صور مشرقة في الوقف العلمي، الجامعات ومدارس الطب والمكتبات نموذجًا
بقلم الأستاذ الدكتور/إبراهيم عبد الحليم عباده
أستاذ الاقتصاد والمصارف الإسلامية-جامعة اليرموك/ الأردن
لقد اهتم المسلمون بالوقف قديماً وحديثاً وأولوه عناية كبيرة؛ إن في العمل به أو في تشريعاته وأحكامه ومصارفه؛ حيث يعد الوقف من الأعمال الصالحة والصدقة الجارية التي حث الإسلام عليها ورغِّب فيها، فكان المسلمون يتسابقون إلى البر ابتغاء فضل الله عز وجل ورضاه، واقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والسلف الصالح, يقول الله تعالى : {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}(البقرة: 261).
وشهد التاريخ الإسلامي كثيرا من النماذج مثل: الجامع الأزهر ودروس العلم فيه وآلاف الباحثين وطلاب العلم والمدرسين يجدون حاجتهم من الأوقاف المخصصة لهذه الجامعة الكبيرة التي أنتجت أعدادا كبيرة من العلماء على مر التاريخ، ومن الجامعات الوقفية جامع الزيتونة، والجامع الأموي.
ويمكن تطبيق هذا النوع من الوقف على الجامعات وكفالة طلاب العلم، وخصوصا في بعض التخصصات النادرة نسبيا أو للطلبة من ذوي الدخول المحدودة وهنالك نماذج معاصرة مثل صندوق الطالب الفقير في الكثير من الجامعات، وكذلك صناديق القرض الحسن في البنوك الإسلامية الموجهة للتعليم الجامعي، وهنالك نموذج معاصر يتمثل ب (صندوق حياة للتعليم) وهو صندوق وقفي موجه لخدمة الطلبة الجامعيين من غير القادرين على دفع رسوم الجامعة وله إسهاماته وأهدافه وطرق إدارته، وهو: “جمعية خيرية مسجلة لدى وزارة التنمية الاجتماعية في المملكة الأردنية الهاشمية بموجب قانون الجمعيـات رقم 51 لسنة 2008 تحت رقم 1909 بتاريخ 24/8/2009. وهي صندوق وطني لدعم الطلبة غير المقتدرين ماديا لمرحلة ما بعد الثانوية العامة، لإعطائهم فرصة الحصول على التعليم والتدريب المهني في الجامعات والمعاهد الأردنية، لتمكينهم من بناء مستقبل أفضل لأنفسهم ومجتمعهم وأمتهم.” (1)
وهنالك نماذج للصناديق الوقفية(2) احتلت مكانة كبيرة في بعض الدول مثل تجربة (الصندوق الوقفي للتنمية العلمية) الذي أنشأته الأمانة العامة للأوقاف في دولة الكويت عام 1995م بهدف دعم العلم ودعم جهود البحث العلمي في المجالات المؤدية إلى مزيد من التنمية العلمية والممارسات التطبيقية. (3)
أولاً: الوقف على البيمارستانات ومدارس الطب:
- 1- البيمارستان النوري في دمشق: واقفها نور الدين زنكي ابن الشهيد، لما عمر البيمارستان بدمشق جعل أمر الطب إلى أفضل الدولة أبي المجد بن أبي الحكم (ت570هـ) كان طبيباً جازماً وله يد طولى في الهندسة والنجوم كان يدور على المرضى ويعتبر أحوالهم وبين يديه المشرفون والخدام للمرضى، وكل ما يكتبه للمرضى لا يؤخر عنهم، فإذا فرغ من ذلك طلع القلعة وافتقد مرضى السلطان وغيرهم عاد إلى البيمارستان وجلس في الأبوان الكبير، ويحضر كتب الأشغال وكان نور الدين قد أوقف جملة كثيرة من الكتب الطبية، وكان جماعة من الأطباء والمشتغلين يأتون إليه ويجلسون بين يديه ثم تجري مباحث طبية ولا يزال مع تلامذته في مباحث واشتغال ونظر في الكتب مقدار 3 ساعات ثم يركب بعد ذلك إلى داره بدمشق(4).
- مدرسة الطب الدخوارية: قرب الجامع الأموي أنشأها مهذب الدين عبد الرحيم المعروف بالدخوار سنة 621هـ أول من درس بها واقفها شيخ الطب وواقف المدرسة على الأطباء، وهو من أطباء صلاح الدين، وحياته امتدت وصار تلامذته أطباء البلاد، وله مصنفات في الطب(5).
