عناية الاقتصاد الإسلامي بحفظ الأموال وأثرها على استقرار المجتمع

بقلم الأستاذ الدكتور/ عزُّ الدِّين بن زغيبة
أستاذ الفقه والأصول والمقاصد
ورئيس هيئة الرقابة والفتوى في عدد من المصارف الإسلامية

إن صيانة الأوطان وازدهارها وتحقيق رغد العيش في أكنافها للمقيمن بها وزائرها مرهون بتأمين ثروة الأمة وحماية المال العام والخاص وصيانته عن الأيادي العادية والعابثة، وقد ورد في ذلك أحاديث كثيرة، منها ما هو بصيغة العموم فيتناول الأموال عمومًا، ومنها ما هو خاصٌّ، فيتناول نوعًا منها بعينه فقط.

ترشيد الإنفاق في الاقتصاد الإسلامي:

وقد دعتِ السنة المطهَّرة المسلمين إلى الاقتصاد في إنفاق المال وحسن تدبيره وإصلاحه والقيام عليه؛ لأن في ذلك وقاية من العالة والفاقة وحفظ للمجتمع من ضيق العيش المؤدِّي إلى اختلال النظام وانخرام العمران، فقال صلى الله عليه وسلم: «مَا عَالَ مَنِ اقْتَصَدَ»(1)، وقيل: “حُسْنُ التَّدْبِيرِ مَعَ الْكَفَافِ أَكَفُّ مِنَ الْكَثِيرِ مَعَ الْإِسْرَافِ(2)، قال الإمام المقري في قواعده: “من مقاصد الشريعة صون الأموال عن الناس، فمن ثم نُهِيَ عن إضاعتها، وعن بيع الغرر والمجهول(3).
وكان عمر بن الخطاب يحذِّر أصحابه من الإسراف، ويدعوهم إلى إصلاح المال ولو كان قليلًا؛ لأنه في رأيه أن القليل مع الإصلاح لا ينقص، لكن الكثير مع السَّرف لا يبقى منه شيء، حيث قال: «الْخُرْقُ فِي الْمَعِيشَةِ أَخْوَفُ عِنْدِي عَلَيْكُمْ مِنَ الْعَوَزِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَبْقَى مَعَ الْفَسَادِ شَيْءٌ، وَلَا يَقِلُّ مَعَ الْإِصْلَاحِ شَيْءٌ»(4)؛ لأن تسلُّل الفساد إلى الموكَّلين بإدارة النشاط الاقتصادي للمجتمع والمشرفين على تسيير ثروته، يؤدّي حتمًا إلى سوء توزيع الثروة، وانحصار عدد المستفيدين بها، مما يؤدي بدوره إلى ثورة الفاقد على الواجد، والتي تنعكس بشكل مباشر على انتظام المجتمع واختلال أمن البلاد والعباد وتعطُّل عجلة التنمية وانحصارها وركود النشاط الاقتصادي وتراجعه، مما يورث في نفوس المواطنين الإحباط وفقدان الأمل والخوف من المستقبل، ويؤدي إلى تناقص الروح الوطنية المؤدِّية إلى تعاظم المخاطر المحدقة بالوطن.
وفي الجملة فإن المقصد الشرعي من النهي عن إضاعة ثروة الأمة، واستفحال الفساد في تسييرها، وغياب الأمانة في إدارة التصرفات المالية والنشاطات الاقتصادية المتعلقة بها، هو أن تكون ثروة الأمة عُدَّةً لها وقوة لابتناء أساس مجدها والحفاظ على مكانتها، حتى تكون مرهوبة الجانب، مرموقة بعين الاعتبار، غير محتاجة إلى من قد يستغل حاجتها فيبتزُّ منافعها ويدخلها تحت نِير سلطانه.

