يندرج هذا الكتاب ضمن سلسلة المصادر التراثية الأصيلة، التي سنتناولها تباعًا، وتهدف إلى بلورة الفكر الاقتصادي الإسلامي، ومن هذه الكتب أيضًا: أحكام السوق للكناني، وإصلاح المال لابن أبي الدنيا، والإشارة إلى محاسن التجارة للدمشقي، والبركة في فضل السعي والحركة للحبشي، وغيرها من مصادر الفكر الاقتصادي الإسلامي التي سنستعرضها تباعًا.

كما أن هذا الكتاب الماتع يندرج تحت ما يُعرف بالنظرية الاقتصادية الإسلامية، فالتجارة والصناعة والعمل من أبرز قضايا النظرية الاقتصادية الإسلامية، وقد اقترب الكتاب في الكثير من موضوعاته من كتاب: “الكسب” للإمام محمد بن الحسن الشيباني، ت: 187هـ، مما يوعز بأن مؤلفه اطلع عليه واستفاد منه.

وقد تناول المؤلف مسألة شديدة الأهمية في الاقتصاد الإسلامي، وهي مسألة السعي وطلب الرزق الحلال، وذلك من خلال الحث على التماس ذلك من طرقه المشروعة بالعمل في التجارة والصناعة وغيرها من طرق الكسب، وبيان تفاوت الناس في ذلك بين فريق منغمس في الدنيا، مضيع لدينه وما يجب عليه نحو ربه وآخرته، وفريق تواكل وتكاسل مدعيًّا التوكل فترك العمل والسعي وزهد فيهما، فضيع نفسه ومن يعول.

وقد دار الكتاب حول محور واحد: وهو العنوان الذي عنونه به مؤلفه، فقد ارتكز حوله بصورة كبيرة لم يخرج عنها كثيرًا، فدارت صفحات الكتاب في هذا الإطار، وقد بلغ عدد النصوص الواردة في كتابه ثمانية وعشرين ومائة.

وقد جاء الكتاب في ثلاثة أبواب، نستعرضها على النحو التالي:

الباب الأول: النصوص التي وردت في الحث على التجارة والصناعة والعمل.

أولاً: تنبيه على أمر منهجي في الكتاب: من اللافت للنظر أن الإمام الخلال يستدل بالأحاديث والآثار وأقوال العلماء دون مراعاة ترتيب لها إلا ما يراه أولى بالتقديم بصرف النظر عن درجته وحجيته، فقد يُقدِّم رأي الإمام أحمد على الحديث كما فعل في مستهل كتابه([3])، الذي بدأه بحشد الأقوال التي تحث على العمل والتجارة في السوق وغيرها، وذكر المقصود من ذلك وهو الاستغناء عن الناس، وأن يكون المال عونًا للمرء في قضاء دَيْنِه، وصون دِينِه وعرضه وحسبه، ويتركه ميراثًا لمن بعده، وبيان ما يترتب عليه من كفاية النفس، وصلة الرحم، والتصدق بالفضل على ذوي القرابة، واستفتحه بذكر ما ورد عن أبي بكر المروذي، قال: سمعت رجلاً يقول لأبي عبد الله رحمه الله([4]): إني في كفاية، فقال: «‌الزَم ‌السُّوق، ‌تصلُ ‌به ‌الرَّحِمَ ‌وتَعودُ ‌به».

ولعل التفسير المنطقي للكثرة الملحوظة للروايات عن الإمام أحمد في الكتاب: أن الفترة التي عاشها الإمام الخلال كانت فترة تأسيس وبلورة وجمع للمذاهب الفقهية، والخلال جامع مذهب وعلم الإمام أحمد ومرتِّبه، ولهذا كان حريصًا على إيراد كل ما ورد عنه في الموضوع من خلال أصحاب الإمام أحمد الذين هم رواة المسائل.

ثانيًا: وضوح المنحى المقاصدي في الكتاب: فقد بدا المنحى المقاصدي واضحًا في كل ما أورده الإمام الخلال في كتابه.

