الإشارة إلى محاسن التجارة وغشوش المدلسين فيها

قراءة في الكتاب: 

أولاً: أهمية الكتاب:

يعد كتاب الإشارة إلى محاسن التجارة من أبرز مصادر التراث الاقتصادي التي عالجت القضايا الاقتصادية بعمق وتركيز في عصره، وكتابه الذي بين أيدينا على صغر حجمه؛ فإنه يكشف عن عقلية فقهية مقاصدية من الطراز الأول كما سيأتي، وهو من أوائل العلماء الذين تكلموا في العُرُوض التجارية وما يتصل بالجيد والرديء منها، وأسماء السلع من الثمر والبز والعقار والفرش والماشية، فكان كلامه مرجعًا لمن تبعه، ويعد كتابه من أبرز وأهم المصادر التي تناولت أصول مهنة التجارة بالتفصيل في هذا الوقت المبكر.

ثانيًا: منهج الكتاب:

يتميز الكتاب باندماج الفكر الاقتصادي والتجاري مع النواحي الشرعية التفصيلية، فقد أكثر من الاستشهاد بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وأقوال الصحابة، ونقل عن كثير من العلماء والحكماء والفلاسفة والمصلحين والأدباء، وغير ذلك مما يشهد للمؤلف بالعلم والفضل معًا، والجمع بين العمق في الجانب الشرعي والاقتصادي والواقعي المجتمعي.

كما أبرز الدمشقي الكثير من سمات وخصائص الاقتصاد الإسلامي في كتابه؛ كالحض على التزام مكارم الأخلاق ومحاسن العادات، والقناعة بالكسب اليسير، والسماحة في المعاملات المالية والأنشطة الاقتصادية، والاستقامة في مزاولة التجارة، والنصح بالاعتدال في إنفاق المال، وتجنب المعصية في كسب المال وإنفاقه.

وحينما يقلب الباحث صفحات الكتاب على صغر حجمه؛ فإنه يلحظ من أول وهلة أنه أمام عالم من كبار علماء العلوم الشرعية والعلوم الدنيوية الكونية بأسرها، كما يعبر الكتاب عن استحضار بارع لسائر هذه العلوم، ومما يعبر عن ذلك ما ذكره في باب السياسة الشرعية، يقول: “الرئاسة التي تنال بها الحال الدنيوية مقسومة بين السيف والقلم. فأما رئاسة السيف: فللملوك والأمراء والحجاب وقواد العساكر ووجوه العشائر ورؤساء القبائل. وأما رئاسة القلم: فللوزراء والكتّاب والقضاة والخطباء ومن يجري مجراهم. وأصحاب السيوف هم الحماة، وأصحاب الأقلام هم الكفاة، وكل صناعة غير هاتين فليس يذكر صاحبها بعزٍّ …”([2])، وسيأتي مزيد من الأمثلة على ذلك.

ثالثًا: أقسام الكتاب:

وقد بدأ كتابه ببيان حقيقة المال وأقسامه والحاجة إليه، وأوضح أن المال في اللغة اسم للقليل والكثير من المقتنيات، وينقسم أربعة أقسام:

1-الصامت: وهو العين، ما ضرب من الدنانير، والوَرِق وهو الدراهم المضروبة. وبذلك فالمال الصامت عنده هو الدنانير الذهبية والدراهم الفضية، وسائر المصوغ منها.

2-العَرْض: ويشتمل على الأمتعة والبضائع والجواهر والحديد والنحاس والرصاص والخشب، وسائر الأشياء المصنوعة منها.

3-العقار: وهو صنفان، أحدهما: المسقف، وهو الدور والفنادق والحوانيت والحمامات والمعاصر والفواخير والأفران … الخ، والآخر: المزدرع، ويشمل البساتين والكروم والمراعي والغياض والآجام وما يحويه من العيون والحقوق في مياه الأنهار.

4-الحيوان: وتسمّيه العرب المال الناطق مقابلة لتسميتهم المال من العين والورق: المال الصامت، وهو ثلاثة أصناف: أحدها: الرقيق: وهو العبيد والإماء. والثاني: الكراع: وهو الخيل والحمير والإبل المستعملة. والثالث: الماشية: وهي الغنم والبقر والمعز والإبل السائمة المهملة([3])، وسيفصل القول عن كل نوع منها بعد ذلك.