تغليظ عقوبة الاعتداء على الأموال في الاقتصاد الإسلامي:

يتبين مما سبق أن الاقتصاد الإسلامي حريصٌ على حماية الأنفس والأموال وتأمين حركة الأشخاص، ورؤوس الأموال والسلع، وتأمين مسالك التجارة وطرق المواصلات؛ لأن في قطع الطريق تهديدًا للناس في أسفارهم وكسادًا لتجارتهم، وتعطيلًا لمصالحهم، مما يعود على الوطن والرعية بفقدان الأمن واختلال النظام، ومن ثمَّ كانت مفسدة الحِرابة أعظمَ من السرقة؛ لأن أهل الأموال بإمكانهم حفظ أموالهم من السرَّاق ولا يتمكَّن أهل الطريق من التمنُّع من قطّاع الطرق، ولا يتيسَّر لولاة الأمور وجماعة المسلمين نصرتُهم في ذلك المكان والزمان، ولأن داعيةَ الفعل من قُطَّاع الطرق أشدُّ وأغلظ؛ ولهذا لم يراعِ مالكٌ في المال الذي يأخذه المحارب نصاب السرقة، وإنما حكم على أخذه بحكم المحارب، وذهب أصحاب الرأي، والشافعية، والحنابلة إلى أنه لا يُقطع منهم إلا من أخذ ما يُقطَع السارق في مثله.
وقد ضمَّن المقَّري هذا المعنى إحدى قواعده فقال: ” كل فعل يُقصد به أخذ المال المعصوم من فاعله، على وجه تتعذَّر فيه الاستغاثة غالبًا، فهو حِرابة(5).
ولا خلاف بين الأئمة في أن الحِرابة يُقتل فيها من قَتل، وإن لم يكن المقتول مكافئًا للقاتل؛ لأن القتل هنا ليس على القتل فقط، وإنما على الفساد العام الذي يلحق البلاد والعباد بسبب اختلال مقصد الأمن وجرّاء التخويف وسلب المال؛ ولذلك تصدَّت له السنة النبوية بأقصى أنواع الصرامة في اتخاذ العقوبات ضد مرتكبيه.
ولما كانت هذه الجريمة على قدرٍ كبيرٍ من الخطورة؛ كان تطهير الأرض من المحاربين والمفسدين وتأمين البلاد والسُّبُل والطرق من القتل للأنفس والأخذ للأموال وإخافة الناس من أعظم الحسنات وأجلِّ الطاعات، وكان من أسس ووسائل الإصلاح في الأرض، كما أن الحرابة إفسادٌ فيها، ولأجل هذا عدَّ مالكٌ وأصحابه قتال المحاربين جهادًا، ونقل أشهب عنه أنه أفضل الجهاد وأعظمه أجرًا(6).

تقرير حق الدفاع عن المال في الاقتصاد الإسلامي:

ولم تكتفِ الشريعة بما شرعته من النواهي الكثيرة والمتكرِّرة عن الاعتداء على أموال الغير؛ لأن ذلك قد لا يكون له أثرٌ في نفوسٍ كثيرة ضَعُفَ فيها الوازع الديني، أو فُقِد تمامًا، بل طالبت من المالكين حماية أموالهم من أطماع تلك النفوس وعدم تسليمها لهم، مهما كانت الوسائل المستعملة في ترهيبهم وتخويفهم، ودعتهم إلى المقاتلة من أجل صيانتها إن لزم الأمر ذلك، ولو قُدِّر أنْ مات المالك دفاعًا عن ماله فهو شهيد عند الله عز وجل، ويكون المعتدي إذا قُتِل في النار جزاء ظلمه وعدوانه، قال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ»(7)، ورويَ عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: أنّه جاءه رجل فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ جَاءَ رَجُلٌ يُرِيدُ أَخْذَ مَالِي؟ قَالَ: «فَلَا تُعْطِهِ مَالَكَ» قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَاتَلَنِي؟ قَالَ: «قَاتِلْهُ» قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلَنِي؟ قَالَ: «فَأَنْتَ شَهِيدٌ»، قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلْتُهُ؟ قَالَ: «هُوَ فِي النَّارِ»(8).
وقد ترجم الإمام النووي لهذا الباب من صحيح مسلم بقوله: “بَابُ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ مَنْ قَصَدَ أَخْذَ مَالِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، كَانَ الْقَاصِدُ مُهْدَرَ الدَّمِ فِي حَقِّهِ، وَإِنْ قُتِلَ كَانَ فِي النَّارِ، وَأَنَّ مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ“، والذي تنبغي الإشارة إليه هنا أن مالك المال أو الدافع عنه لا يقصد القتل ابتداءً، وإنما ينبغي أن يقصد الدَّفع، فإن أدّى إلى القتل فلا شيء عليه، وإن قُتِل كان شهيدًا.
ومن تمام عدل الشريعة في هذا الباب أنها كما حمت وصانت أموال المسلمين حَفِظت أموال الذميين، وأوجبت الضمان على من أتلفها من المسلمين، حتى لو كان الـمُتلَف مما لا يجوز امتلاكه في شريعتنا، قال ابن حارث الخشني: “من تعدى على ذميٍّ فكسر له خمرًا، أو قتل له خنزيرًا وجب عليه قيمة ذلك”(9).