ومن ذلك: بيانه لمقاصد السعي والعمل: وفي جميع الآثار التي أوردها في هذا الباب حث متواصل على التجارة والصناعة والعمل، من عدة مداخل ومقاصد ومرغبات ومحفزات على السعي والعمل:

منها: صلة الرحم وكفاية الأبناء والأصحاب.

ومنها: أنه أطيب الكسب.

ومنها: أن فيه استغناء عن الناس.

ومنها: أن الغنى من العافية.

ومنها: أهمية القوة المادية، فالمال في هذا الزمان سلاح.

ومنها: ألا يكون عالة على المسلمين.

ومنها: أن طلب الحلال فريضة.

ومنها: الأنبياء أفضل الخلق كانوا يُؤَاجِرون أنفسهم، وكانوا أصحاب حرف.

ومنها: الرفق والاقتصاد في النفقة.

ومنها: اتقاء ألسنة الناس.

ومنها: التاجر خير من الجالس.

ومنها: السعة في المال عون على الدِّين.

ومنها: التاجر الأمين أفضل ممن يترك التجارة ويقبل على الصلاة.

ومنها: المال مَنْبَهةُ الكريم، ويُسْتغنى به عن اللئيم.

ومنها: يُكْتَسب المال لقضاء الدَّيْن والحقوق وصون العرض، ويُتْرك ميراثًا لمن بعده.

ومنها: نِعْمَ المال الصالح للمرء الصالح.

ومنها: الفقر هو الموت الأكبر.

ومنها: الموت في السعي أفضل من الموت على الفراش.

ومنها: التاجر الصدوق الأمين مع السبعة في ظل عرش الله يوم القيامة.

ومنها: كفى بالمرء إثمًا أن يضيع من يَقُوت.

ومنها: السعي والعمل كالجهاد في سبيل الله.

وكذلك إشارته لمقصد مهم من مقاصد الكسب: وهو طاعة الله تعالى في كسب المال وإنفاقه، ورجاء مغفرته ورضوانه عن تعبه في تحصيل المال وتحري الحلال، فبسنده إلى شعيب بن حرب، قال: «لَا تَحْقِرَنَّ فِلْسًا تُطِيعُ اللَّهَ فِي كَسْبِهِ، ‌لَيْسَ ‌الْفِلْسُ ‌يُرَادُ، إِنَّمَا الطَّاعَةُ تُرَادُ، عَسَى أَنْ تَشْتَرِيَ بِهِ بَقْلًا فَلَا يَسْتَقِرُّ فِي جَوْفِكَ حَتَّى يُغْفَرَ لَكَ». ([5])

 

وكذلك مقصد الاعتدال في تحصيل المال وإنفاقه: فقد أورده في الأثر الثالث عشر الذي رواه عن الإمام أحمد:

“قَلِيلُ المالِ تُصْلِحُهٌ فَيَبْقَى   …..  وَلا يَبْقَى الْكَثِيرُ مَعَ الْفَسَادِ”.([6])

والمقصود من ذلك: بيان أثر التعامل مع المال بصورة منضبطة دون إفراط ولا تفريط، ودون إسراف ولا تقتير، وما يترتب عليه من بقاء المال ونموه. وعلى الجانب المقابل: ذكر ما يترتب على التعامل الفاسد مع المال الكثير من ضياعه وذهابه بصورة سريعة.

ومن الملحوظ: تكرر الكثير من المعاني في الروايات التي استشهد بها في كتابه، فنفس المعنى السابق أورده في الأثر الذي يليه عن عمر بن الخطاب t قال: «‌الْخَرَقُ ‌فِي ‌الْمَعِيشَةِ ‌أَخْوَفُ عِنْدِي عَلَيْكُمْ مِنَ الْعَوَزِ، لَا يَقِلُّ شَيْءٌ مَعَ الْإِصْلَاحِ وَلَا يَبْقَى شَيْءٌ عَلَى الْفَسَادِ». ([7])