وعلى بيان حقيقة وأقسام المال، وأسباب تحصيله، وكيفية تثميره والمحافظة عليه، والحذر من أي سبيل لضياعه، والاحتياط فيما ينفق منه، والنهي عن إضاعة المال والتفريط فيه… ستدور أقسام الكتاب.

رابعًا: بروز المنحى المقاصدي في طريقة عرض الكتاب:

فقد تناول المقاصد بدرجاتها: الضروريات والحاجيات والتحسينيات، عند حديثه عن موضع الحاجة إلى المال الصامت، فذكر “أن الإنسان من بين سائر الحيوان كثير الحاجات، فبعضها ضرورية طبيعية وهي كونه محتاجًا إلى منزل مبني، وثوب منسوج، وغذاء مصنوع. [وفي هذا إشارة إلى الضروريات المعروفة، وهي الغذاء والكساء والمأوى].

وبعضها عرضية وضعية؛ كحاجته عند اللقاء إلى ما يقيه من عدوه، وإلى ما يقاتل به، وحاجته عند المرض إلى أدوية مركبة من عقاقير وأشربة، [وفي هذا إشارة إلى أمور حاجية؛ كالحاجة إلى السلاح في مواجهة العدو، وإلى الدواء وقت السقم]، ثم تحدث بعد ذلك عن أمور كمالية…”.([4])

كما تحدث عن مقصود التسخير والتعاون في أمر المعايش، وضرورة الاجتماع ليعين الناس بعضهم بعضًا، لأن الإنسان عاجز عن أن يحيط بالصناعات كلها من أولها إلى آخرها، يقول: “ولأن الصناعات مضمومة بعضها إلى بعض؛ كالبنّاء يحتاج إلى النجار، والنجار يحتاج إلى الحداد، وصُنّاع الحديد يحتاجون إلى صناعة أصحاب المعادن، وتلك الصناعات تحتاج إلى البنّاء، فاحتاج الناس لهذه العلة إلى اتخاذ المدن والاجتماع فيها؛ ليعين بعضهم بعضًا لما لزمتهم الحاجة إلى بعضهم بعضًا”.([5])

ثم ناقش أهمية النقود وضرورتها، وتطرق إلى بيان كيفية اختبار الذهب والفضة كيميائيًا وتحديد الصحيح منه والمزيف أو المغشوش، يقول: “ما يمتحن به الذهب والفضة فتعلم جودته، فتؤمن مغبة غشوش المدلسين فيه. فأما الذهب: فمن ذلك الحمي في النار، فمتى كان فيه جسم آخر من النحاس أو الفضة اسودّ أو اخضرّ وتغيرت سحنته. وقد يمكن بعض حذاق المدلسين في تدبيرات الذهب الغش بما يحسنه في الحمى، ومنه الوزن بتأمل الثقيل والطنين، ولا ينتفع بهاتين العلامتين إلا من تدرب من الصيارف والمدركين والصاغة، فإن للذهب من الثقل وتلزز الأجزاء صفة لا يدانيه فيها ما يُغش به…”. ([6])

ومما يكشف عن بروز المنحى المقاصدي في كتابه: ما ورد في أثناء حديثه عن مقاصد المهن والصنائع، يقول: “… الطبيب أفضل من النجار، بيان ذلك أن موضوع الطبيب الذي ينظر فيه، ويبين أثر صناعته أبدان الناس، وموضوع النجار الذي ينظر فيه ويبين أثر صناعته الخشب، وأبدان الناس أفضل من الخشب. وأما من قبل الغاية فإن غاية الطبيب حفظ الصحة الموجودة، وإعادة الصحة المفقودة، وغاية النجار تأليف الخشب على الصورة القائمة في نفس السرير والباب، وحفظ الصحة على الأبدان السقيمة أفضل من عمل الباب والسرير…”.([7])

كما بدت الوجهة المقاصدية في أجلى صورها عندما أفرد فصلاً كاملاً للحديث عن محاسن التجارة، يقول: “التجارة إذا ميزت من جميع المعايش كلها وجدتها أفضل وأسعد للناس في الدنيا، والتاجر موسع عليه وله مروءة، ومن نبل التاجر أن يكون في ملكه ألوف كثيرة، ولا يضره أن يكون ثوبه مقاربًا…”.([8])

