نظرة الشريعة للمال بين الحقيقة والادعاء
بقلم الأستاذ الدكتور/ عزُّ الدِّين بن زغيبة
أستاذ الفقه والأصول والمقاصد
ورئيس هيئة الرقابة والفتوى في عدد من المصارف الإسلامية
تقدير الشريعة الإسلامية لقيمة الأموال
حذَّرت نصوصٌ عديدةٌ في الشّريعة من الانسياق وراء شهوة المال، والانقياد إلى سلطانه والانشغال به عن الهدف الأسمى، الذي خُلِق من أجله الإنسان، ألا وهو عبادة الله تعالى؛ فلذلك تراها تصف المال تارة بزينة الحياة الدّنيا، وتارة تصفه بالفتنة حيث قال تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} الكهف:46 وقال تعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} التّغابن:15.
وقال صلّى الله عليه وسلَّم: “لاَ الفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنْ أَخَشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ“(1)، فأشار إلى التنافس المذموم الذي يأتي على حساب القيمة، ويقود الأمّة إلى الانصراف عن التّسابق في الأخلاق الحميدة، وربّما قضي على كثير من صفات الكمال سعيًا وراء جلب المال.
ولا يُفهم من هذه النصوص أنّ المال غير منظور إليه بعين الشّريعة إلّا ذمًّا، وأنّه غير لاقٍ من معاملتها إلّا رفضًا، وذلك لأنّ الجانب الرُّوحاني من الشَّريعة الداعي إلى جعل الهمّة إلى الفضائل النّفسانية والكمالات الخلقية في المرتبة الأولى، والدّاعي الشّيطاني العارض غالبًا للمستدرجين من أهل الثروة والمال بوضع ذلك في أساليب كفر نعمة الرّازق دون وضعها في مواضع شكره، قد صرفا أقوال الشّريعة عن الصراحة في الحثّ على اكتساب المال، وفي بيان محاسن اكتسابه لمن أقام نفسه في مقام السّعي والكدّ، لكي لا ينضمّ حثّها إلى ما في داعية النّفوس من الحرص على المال، تلك الداعية التي تضافرت نصوص الشريعة على إبرازها وبيانها بتعابير مختلفة قال تعالى: {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} الفجر:20، وقال: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} العاديات:8، وقال صلّى الله عليه وسلّم: «لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ لاَبْتَغَى ثَالِثًا، وَلاَ يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ، وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ»(2).
ومن هنا يتبيّن أنّه ليس من مقصود الشّريعة ثنيَ عزائم الطالبين للمال من السّعي في تحصيله إذا قصدوه من وجوهه وطرقه المشروعة، بدليل أنّها بيَّنت طُرقَ كسبه ووجوه صرفه من المصالح والمفاسد، رغبة ورهبة، ولم تغبنْ أصحاب الأموال بما يحصل لهم من الفضائل والدرجات بسبب أموالهم إن هم أنفقوها في مصارفها النافعة، قال الله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} البقرة:201-202.
دعوة الشريعة إلى تحصيل المال
ويَتأكَّد هذا الاتجاه بدعوة الشريعة الحثيثة إلى إصلاح المال وتنميته، ومن هنا جاءت دعوته صلَّى الله عليه وسلَّم إلى الاتِّجار في مال اليتيم حتّى لا تأكله الزكاة، قال صلَّى الله عليه وسلّم: “ابْتَغُوا في أمْوَالِ الْيَتَامَى، لَا تُذْهِبُهَا الصَّدَقَةُ“(3)، وقد حثَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه المسلمين على إصلاح أموالهم فقال: “مَنْ كَانَ لَهُ مَالٌ فَلْيُصْلِحْهُ وَمَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضُ لِيَعْمُرْهَا فَإِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يَجِيءَ مَنْ لَا يُعْطِي إِلَّا مَنْ أَحَبَّ“(4).
وكان السَّلف الصَّالح يوصون ويحثُّون على إصلاح المال لا بقصد جمعه وكنزه تباهيًا وتفاخرًا، ولكن بقصد الاستغناء به عن مذلة السّؤال والاحتياج إلى الغير والتّكثير لسبل الخير، وقد ذكر حكيم بن قيس عن أبيه أنّه أوصى بنيه فقال: “عَليْكُم بالمَال واصطِنَاعِه فَإنَّهُ مَنبَهَةٌ للكَرِيم ويُستَغنَى بِه عَن اللئِيم“(5).