كما نص على مقصد الرفق والاقتصاد في النفقة والتحسب لقابل الأيام، وذلك بما أورده بسنده إلى: “أحمد بن محمد بن خالد البراثي، قال: قال لي بشر بن الحارث لما بلغه ما أنفق علينا من تركة أبينا: قد غمني ما أنفق عليكم من هذا المال، فعليكم بالرفق والاقتصاد في النفقة؛ فلأن تبيتوا جياعًا ولكم مال، أعجب إليَّ من أن تبيتوا شباعًا وليس لكم مال. وقال لي بشر موصولاً بكلامه ومسائله: قد بلغني أنك لا تلزم السوق، فالزم السوق، ثم دار بيني وبينه كلام، فأعاد عليَّ: الزم السوق وإن لم، فوقع في قلبي أراد: وإن لم تربح، وقال: اقرأ على والدتك السلام، وقل لها: عليك بالرفق والاقتصاد في النفقة”. ([8])

ثالثًا: بعض المسائل الفقهية والاقتصادية في الباب:

ومن ذلك : تقديم الكسب على الصلاة في جماعة حال الحاجة، وهي من المسائل المهمة التي أوردها في كتابه، وذلك إن ترتب على المحافظة عليها في جماعة عدم تحصيل حد الكفاية لنفسه وأبنائه من المال، فبسنده إلى شعيب قال: قُلْتُ لِسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ: مَا تَقُولُ فِي رَجُلٍ قَصَّارٍ([9])، إِذَا اكْتَسَبَ الدِّرْهَمَ كَانَ فِي الدِّرْهَمِ مَا يَقُوتُهُ وَيَقُوتُ عِيَالَهُ لَمْ يُدْرِكِ الصَّلَاةَ فِي جَمَاعَةٍ، فَإِذَا اكْتَسَبَ أَرْبَعَةَ دَوَانِيقَ، أَدْرَكَ الصَّلَاةَ فِي جَمَاعَةٍ، وَلَمْ يَكُنْ فِي الْأَرْبَعَةِ الدَّوَانِيقِ مَا يَقُوتُهُ وَيَقُوتُ عِيَالَهُ، فَأَيُّهَا أَفْضَلُ؟ قَالَ: «‌يَكْسِبُ ‌الدِّرْهَمَ ‌وَيُصَلِّي ‌وَحْدَهُ ‌أَفْضَلُ». ([10])

كما بيَّن أهمية المال كقوة للإنسان في زمانه، وأورد لذلك آثارًا عديدة منها ما رواه بسنده إلى سفيان الثوري، قال: «الْمَالُ فِي هَذَا الزَّمَانِ سِلَاحٌ». ([11])

وأكد المعنى بصورة عكسية في حديثه عن ذم الفقر، فقد نقل بسنده إلى “ابن منبه، قال: الفقرُ هو الموتُ الأكبرُ”. ([12])

ومنها: أهمية التوكل على الله تعالى والأخذ بالأسباب والسعي في الأرض؛ وذلك لأن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة، وقد كان هذا سبيل الأنبياء والصالحين، أورد بسنده إلى: “الفيض بن إسحاق، قال: «سَأَلْتُ الْفُضَيْلَ بْنَ عِيَاضٍ، قُلْتُ: ‌لَوْ ‌أَنَّ ‌رَجُلًا ‌قَعَدَ ‌فِي ‌بَيْتِهِ، زَعَمَ أَنَّهُ يَثِقُ بِاللَّهِ فَيَأْتِيهِ بِرِزْقِهِ؟ قَالَ: يَعْنِي إِذَا وَثِقَ بِهِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهُ قَدْ وَثِقَ بِهِ، لَمْ يَمْنَعْهُ شَيْءٌ أَرَادَهُ، وَلَكِنْ لَمْ يَفْعَلْ هَذَا الْأَنْبِيَاءُ وَلَا غَيْرُهُمْ، وَقَدْ كَانَتِ الْأَنْبِيَاءُ يُؤَاجِرُونَ أَنْفُسَهُمْ، وَكَانَ النَّبِيُّ r آجَرَ نَفْسَهُ، وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَلَمْ يَقُولُوا: نَقْعُدُ حَتَّى يَرْزُقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ: ﴿وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ﴾ [الجمعة: 10]. فَلَابُدَّ مِنْ طَلَبِ الْمَعِيشَةِ». ([13])