وكذلك في مجموعة الفصول التي ختم بها كتابه، وتحدث فيها عن: كيفية حفظ المال، وذكر أن ذلك يحتاج إلى خمسة أشياء: “أولها: ألا ينفق الإنسان أكثر مما يكتسب؛ لأن ذلك يؤدي إلى فناء المال. والثاني: ألا يكون ما ينفق مساويًا لما يكسب بل يكون دونه؛ ليبقى ما يكون عنده لنائبة لا تؤمن، أو آفة تنزل، أو تجارة تكسد. والثالث: أن يحذر الرجل من أن يمد يده إلى ما يعجز عنه وعن القيام به؛ مثل من شغل ماله في قرية يعجز عن عمارتها، أو في ضياع متفرقة لا يمكنه مباشرتها وليس عنده أعوان ولا كفاة يقومون له بها. والرابع: ألا يشغل الرجل ماله بالشيء الذي يبطئ خروجه عنه، وإنما يكون ذلك مما يقل طلابه؛ لاستغناء عوام الناس عنه كالجوهر الذي لا يحتاج إليه إلا العظماء والملوك. والخامس: أن يكون الرجل سريعًا إلى بيع تجارته بطيئًا عن بيع عقاره، وإن قلّ ربحه بالتجارة وكثر في بيع العقار”.([9])

كما تحدث عن المحاذير التي يجب اعتبارها عند إنفاق المال، فبين أنه ينبغي أن يحذر فيه خمس خصال:

اللؤم: وهو الإمساك عن أبواب الجميل.

والتقتير: وهو التضييق فيما لا بد منه من أقوات الأهل ومصالح العيال.

والسرف: وهو الانهماك في اللذات واتباع الشهوات.

والبذخ: وهو أن يتعدى الرجل ما يتخذه أهل طبقته وطوره فيما يتغذى به.

وسوء التدبير: وهو أن لا يوزع نفقته في جميع حوائجه على التقسيط والاستواء.([10])

وخصص فصلاً مهما عن الاحتياط فيما ينفق، وآخر عن موقع الحاجة إلى صيانة المال، وثالث في النهي عن إضاعة المال والتفريط فيه، وكلها مباحث مقاصدية في غاية الأهمية، وقد أتى فيها بالكثير وأبدع أيما إبداع، ومن ذلك ما نقله عن بعض الحكماء: “ليس للحازم أن يشغل نفسه وفكره بما ذهب منه إلا أن يكون على سبيل الاعتبار، ولكن ينبغي أن يعتني بحفظ ما بقي، وكذلك: إن تثمير المال آلة المكارم وعون على الدين، ومتألف الإخوان، وإن من فقد ماله قلت الرغبة فيه والرهبة منه، ومن لم يكن بموضع رغبة ولا رهبة استهان الناس به”.([11])

خامسًا: تناول بعض مسائل المعاملات المالية والاقتصادية:

ومن ذلك تطور النقود عبر التاريخ كوسيلة للتبادل ومخزون للقيمة، وأشار إلى الضرورات التي ألجأتنا إلى استعمال الذهب والفضة كوسيلة للتبادل بعد عجز عملية المقايضة عن تلبية الاحتياجات المتباعدة القيمة، يقول: “فلما كان الناس يحتاج بعضهم إلى بعض، ولم يكن وقت حاجة كل واحد منهم وقت حاجة الآخر، حتى إذا كان واحد منهم نجارًا فاحتاج إلى حداد فلا يجد، ولا مقادير ما يحتاجون إليه متساوية، ولم يمكن أن يعلم ما قيمة كل شيء من كل جنس، وما مقدار العرض عن كل جزء من بقية الأجزاء من سائر الأشياء، فمتى احتاج الإنسان إلى شيء مما يباع أو يستعمل دفع قيمة ذلك الشيء من ذلك الجوهر الذي جعل ثمنًا لسائر الأشياء… وبسبب الاختلاف في قيمة وحجم السلع المتبادلة؛ نظرت الأوائل في شيء يثمن به جميع الأشياء، فوجدوا جميع ما في أيدي الناس، إما نبات أو حيوان أو معادن، فاختاروا من المعادن الأحجار الذائبة الجامدة، ثم أسقطوا منها الحديد والنحاس والرصاص… ووقع إجماع الناس كافة على تفضيل الذهب والفضة؛ لسرعة المواتاة في السبك والطرق والجمع والتفرقة والتشكيل بأي شكل أريد، مع حسن الرونق، وعدم الروائح والطعوم الرديئة، وبقائهما على الدفن، وقبولهما العلامات التي تصونهما، وثبات السمات التي تحفظهما من الغش والتدليس، فطبعوهما وثمنوا بهما الأشياء كلها. ورأوا أن الذهب أجل قدرًا في حسن الرونق وتلزز الأجزاء والبقاء على طول الدفن، وتكرار السبك في النار، فجعلوا كل جزء منها بعدة من أجزاء الفضة، وجعلوهما ثمنًا لسائر الأشياء، فاصطلحوا على ذلك ليشتري الإنسان حاجته في وقت إرادته، وليكون من حصل له هذان الجوهران، كأن الأنواع التي يحتاج إليها حاصلة في يده مجموعة لديه متى شاء، فلذلك لزمت الحاجة في المعاش إلى المال الصامت”.([12])