مواجهة الاقتصاد الإسلامي لظاهرة تزوير النقود:

يُعتبر تزوير النقود من أعظم المهدِّدات خطرًا على حمى البلاد، وأكثرها تدميرًا لثروة الأمة ونشاطها الاقتصادي؛ ولذلك نجد العلماء يشدِّدون في عقوبتها، ويطالبون الحكام والولاة بالتغليظ على مرتكبيها، والمداومة في تفقُّد الأسواق ومراقبة النقود.
وقد سئل يحيى بن عمر عما يجب على الوالي أن يفعله إزاء مرتكبي جريمة تزوير نقود: فأجاب: “لا يُغفِل النظر في سوقهم إن ظهرت فيها دراهم مبهرجة ومخلوطة بالنحاس، بأن يشتدَّ فيها، ويبحث عمن أحدثها، فإذا ظَفِر به أناله من شدة العقوبة، وأمر أن يُطاف به في الأسواق، لينكِّلَه ويشرِّدَ به مَنْ خلفَه، لعلهم يتقون عظيم ما نزل به من العقوبة، ويحبسه بعد ذلك على قدر ما يرى، ويأمر أوثق من يجد بتعهُّد ذلك من السوق، حتى تطيب دراهمهم ودنانيرهم، ويُحرِزوا نقودهم، فإن هذا أفضل ما يحوط رعيَّتَه فيه، ويعمُّهم نفعُه في دينهم ودنياهم، ويرتجي لهم الزلفى عند ربهم والقربةَ إليه إن شاء الله”(10).

(1) أخرحه أحمد، مسند عبد الله بن مسعود (7/ 302) حديث (4269) وله شاهد عند الطبراني في الكبير (12/ 123) حديث (12656)، والحديث له طرق كثيرة وهو بمجموعها حسن صحيح، ينظر: المداوي لعلل الجامع الصغير وشرحي المناوي (5/ 483).
(2) روي ذلك عن ذي النون انظر: شعب الإيمان، للبيهقي (8/ 511) رقم (6160).
(3) قواعد المقري (ص: 466).
(4) الزهد لوكيع (ص: 784) رقم (469).
(5) الكليات الفقهية (1/60).
(6) البيان والتحصيل (16/ 417).
(7) أخرجه البخاري، كتاب المظالم والغصب، باب من قتل دون ماله (3/ 136) حديث رقم (2480) ومسلم، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من قصد أخذ مال غيره بغير حق، كان القاصد مهدر الدم في حقه، وإن قتل كان في النار، وأن من قتل دون ماله فهو شهيد (1/ 124) حديث رقم (141).
(8) أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من قصد أخذ مال غيره بغير حق، كان القاصد مهدر الدم في حقه، وإن قتل كان في النار، وأن من قتل دون ماله فهو شهيد (1/ 124) حديث رقم (140).
(9) أصول الفتيا، لابن حارث الخشني (ص:423).
(10) أحكام السوق ليحيى بن عمر (ص: ).

Comments are disabled.