ومنها: العمل من أهم أركان العملية الاقتصادية: فمن روائعه الاقتصادية التنبيه على ركن مهم من أركان العملية الاقتصادية التنموية، وهو العمل وتنمية طاقات الإنسان، والأخذ بيده إلى طريق العمل والبناء، والبعد عن التسول وسؤال الناس، فأورد بسنده إلى سفيان الثوري قال: “عاب سفيان على هؤلاء الذين لا يرون العمل. قال: ورأى أبو بكر الصديق t شابًّا يَسألُ فواجَرَه نَفْسَه”. ([14])

فالصديق t لما رأى الشاب يسأل ويتسول، استأجره للعمل عنده، واستطاع أن يحوله من طاقة معطلة عن العمل عاجزة عن الكسب إلى طاقة فاعلة ومؤثرة ومنتجة وبناءة في المجتمع، وفي هذا إسهام في البناء الاقتصادي، والقضاء على البطالة، وتنمية الطاقات البشرية، وتكريم للإنسان.

ومنها: من مؤشرات النمو الاقتصادي: ومن روائعه الاقتصادية كذلك، ما بينه الاقتصاديون حول مؤشرات النمو الاقتصادي الحقيقي، وذلك أن يكون دخل الفرد من عمل حقيقي، لا من مصدر موهوم غير حقيقي؛ كالصلات والعطايا والميراث والهبة والوصية وغيرها. فقد نقل بسنده إلى “أبي وائل، قال: درهمٌ من تجارة أحبُّ إليَّ من عشرةٍ من عطاء”، وبسنده إلى “الحسن قال: مطعمان طيبان: حَمْلُ الرجل على ظهره، وعَمَلُهُ بيده”، وبسنده إلى “الأعمش عن إبراهيم قال: كان يُقال: التاجرُ خيرٌ من الجالسِ”. ([15])

وفي إشارته إلى وجوب التحري في مصدر الكسب، وأن يكون من مصدر حلال نقل بسنده إلى: “محمد بن مقاتل، قال: «يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَنْ يَنْظُرَ، رَغِيفَهُ مِنْ أَيْنَ هُوَ؟ وَدِرْهَمَهُ مِنْ أَيْنَ هُوَ؟ قَالَ سُفْيَانُ: ‌اعْمَلْ ‌عَمَلَ ‌الْأَبْطَالِ يَعْنِي كَسْبَ الْحَلَالِ».([16])

ومنها: التماس الرزق من الكسب أفضل من أنواع الكسب الأخرى: فقد برزت في الكتاب لهجة الحث الدؤوب والإلحاح الشديد على أهمية العمل والتجارة والصناعة والذهاب إلى الأسواق، والابتعاد عن التكاسل وسؤال الناس، وقد أورد لذلك الكثير من أقوال العلماء التي تحث على العمل باليد، والحرص على الأكل من عمل اليد، وأن يتحمل الإنسان مؤنة نفسه، وأن يعلم أن الدرهم الواحد الذي يحصله من تجارته وتعبه أفضل وأحب من عشرة من عطاء من بيت المال أو هدية من أمير، وأن التاجر الأمين من الناس خير من الجالس بلا عمل؛ تفرغًا للعبادة أو غيرها، بل أورد أثرًا يبين «أَنَّ ‌التَّاجِرَ، ‌الصَّدُوقَ ‌الْأَمِينَ مَعَ السَّبْعَةِ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»([17])، وقد حشد للاستدلال لكل هذه المعاني الكثير من النصوص والأخبار في سائر صفحات الكتاب.

وأما الباب الثاني: كراهية التقلل من المطعم، ودخول المفاوز بغير زاد ونفقة.

وقد بين في هذا الباب كراهية التقلل من الطعام والشراب وسائر أنواع الزاد، ودخول المفاوز بغير زاد ونفقة بزعم التوكل على الله تعالى، وأن هذا ليس من التوكل، بل الواجب عليه أن يحمل زادًا ويتوكل، وسيظل يدندن حول هذا المعنى بأساليب ومداخل مختلفة حتى قرب نهاية كتابه. ([18])

ومن هذه المداخل: الانقطاع عن الفرض.

ومنها: الغزو والحج بلا زاد خطأ.

ومنها: الداخل في المفاوز بغير زاد متوكل على جُرُب الناس.