كما تكلم عن نظرية الثمن والقيمة، وطريقة تحديد السعر العادل للسلعة، وأهمية اعتماد رأي أهل الخبرة الثقات، يقول: “المعرفة بالقيمة المتوسطة لسائر الأعراض، إما بتثمين ما يثمن من الأعراض، ومبلغ قيمته المتوسطة، فهو بالإضافة إلى المكان الذي يلتمس معرفة ذلك فيه… والوجه في تعرف القيمة المتوسطة أن تسأل الثقات الخبيرين عن سعر ذلك في بلدهم على ما جرت به العادة أكثر الأوقات المستمرة، والزيادة المتعارفة فيه والنقص المتعارف، والزيادة النادرة والنقص النادر، وتقيس بعض ذلك ببعض مضافًا إلى نسبة الأحوال التي هم عليها من خوف أو أمن، ومن توفر وكثرة أو اختلال، وتستخرج بقريحتك لذلك الشيء قيمة متوسطة أو تستعملها من ذوي المعرفة والأمانة منهم؛ فإن لكل بضاعة ولكل شيء مما يمكن بيعه قيمة متوسطة معروفة عند أهل الخبرة به”.([13])

ولم يكتف الدمشقي بتناول العديد من مسائل المعاملات المالية والاقتصادية في كتابه، بل كشف في أثناء تناوله لهذه المسائل عن العارضة الأصولية التقعيدية.

ومن ذلك: إشارته في كتابه إلى مجموعة من القواعد والضوابط المالية والاقتصادية التي ذكرها مستشهدًا ومرجحًا ومبينًا مراده من خلال إيرادها في شرحه وبيانه لبعض مسائل المعاملات المالية والأنشطة الاقتصادية، ومنها على سبيل المثال:

“لكل بضاعة قيمة متوسطة معروفة عند أهل الخبرة به…

اشتر غالي الرخيص ولا تشتر رخيص الغالي…

الأشياء ترجع إلى حقائقها ومتوسطاتها وإن تمادت على خلاف ذلك وقتًا ما…

سعادة البضاعة تدل على عودتها إلى حالها الأول”([14])

“الاحتياط واجب في شراء الأملاك…

الشراء لا يكون إلا من ثقة مأمون له ذمة وهو مقيم معك في البلد…

المستغني عن الشيء ينظر إليه بنظر سالم من الشهوة ويفكر فيه بعقل خالص من الهوى والرغبة، وذو الحاجة يستحسن غير الحسن ويهون عنده غير الهين”([15])

“الرئاسة التي تنال بها الحال الدنيوية مقسومة بين السيف والقلم…

الصناعة في الكف أمان من الفقر وأمان من الغنى…

مبنى البيع على المسامحة”([16])

ما نفقت بضاعة من كثرة وإنما تنفق من قلتها وقلة طلاّبها”.([17])

ومن أهم القضايا الاقتصادية التي ناقشها: أسباب الحصول على الأموال، فقد أبدع في جوانب التحليل المالي والاقتصادي، كما كان بارعًا في التقسيم والتبويب، يقول: “جميع أسباب حصول الأموال تأتي من جهتين: إحداهما: من طريق القصد والطلب، وهو ينقسم ثلاثة أقسام: إما اكتساب مغالبة، ويتحصل من جهتين: سلطانية؛ كالجبايات والخراج والأعشار والصدقات. وخارجية: وهي صنفان: معلن؛ كقطع الطريق والنهب والغارات، ومستتر؛ كالسرقة. أو اكتساب بنوع من الاحتيال: وهي إما تجارة أو صناعة أو أمر مركب منهما. أو اكتساب بأمر مركب من مغالبة واحتيال؛ كتجارة السلطان، ومعاملات ذوي الجاه العريض.