ثانياً: الوقف على المكتبات والكتب:
شاع بين المسلمين وقف الكتب والمكتبات سواء أكان هذا من الخلفاء والسلاطين أم من العلماء وقد كانت المكتبات الوسيلة الأهم في تلقي العلوم ونشرها، وذلك لأهمية الكتب في نشر العلم، ولصعوبة الحصول عليها بشكل شخصي لندرتها وارتفاع تكاليفها، لذا فقد تنافس الواقفون في إنشاء المكتبات العامة والخاصة، وفتحها أمام طلبة العلم، وأوقفوا عليها الأوقاف المغلة للصرف عليها وتزويدها، وذلك لنشر العلم وتزويد الباحثين بكل ما يُحتاج إليه من مؤلفات.
وقد تنوع الوقف على الكتب فشمل مكتبات بأكملها، ووقف الكتب على المدارس والمشافي والمراصد والربط والخانقاهات، كما كان هناك نوع يتمثل في وقف كتب عالم بعد وفاته على أهل العلم وعلى ورثته، واهتم واقفوا المكتبات بتوفير دخل مادي ثابت لصيانتها وترميمها، والصرف على العاملين بها، كما أنّ بعضهم عيّن ريعاً يصرف منه في إنماء الكتب عبر السنين(6).
وقد انتشر الوقف على الكتب والمكتبات في أرجاء العالم الإسلامي منذ العصور الإسلامية المبكرة، وكان له الأثر الأوفى في تعدد المكتبات وتنوع مناهلها وبالتالي تركت آثارها الواضحة في الازدهار الثقافي والعلمي الذي شهده العالم الإسلامي على مدى قرون طويلة(7).
ومما يشار إليه هنا أنه حينما تذكر المكتبات في الحضارة الإسلامية، فإنه يُقْصَد بها تلك المراكز العلمية والتعليمية الرائدة التي انتشرت في عديد من العواصم والأقاليم الإسلامية، والتي كانت بمثابة دور التعليم الجامعة التي أدّت دوراً مهماً في نشر العلم وتيسيره لطلابه عن طريق توفير الكتب بمختلف فروع المعرفة، وكذلك خدمة الباحثين والمطلعين على هذه المعارف، كما كانت مجمعاً وملتقى للعلماء والنابغين في مختلف العلوم مع طلابهم.
إذ إنه لم تتوقف رسالة المكتبات عند مجرد جمع الكتب وحفظها وتيسيرها للمطلعين، وإنما أدّت تلك المكتبات رسالة أهم وأكبر من ذلك(8). ومن أشهر وقفيات الكتب والمكتبات:
- خزانة الكتب في القاهرة: أنشأها الفاطميون وهي من جملة مكتبات تزيد عن أربعين خزانة في قصر الخلافة مليئة بنفائس المؤلفات الجليلة المقدار(9).
- مكتبة مقصورة ابن سنان: واقفها الشيخ العلامة تاج الدين أبو اليمن الكندي الحنبلي وهي سبعمائة وإحدى وستون مجلداً في الحديث والفقه وغير ذلك، وجعلت في خزانة كبيرة بمقصورة ابن سنان الحلبية جعلها وقفاً على ولده من بعده ثم على العلماء في الحديث والفقه(10).
- مكتبة المدرسة اللبودية النجمية للطب في دمشق: واقفها نور الدين زنكي حيث أوقف جملة كثيرة من الكتب الطبية، وكانت في الخزانتين اللتين في صدر الإيوان(11).
- مكتبة دار الحديث الأشرفية: واقفها العلامة صفي الدين أبو عبد الله محمد بن عبد الرحيم الشافعي درس في المدرسة الأتاباكية في دمشق، ووقف كتبه بدار الحديث الأشرفية(12).
فالعلماء والأمراء كانوا يتسابقون في توجيه الأوقاف الخيرية في خدمة المجالات العلمية، وخاصة المكتبات، ونذكر من بين أشهر المكتبات في تاريخ العالم عن الإطلاق، (مكتبة بنو عمار) في طرابلس بسوريا، حيث كان يشتغل في نسخ الكتب 180 شخصا ليل نهار، والتي كانت تتوفر على مليون كتاب(13) وكذلك الشأن بالنسبة لمكتبة القاهرة التي كانت وقفا للخليفة الحاكم بأمر الله، وكانت تتوفر على 2,12 مليون كتاب، وهو ما يمثل عشرين مرة عدد الكتب التي كانت تتوفر عليها مكتبة الإسكندر في عهد الرومان، بل حتى القبائل البربرية الآتية من شمال روسيا، والتي اجتاحت العالم الإسلامي، تغير سلوكها بعد اعتناقها الإسلام وبدأت تساهم في الأعمال الخيرية عن طريق الوقف(14).