ومنها: التواكل وترك السعي قد يفضي إلى الجنون أو الزندقة.

ومن نفس باب الأخذ بالأسباب، وتوجيه الطاقات البشرية المعطلة نحو العمل والإنتاج، والتحذير من التواكل وترك العمل بزعم التوكل على الله، وبيان من تحل لهم المسألة، أورد بسنده إلى “أَنَسِ بْنِ مَالِكِ t، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ r فَشَكَا إِلَيْهِ الْفَاقَةَ، ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَقَدْ جِئْتُكَ مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ مَا أُرَانِي أَرْجِعُ إِلَيْهِمْ حَتَّى يَمُوتَ بَعْضُهُمْ. فَقَالَ لَهُ: «انْطَلِقْ هَلْ تَجِدُ مِنْ شَيْءٍ؟» ‌فَانْطَلَقَ ‌فَجَاءَ ‌بِحِلْسٍ ‌وَقَدَحٍ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا الْحِلْسُ كَانُوا يَفْتَرِشُونَ بَعْضَهُ، وَيَلْبَسُونَ بَعْضَهُ. وَهَذَا الْقَدَحُ كَانُوا يَشْرَبُونَ فِيهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ r: «مَنْ يَأْخُذْهُمَا مِنِّي بِدِرْهَمٍ؟» فَقَالَ رَجُلٌ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ r: «مَنْ يَزِيدُ عَلَى دِرْهَمٍ؟» فَقَالَ رَجُلٌ: أَنَا آخُذُهُمَا بِاثْنَيْنِ، فَقَالَ: «هُمَا لَكَ». قَالَ: فَدَعَا الرَّجُلَ فَقَالَ لَهُ: «اشْتَرِ فَأْسًا بِدِرْهَمٍ وَبِدِرْهَمٍ طَعَامًا لِأَهْلِكَ»، قَالَ: فَفَعَلَ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى النَّبِيِّ r فَقَالَ: «انْطَلِقْ إِلَى هَذَا الْوَادِي فَلَا تَدَعْ حَاجًا وَلَا شَوْكًا وَلَا حَطَبًا، وَلَا تَأْتِنِي خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا»، فَانْطَلَقَ فَأَصَابَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ. ثُمَّ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ r فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: «فَانْطَلِقْ فَاشْتَرِ بِخَمْسَةِ دَرَاهِمَ طَعَامًا، وَبِخَمْسَةٍ كِسْوَةً لِأَهْلِكَ»، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَقَدْ بَارَكَ اللَّهُ لِي فِيمَا أَمَرْتَنِي، فَقَالَ: “هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَجِيءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي وَجْهِكَ نُكْتَةُ الْمَسْأَلَةِ، إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَحِلُّ إِلَّا لِثَلَاثَةٍ: لِذِي دَمٍ مُوجِعٍ، أَوْ غُرْمٍ مُفْظِعٍ، أَوْ فَقْرٍ مُدْقِعٍ”. ([19])

إقامة الحجة على الذين يزعمون أنهم يتوكلون فيتركون العمل: وقد حرص الإمام الخلال على ذلك في الثلث الأخير من كتابه. وأورد العديد من الأحاديث النبوية والآثار عن الصحابة والسلف الصالح، وله في ذلك مداخل عديدة:

منها: كان علي بن أبي طالب والصحابة يعملون حتى تتقرح أيديهم.

ومنها: من عال ابنتين أو ثلاثة فله الجنة.

ومنها: الاستغناء عن الناس بالعمل، أفضل من المسألة.

ومنها: تارك العمل بزعم التوكل مبتدع، يريد تعطيل الدنيا.

ومنها: الجالس عن الاحتراف يطمح لما في أيدي الناس.

وأما الباب الثالث: باب جامع التوكل لمن استعمله على الصدق. ([20])

حيث وضح المعنى الحقيقي للتوكل لمن استعمله في الصدق، وذلك من خلال ما نقله عن الإمام أحمد؛ مما يكشف عن المعنى الحقيقي للتوكل، وذلك بأن يتوكل على الله تعالى، ولا يكون في قلبه أحد من الآدميين يطمع أن يجيئه بشيء، وإذا كان كذلك كان الله يرزقه، وكان متوكلاً.