والأخرى: من طريق المصادفة والعرض؛ كالمواريث عن الآباء والأهل والأقارب وكذلك الركاز”.([18])

وفصَّل في حديثه عن التاجر وعن بضاعته: أصناف التجار، فذكر الخَزَّان: وهو تاجر الجملة المحتكر. والرَّكَّاض: وهو التاجر المتجول أو المستورد. والمُجَهِّز: وهو المصدِّر، كما تحدث عن الوكالات التجارية، وبين أنه يجب على المجهز أن ينصب له في الموضع الذي يجهز إليه وكيلاً مأمونًا يقبض البضائع التي يصدرها إليه، ثم لا ينفذ بضاعة إلا مع الأصحاب الثقاة الذين يدعونها، ويتولى هذا القابض بيعها وشراء الأعواض عنها وله حصة في الربح.([19])

وإذا كان الكتاب عن محاسن التجارة، فإن الدمشقي قد خصص أطول فصول الكتاب لتوجيه مجموعة من الوصايا النافعة لسائر التجار، وذكر أنه يجب على التاجر ألا يصدق لأحد من السماسرة قولاً، ولا يقبل لهم نصحًا؛ فإنها صناعة مبنية على الكذب، ثم حدد أهم الصفات التي ينبغي أن يتحلى بها التاجر الناجح، ومنها:

معرفة الغشوش والمدلسين.

الحذر في تصديق السماسرة لما سبق بيانه.

الاحتراس في تصديق أحاديث التجار.

الاستعانة بالثقاة والأعوان.

الشراء من زاهد، والبيع إلى راغب.

الاعتدال في نسبة الربح، وعدم الإفراط فيه.

لزوم ما تحققت فيه البركة من أنواع التجارات.

المسامحة في البيع؛ لأنها أحد أبواب المعيشة ومجلبة للرزق.

كما طالب التاجر الناجح بأهمية التحرز من خطر المطمعين والمزيفين، وكذلك التحرز من المبرطخين (وهم من شر الخونة) والمحتالين؛ خوفًا من النصب والاحتيال. وكذلك الممخرقين المموهين والمنمنمين من أهل الربا الذين يصيدون الدنيا بالدين.([20])

إن من يتأمل فيما كتبه الدمشقي يجد أننا أمام عالم كبير تخصص في مجالات عدة، ففي حديثه عن السكر الأبيض والأحمر، يشعر الباحث أنه أمام عالم كبير في مجال صناعة السكريات، وخبير محنك بأنواع السكر، وأفضل كل نوع وأردأه، ومدة صلاحيته وكيفية الحفاظ عليه لأطول وقت ممكن، يقول: “متى حفظ ذلك من النداوة والفأر يبقى مدة طويلة، وأفضل السكر الأبيض ما صلب منه وصفا لونه. وأفضل الأحمر ما كان بهذه الصفة، وأردأ كل رديء منه ما مال لونه إلى السواد وطعمه إلى الملوحة”.([21])

كما تجد الدقة والخبرة البالغة عند إسداء النصيحة للمشتري، فقد ذكر عند حديثه عن الحيوان: “يجب في كل ما تشتريه ألا تعول على أول نظرة فقد قيل: أول نظرة سحر. وقيل: اتهم نظرك فيما تستحسن حتى يكون الاستحسان على حال واحد لا ينقصه تكرار النظر؛ فإن تكرار النظر يجلو كل صدأ، فإذا تكرر وثبت في الأوقات المختلفة على حال واحد في الجَمَال فهو الجميل حقًّا، فإن زاد فهو الغاية القصوى، وذلك الذي قصده الشاعر بقوله:

يَزِيدُكَ وَجْههُ حُسْنًا                      إِذَا مَا زِدْتَهُ نَظَرًا.