وبهذا يتضح بطلان الاعتقاد بأنّ المال غير منظور إليه في الشّريعة بعين الرضا والتّرغيب، وتأكَّد لدينا أنّ الشّريعة تنظُر للمال إذا كان في دائرة المباح وحدود الحلال على أنّه عامل مهمّ يساعد الإنسان على القيام بدينه، قال محمد بن المنكدر: (نِعْمَ العَوْنُ عَلَى الدِّين الغِنَى)(6)، ويمكِّنه من صناعة المعروف وصلة الرّحم، قال الزبير بن العوام: “إِنَّ الْمَالَ فِيهِ صَنَائِعُ الْمَعْرُوفِ، وَصِلَةُ الرَّحِمِ، وَالنَّفَقَةُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَعَوْنٌ عَلَى حُسْنِ الْخُلُقِ…“(7)، وقال سعيد بن المسيِّب: «لَا خَيْرَ فِيمَنْ لَا يُرِيدُ جَمْعَ الْمَالِ مِنْ حِلِّهِ، يَكُفُّ بِهِ وَجْهَهُ عَنِ النَّاسِ، وَيَصِلُ بِهِ رَحِمَهُ، وَيُعْطِي مِنْهُ حَقَّهُ»(8).
وما كان هذه حاله من الأموال فإنّه لا مانع في جمعه وطلبه، بل الشّريعة تحثّ على ذلك ولا تعتبره من حبّ المال المذموم مادام أنّ الإنسان يصلح به نفسه وأهله وغيره من الخلق، قال سفيان الثوري: “لَيْسَ مِنْ حُبِّكَ الدُّنْيَا طَلَبُكَ مَا يُصْلِحُكَ فِيهَا“(9)، وقال: «الْمَالُ فِي هَذَا الزَّمَانِ سِلَاحُ الْمُؤْمِنِ»(10).
وهذا زمان سفيان الثوري، أمّا في زماننا فهو أشدّ من ذلك حيث يقضي به الإنسان ديْنَه، ويؤدّي به حقوقه ويصون به عرضه وإذا مات تركه ميراثًا لمن بعده.
وإذا كان المال من هذا القبيل فالشّريعة تحثّ على جمعه وتُحرِّض على السّعي في طلبه وحفظه والذَّوْد عنه حتّى اعتبرت من قُتِل دفاعًا عن ماله شهيدًا حيث قال صلّى الله عليه وسلّم: «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ»(11)، ورويَ عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: أنّه جاءه رجل فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ جَاءَ رَجُلٌ يُرِيدُ أَخْذَ مَالِي؟ قَالَ: «فَلَا تُعْطِهِ مَالَكَ» قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَاتَلَنِي؟ قَالَ: «قَاتِلْهُ» قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلَنِي؟ قَالَ: «فَأَنْتَ شَهِيدٌ»، قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلْتُهُ؟ قَالَ: «هُوَ فِي النَّارِ»(12).
إنّ الشريعة جعلت من مقاصدها العظمى تحقيق العزّة للأمّة بين الخلق، والسّيادة على باقي الأمم في الدّنيا، والشّهادة عليهم في الآخرة، ويستحيل أن تطلب من أفرادها ألا يسعَوْا في طلب المال إذا كان من وجوهه المشروعة وطرقه المطلوبة، قال صلّى الله عليه وسلّم: «يَا عَمْرُو، نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحِ لِلْمَرْءِ الصَّالِحِ»(13)، أو تطلب من الأمّة الرّضا بالفقر والتخلّف الاقتصادي وعدم السّعي في بناء الثروة، قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60].
(1) أخرجه البخاري، كتاب الجزية، باب الجزية والموادعة مع أهل الحرب (4/ 96) حديث رقم (3158) ومسلم، كتاب الزهد والرقائق (4/ 2273) حديث رقم (2961).
(2) أخرجه البخاري (8/ 92) حديث رقم (6436).
(3) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (4/ 179) حديث رقم (7338).
(4) أخرجه ابن أبي الدنيا في الإشراف في منازل الأشراف لابن أبي الدنيا (ص: 253) أثر رقم (316) وكنز العمال (15/ 526) أثر رقم (42033) وانظر: التراتيب الإدارية (2/ 36).
(5) أخرجه البخاري في الأدب المفرد (ص: 132) حديث رقم (361).
(6) مسند ابن الجعد (ص: 255) أثر رقم (1687) وحلية الأولياء وطبقات الأصفياء (3/ 149).
(7) إصلاح المال (ص: 46) أثر رقم (100).
(8) إصلاح المال (ص: 35) أثر رقم (55).
(9) الزهد لابن أبي الدنيا (ص: 110) أثر رقم (224).
(10) إصلاح المال (ص: 42) أثر رقم (79).
(11) أخرجه البخاري، كتاب المظالم والغصب، باب من قتل دون ماله (3/ 136) حديث رقم (2480) ومسلم، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من قصد أخذ مال غيره بغير حق، كان القاصد مهدر الدم في حقه، وإن قتل كان في النار، وأن من قتل دون ماله فهو شهيد (1/ 124) حديث رقم (141).
(12) أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من قصد أخذ مال غيره بغير حق، كان القاصد مهدر الدم في حقه، وإن قتل كان في النار، وأن من قتل دون ماله فهو شهيد (1/ 124) حديث رقم (140).
(13) أخرجه البخاري في الأدب المفرد (ص: 112) حديث رقم (299) وصححه ابن حبان (8/ 6) حديث رقم (3210).