غير أن بعض أمثلة الإمام الخلال لا يمكن بحال القبول بوضعها تحت هذا المعنى الحقيقي الصحيح للتوكل؛ ومنها: «أنَّ رَجُلًا تَرَكَ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ، وَجَعَلَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ لَا يَقَعَ فِي يَدِهِ ذَهَبٌ وَلَا فِضَّةٌ، وَتَرَكَ دُورَهُ وَلَمْ يَأْمُرْ فِيهَا بِشَيْءٍ، وَكَانَ يَمُرُّ فِي الطَّرِيقِ، فَإِذَا رَأَى ‌شَيْئًا ‌مَطْرُوحًا ‌أَخَذَهُ مِمَّا قَدْ أُلْقِيَ». ([21])

تعقيب عام على الكتاب:

كتاب الإمام الخلال أقرب إلى كتب المتون الحديثية الفقهية، فجاء سردًا للنصوص دون تعليق يستنبط منه رأي الإمام ووجهته، فاختار أن يقف خلف النص، ولعل وضوح دلالة ما ساقه من نصوص في موضوعه؛ جعله يكتفي بدلالتها الواضحة على رأيه في الموضوع.

كما أن أبرز ما جاء الاستدلال به في الكتاب الروايات التي أوردها الإمام الخلال بسنده عن الإمام أحمد بن حنبل، فقد استحوذت على النسبة الأكبر من كتابه، وكذلك مروياته لأقوال السلف الصالح الكرام ممن أخذ عنهم كسفيان الثوري والقاضي عياض وغيرهم، ويأتي الاستدلال بالحديث النبوي في المرتبة الثانية من حيث الكم، وجاءت الآيات القرآنية في المرتبة الثالثة، فلم يوردها إلا بصورة عرضية قصد بها ذكر أقوال المفسرين في المراد بها، ومن ذلك مثلاً ما رواه بسنده إلى: “قتادة بن دعامة أنه قال في هذه الآية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾ [النساء/29]، قال: “والتجارة رزق من رزق الله، حلالٌ من حلالِ الله، لمن طلبها بصدقِها وبِرِّها”.([22])

وختامًا: فإن الإمام الخلال أورد في كتابه بعض الروايات والأقوال الضعيفة التي تناقض فكرة كتابه تمامًا دون أن يُعلق عليها، أو يبين مراد قائلها، أو يوضح خصوصية المسألة، أو يكشف اللثام عن ضعف رواتها، ومن ذلك: ما أورده بسنده إلى “أَبي الدَّرْدَاء t قال: «كُنْتُ تَاجِرًا قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ النَّبِيُّ r، فَلَمَّا بُعِثَ النَّبِيُّ r أَرَدْت أَنْ ‌أَجْمَعَ ‌بَيْنَ ‌التِّجَارَةِ ‌وَالْعِبَادَةِ فَلَمْ يَسْتَقِمْ لِي، فَتَرَكْت التِّجَارَةَ وَأَقْبَلْت عَلَى الْعِبَادَةِ»”.([23])

وهذا الحديث أخرجه ابن أبي شيبة بسند صحيح، لكن الأمر خاص بأبي الدرداء t، وبفترة محددة من حياته، فقد كان من الأنصار ومن قبيلة الخزرج، وكان ميسور الحال فانصرف إلى العبادة في بداية إسلامه، كما أنه شهد أحدًا وما بعدها من المشاهد مع النبي r، وآخى النبي r بينه وبين سلمان الفارسي t، «فعَنْ عَوْنِ بْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: آخَى النَّبِيُّ r بَيْنَ سَلْمَانَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، فَزَارَ سَلْمَانُ أَبَا الدَّرْدَاءِ، فَرَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُتَبَذِّلَةً، فَقَالَ لَهَا: مَا شَأْنُكِ؟. قَالَتْ: أَخُوكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ فِي الدُّنْيَا. فَجَاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ، فَصَنَعَ لَهُ طَعَامًا، فَقَالَ: كُلْ، قَالَ: فَإِنِّي صَائِمٌ، قَالَ: مَا أَنَا بِآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ، قَالَ: فَأَكَلَ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ ذَهَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُومُ، قَالَ: نَمْ، فَنَامَ، ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ، فَقَالَ: نَمْ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ، قَالَ سَلْمَانُ: قُمْ الْآنَ، فَصَلَّيَا، فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ: إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، ‌فَأَعْطِ ‌كُلَّ ‌ذِي ‌حَقٍّ حَقَّهُ، فَأَتَى النَّبِيَّ r فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ r: (صَدَقَ سَلْمَان)»([24])، فقد أخذ عليه سلمان مبالغته في العبادة بما يؤثر على حقوق العباد، وأقر النبي r قول سلمان.