وبين نظر الراغب في الشيء أو المحتاج إليه، وبين نظر الزاهد فيه بون بعيد، وذلك أن المستغني عن الشيء ينظر إليه بنظر سالم من الشهوة ويفكر فيه بعقل خالص من الهوى والرغبة. وذو الحاجة يستحسن غير الحسن، ويهون عنده غير الهين…”.([22])

وإنك إذا قرأت وصف الدمشقي للمخازن ولطرق التخزين الصحيحة، ستدرك أنك أمام عالم معمار كبير تخصص في تصميم المخازن، وطرق التهوية ووسائل الحفظ من الآفات…، يقول: “كل ما كان من المخازن ناشفًا وحيطانه وأرضه ناشفة من البلل والنداوة، فإن كانت أرضه مبلطة فهو أفضل، وذلك أن الذي يخزن من الغلات في المواضع الندية لا يكاد أن تبقيه الحرارة العفنة، فيجب أن يكون بابه وطاقاته التي للضوء إلى جهة المشرق؛ لأنها مهب ريح الصبا، وهي أقل الرياح رطوبة وعفنًا، وكذلك يفعل في خزن الشعير سوى بعض ما قيل في خزن الحنطة وحفظها… وأكثر آفات هذه الأشياء الفأر، فيجب أن يخزن في المخازن المبلطة ذوات الحيطان المحكمة، ويجعل فيها في بعض الأوقات السنانير ومصائد الفأر، والأدوية التي تسحق وتعجن بالدقيق والخبز لقتل الفأر”.([23])

وإنك اليوم إذا أردت أن تدخل إلى مجال العقارات للسكن أو للاستثمار العقاري، فلابد أن تستفيد من نصائح وتوجيهات الدمشقي، حيث يقول: “أما ما يعم جميعه من محمود الصفات فأفضله ما خلص من الاشتراك؛ للراحة من الخصومات والمناظرات، ومما ينتج من العداوات، وما كانت أصول ملكه سليمة من الغصب والوقف والتحبيس والحكر، وهو من أفضل الأموال مع العدل الشامل والأمن الكامل؛ لأنه يجر مالاً بصناعة وبغير صناعة”.([24])

بل عليك أن تستوعب ما قاله عند البيع أو الشراء، وأن تأخذ بكل أنواع الاحتياط، وأن تحذر من التساهل في هذا الأمر، ولهذا فإن عليك أن تستوثق وتختار الشخص الذي ستشتري منه، وأن تستوفي كامل المستندات، وأن تأخذ بكل سبل التوثيق؛ حيث يقول: “ويجب أن تحتاط في شراء الأملاك، فلا تشتر إلا من ثقة مأمون له ذمة، وهو يقيم معك في البلد قاطن؛ لتأمن حيلة تتم عليك في ادّعاء رقبة الملك بكتاب حبس متقدم أو صدقة أو مناقلة أو شيء من وجوه التمليكات متقدم العهد، وتطلب من البائع كتب الأصول؛ لتكون حجة معك؛ فإن لم يدفعها إليك، وقال: أنا أريدها أيضًا حجة بيدي، فبها ساغ لي البيع، فتأخذ نسختها وتشهد فيها الشهود، ويجب أن تحتاط في الشهادة وتسأل عن الشهود…”.([25])

وهو قبل ذلك يشير إلى ما يمتاز به الاقتصاد الإسلامي من قيم ومبادئ أخلاقية لن تجدها في غيره، فيذكر في حديثه عن العلاقة بين المؤجر والمستأجر: “وإن أتى إليه من السكان من يشتكي فقرًا متضررًا؛ أرفقه وسامحه، أو من يسأل النظِرَة أجابه وأحسن عشرته”([26]). فرغم أن عقد الإجارة من عقود المعاوضات المالية القائمة على مبادلة مال بمال، إلا أنه حث على الإرفاق والإحسان وحسن الخُلق في التعامل مع المستأجر، وأن يترك له الأجرة إن كان فقيرًا أو متضررًا، أو يُنْطِره إلى حين ميسرة إن كان معسرًا، ورعاية هذا الجانب الأخلاقي التكافلي في المجتمع، والحث عليه، من أهم ما يمتاز به الاقتصاد الإسلامي عن الاقتصاد الغربي المادي، الذي لا مكان للأخلاق فيه.

وأما إذا أردت أن تستثمر في المجال الزراعي، فلابد أن تستفيد كذلك من خبرة ونصائح الدمشقي؛ حيث يقول: “وأفضلها ما قرب من البلاد الجامعة، وكان جيد التربة، كثير الماء، قليل الخراج؛ مجاورًا لأهل السلامة…” ([27])، ثم انطلق يشرح هذه المعايير التي يجب أن يراعيها كل من أراد الدخول في هذا المجال، بنوع من الفهم والإحاطة والشمول والواقعية.

