رافقت ركب الحجيج من وإلى مكة، لالتماس ما فيها من عبر ودروس تقرر حقائق لابد منها، وتساعد على رسم السياسات الصحيحة.
تعرض العالم لأحداث كبرى مع بديات الدولة المملوكية وهي الحملات المغولية والتي كان من توابعها تحويل طريق التجارة من طريق الحرير إلى أن أصبح يمر بمصر، فصار ركب الحج يمر بمصر من أوربا إلى أقاصي آسيا، فنتج عن ذلك أن أصبحت بعض الموانئ مراكز لرسوّ التجارة العالمية أو بالتعبير المعاصر “مراكز لوجستية” مثل الاسكندرية، وعيذاب على البحر الأحمر، ثم شكَّلت مدينة جدة المركز الأهم في الفترة المملوكية، وبسبب هذا التحول انتعش الاقتصاد وساد الرواج وعم الرخاء، وزاد هذا الانتعاش أكثر من ذلك لما تغيرت القوانين واتجهت إلى رفع الضرائب عن التجار، فمنعت الدولة المملوكية تحصيل الضرائب والمكوس من حجاج بيت الله الحرام، وعوَّضت أمراء الحجاز بأوقافٍ في مصر ومبالغ نقدية فصدر مرسومًا سنة 696 هـ أيام السلطان حسام الدين لاجين، وبهذا منع تحصيلها في كلا الضفتين الشرقية والغربية.
ولو تتبعنا أصل فكرة المكوس في الحج في المصادر التاريخية لأنبأتنا كما يذكر ابن فهد في إتحاف الورى بأن سنة 327هـ – 934م، هي أول سنة مُكِس فيها الحجاج، وأن ذلك لم يعهد ذلك في الإسلام وكان ذلك من قبل القرامطة.
وعلى كلٍّ فقد صار لميناء جدة أهمية كبرى كما يذكر المقريزي في كتابه «السلوك» مبيِّنا أن هذه المدينة أصبحت مرسى سفن التجارة الهندية، وذلك لسوء معاملة صاحب اليمن للتجار، وترافق ذلك مع تحول سياسة الدولة المملوكية في النظر إلى بلاد الحجاز، فتغير طريق الأموال، وانعكس اتجاه تيار التدفقات المالية من وإلى مصر بلاد الحجاز؛ ففي سنة 828هـ أصبح لجدة والٍ وشادٍ “جابي أموال” وأعوان وحملة عسكرية «أي حامية عسكرية» تُصاحب جباية المكوس في جدة وتنتقل إلى مصر.
وهذا كله كان مؤشِّرًا لما كانت عليه الدولة المملوكية قبل أفولها، فبعد أن كانت تقوم برعاية أهل الحرمين وتُقطِع أمراء الحجاز الإقطاعات في مصر، وتُوقِف قرى بأكملها نظير منع تحصيل أي مكس على الحجاج وتكتفي بعشور التجارة المارة فقط، بعد ذلك -ولما تغيرت السياسة الاقتصادية وأصبحت احتكارية – تغيرت معها الإجراءات وتغير السلوك لا سيما مع انتعاش جدة.
ففي سنة 830هـ أيام السلطان برسباي – الذي تشير نصوص المصادر إلى انتهاجه سياسة اقتصادية احتكارية، والذي فيه عهده اتسعت تجارة الدولة حتى زاحمت التجار -كان المنادي ينادي على الناس وهم يؤدون شعائر الحج بأن يسير كل تاجر وما ابتاعه من سلع الهند في الموسم إلى مصر صحبةَ ركب الحج المصري؛ لتؤخذ منهم المكوس بمصر مرة ثانية وإذا توجهوا إلى الشام تؤخذ مرة ثالثة.
بل يسجِّل المقريزي مناداةً يوم عرفات والناس في هذا المشهد العظيم! بأنه من اشترى بضاعة وسافر بها إلى غير القاهرة حل ماله ودمه للسلطان، ثم في سنة 831هـ يُعفَى تجار الشام، من المجيء إلى مصر بسبب شكواهم لكن يدفع كل منهم على كل حمل صغير أم كبير ثلاثة ونصف دينار.
ويذكر المؤرخ عبد الباسط بن خليل أن ركب المغاربة لما وصل تلقتهم المكاسة ليأخذوا منهم مكس ما أحضروه معهم من خيل ودقيق وتبر وثياب.
يظهر مما سبق أن السياسة الحكومية ذات تأثير كبير على النشاط الاقتصادي، رواجًا ورخاءً أو انكماشًا وانقباضًا، ولعلنا بذلك أدركنا أهمية استدعاء التاريخ الاقتصادي بوصفه المختبر الحقيقي الذي من خلاله نرى خط مسار السياسات الاقتصادية ونتائجها، بل يوضح لنا كيف تصح النظريات الاقتصادية فتكون قانونًا اقتصاديًا أم لا. هذا ويمكن الرجوع تفصيلاً إلى بحث «مكوس الحجيج في العصر المملوكي» للكاتب.

Comments are disabled.