وهنالك العديد من المكتبات الأخرى التي أوقفها العلماء والأمراء وغيرهم.(15)وفي الوقت المعاصر يمكن أن تكون المكتبات هي الفئة المستفيدة الموقوف عليها، والتمويل الجاري عليها لإدامتها والمحافظة عليها وتجديدها وتحديث محتوياتها بما يتوافق مع متطلبات العصر وقد شهد العصر الحديث تطورا في المكتبات وتحديدا المكتبات الوقفية الالكترونية التي شملت شتى علوم المعرفة.
ومما سبق ذكره من نماذج وقفية علمية وتعليمية من مدارس وجامعات ومكتبات يتبين مدى إسهام المؤسسة الوقفية قديماً ولا يزال بإمكانها أن تسهم في رفد وزيادة الإنفاق التعليمي الذي يشكل جزءا مهما من منظومة التعليم والذي يعاني من تراجع في كثير من دول العالم الإسلامي.
(1) http://www.hayatfund.org/ar/Default.aspx
(2) الصندوق الوقفي: عبارة عن تجميع أموال نقدية من عدد من الأشخاص، أو المؤسسات عن طريق التبرع، لاستثمار هذه الأموال، ثم إنفاق ريعها أو غلتها على مصلحة عامة تحقق النفع للأفراد، والمجتمع، بهدف إحياء سنة الوقف، ويتم تكوين إدارة لهذا الصندوق تعمل على رعايته والحفاظ عليه، والإشراف على استثمار الأصول، وتوزيع الأرباح بحسب الخطة المرسومة. انظر: الزحيلي، محمد، الصناديق الوقفية المعاصرة، البحوث العلمية للمؤتمر الثاني للأوقاف، السعودية، جامعة أم القرى، المحور الأول، ج1، ص341-342.
(3) حول تجارب الدول المعاصرة في الصناديق الوقفية، انظر: العثمان، عبد المحسن، تجربة الوقف في دولة الكويت، ندوة نظام الوقف في التطبيق المعاصر (نماذج مختارة من تارب الدول والمجتمعات الإسلامية) تحرير محمود مهدي، ندوة رقم 45، المعهد الاسلامي للبحوث والتدريب، جدة والأمانة العامة للأوقاف، الكويت، 2003م، ص89 وما بعدها، وانظر: العازمي، محمد، نظام الصناديق الوقفية في الكويت واقعه وسبل وتطويره، رسالة ماجستير غير منشورة، جامعة اليرموك، قسم الاقتصاد والمصارف الإسلامية، 2015، وانظر: الدقامسة، محمد، الصناديق الوقفية في الأردن، رسالة دكتوراه غير منشورة، جامعة اليرموك، قسم الاقتصاد والمصارف الإسلامية، 2012.
(4) النعيمي، الدارس في تاريخ المدارس، ج2/107.
(5) النعيمي، الدارس في تاريخ المدارس، ج2/100.
(6) الساعاتي، يحيى محمود، الوقف وبنية المكتبة العربية – استبطان للموروث الثقافي –، الرياض: مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية،1988م، ص33.
(7) انظر: الساعاتي، المرجع السابق.
(8) انظر: الساعاتي، يحيى بن جنيد، الوقف والمجتمع، ص23-36.
(9) المقريزي، أحمد بن علي، المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخطط المقريزية، ج2/291-292.
(10) النعيمي، الدارس في تاريخ المدارس، ج1/371.
(11) النعيمي، الدارس في تاريخ المدارس، ج1/107.
(12) النعيمي، الدارس في تاريخ المدارس، ج1/97-98.
(13) عبد المالك أحمد السيد بحث بعنوان “الدور الاجتماعي للأوقاف” في كتاب جماعي تحت عنوان ” إدارة واستثمار ممتلكات الأوقاف ” المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب، البنك الإسلامي للتنمية، جدة، السعودية، ص 268.
(14) في بخاري مثلا قامت أم هولاكو ببناء مدرستين كبيرتين تستوعبان ألفا طالب، وجعلتهما وقفا، أنظر: عبد المالك أحمد السيد بحث بعنوان: “الدور الاجتماعي للأوقاف” في كتاب جماعي تحت عنوان: “إدارة واستثمار ممتلكات الأوقاف” ص259.
(15) انظر: الساعاتي، يحيى بن جنيد، الوقف والمجتمع، ص23-35.