وكل هذه الأمور تكشف عن خبرة وفهم علماء العصر الأول، وشدة احتكاكهم بل التصاقهم بالمجتمع الذي يعيشون فيه، ومعرفتهم بالداء والدواء لعلل المجتمع؛ لأنهم لا يعيشون في معزل عنه، يكتبون ويُنظِّرون بلا معرفة واحتكاك بالمجتمع، وإنما عاشوا في القلب منه، وكانت لهم خبرة وممارسة ودراية بالصنائع والحرف والتجارات، والجيد والرديء، والسليم والمغشوش…

بقيت الإشارة إلى: أن الدمشقي قد ناقش مجموعة من المسائل الاقتصادية النظرية، كتحديد الأسعار في السوق ومتوسط السعر والقيمة والنقود وغير ذلك. كما تناول الوسائل الاقتصادية لحفظ المال، وما يجب أن يحذر في إنفاقه. وناقش موضوع ميزانية الأسرة وتنظيم الإنفاق العائلي، وغيرها من المسائل الاقتصادية.

وكتاب الدمشقي يندرج تحت ما يُعرف في عصرنا بالنظرية الاقتصادية الإسلامية، فمحاسن التجارة والربح وحيل السماسرة والتجار، وأنواع أموال التجارة وغيرها، يندرج ضمن النظرية الاقتصادية الإسلامية.

سادسًا: تعقيب عام على الكتاب:

وختامًا: فإن كتاب الإمام الكبير أبي الفضل جعفر بن علي الدمشقي من المؤلفات المعيارية، التي كلما قرأتها كلما تعلمت منها في كل مرة فوائد جديدة، واكتشفت أبعادًا لم تقف عليها.

كما أنه يعد مصدرًا مهمًّا في بيان أصول مهنة التجارة في عصره وإلى يومنا، ويُظهر كتاب الدمشقي أنه عالم دقيق الملاحظة واسع الخبرات، فما طرق مجالاً من المجالات إلا وجدته خبيرًا فيه، مُلمًّا بكل جوانبه.

وأنه عاش في قلب وعقل مجتمعه، مستشعرًا آلامه وآماله وطموحاته، وكان دقيقًا وخبيرًا في كل ما تناول من قضايا، ومن ذلك حديثه عن تنظيم الإنفاق العائلي والاحتياط في الشراء والإنفاق، والتحسب لأوقات الجوائح والأزمات، حيث يقول: “الاحتياط فيما يُنفِق هو بأن يشتري ما تدعو إليه الحاجة من الأقوات من بيادرها وقت كثرتها وتفر جلبها… ويحتاط عليه، ويخزنه في مواضع مفردة، ويطلق للعائلة منه في كل شهر بقدر ما يحتاجون إليه، ويستظهر في الحنطة والشعير والحبوب بأن يخزن ما يحتاج إليه من ذلك لسنتين كاملتين أبدًا؛ لما لا يؤمن من جوائح الغلات والحصارات وما جرى مجراها”.([28])

إن كتاب الدمشقي يعد من المصادر الأولى التي تطرقت لكثير من الجوانب المهمة في التعامل مع المال وغيره بنوع كبير من الاحتياط والانضباط، ومراعاة ما قد يطرأ من أزمات أو محن أو جوائح، وكل ذلك يحتم على الإنسان القصد والاقتصاد والاعتدال في الإنفاق والاستهلاك.

بقيت الإشارة إلى تحقيق الكتاب:

فهو تحقيق علمي جيد، خدم الكتاب خدمة كبيرة، واجتهد المحقق في تخريج الآيات والأحاديث والآثار الواردة في الكتاب.

وأما الفهارس العلمية: فقد أورد المحقق فهرسًا للأشعار، وكشّافًا عامًّا بترتيب الحروف الأبجدية، وفهرسًا لمصادر ومراجع التعليق على الكتاب، ثم فهرسًا للموضوعات.

ويؤخذ على المحقق: أنه لم يورد فهرسًا للآيات القرآنية، ولا فهرسًا للأحاديث النبوية، ولا فهرسًا للآثار، ولا فهرسًا للأعلام…