وقد كان أبو الدرداء t من أفاضل الصحابة وفقهائهم وحكمائهم. وقد ولي أبو الدرداء t قضاء دمشق في خلافة عثمان t، وتوفي قبل أن يقتل عثمان t بسنتين.

فلم يظل أبو الدرداء t متفرغًا للعبادة منقطعًا عن التجارة والعمل طوال حياته، كما أن النبي r لم يقره على ذلك، وإلا لم يتمكن من المشاركة في الغزوات، ولو كان منصرفًا إلى العبادة غير بصير بأحوال المجتمع لما ولاه عثمان بن عفان t قضاء دمشق.

بقيت الإشارة إلى تحقيق وتخريج الكتاب: فهو تحقيق علمي من الطراز الرفيع، يستحق الثناء والإشادة، فقد خدم الكتاب خدمة كبيرة، وصدره بمقدمة ضافية، عرَّف فيها بالكتاب والمؤلف والنسخة التي اعتمدها في التحقيق، ومنهج التحقيق، ورواة الكتاب. كما أنه اجتهد في تخريج الأحاديث والآثار والآراء الواردة في الكتاب، والتعليق عليها تأييدًا أو رفضًا لها.

وأما الفهارس العلمية: فقد أورد المؤلف فهرسًا للآيات القرآنية، ثم فهرسًا للأحاديث النبوية، ثم فهرسًا للآثار، ثم فهرسًا للموضوعات.

([1]) طبع الكتاب بتحقيق الشيخ محمد زاهد الكوثري، وأصدرته مكتبة الترقي-بدمشق، سنة 1348هـ. كما طُبِع بتحقيق الدكتور عبد الفتاح أبو غدة، وأصدرته دار البشائر-بيروت سنة 1415هـ/1995م، وهي طبعة مأخوذة ومقابلة على طبعة الشيخ الكوثري.

([2]) الإمام الخلال: مفسر عالم بالحديث واللغة، من كبار الحنابلة. قال الذهبي: جامع علم أحمد ومرتبه. قال ابن أبي يعلى: له التفاسير الدائرة والكتب السائرة. مما يدل على إمامته وسعة علمه، ولم يكن قبله للإمام مذهب مستقل، حتى تتبع هو نصوص أحمد، ودونها، وبرهنها بعد الثلاثمائة. انظر: سير أعلام النبلاء، للذهبي: 14/298-299، الأعلام، للزركلي: 1/206.

([3]) الحث على التجارة والصناعة والعمل: 23.

([4]) يقصد الإمام أحمد بن حنبل.

([5]) الحث على التجارة والصناعة والعمل: 39.

([6]) الحث على التجارة: 33، وأصل هذا البيت للشاعر الجاهلي المتلمس الضبعي، فإنه لما بلغ حاتمًا قول المتلمس الضبعي:

قَلِيلُ الـمَالِ تُصْلِحُهُ فَيَبْقَى . … . وَلَا يَبْقَى الْكَثِيرُ مَع الْفَسَادِ.

وَحِفْظُ الـمَالِ أَيْسَرُ مَنْ بِقَاءِ . .. . وَضَرْبٌ في الْبِلَادِ بِغَيْرِ زَادِ.

فقال: ما له قطع الله لسانه، يحرض الناس على البخل أفلا قال:

فَلَا الجُودُ يُفْني المالَ قَبْلَ فَنَائِهِ    …..  وَلَا الْبُخْلُ في مَالِ الشَّحِيحِ يَزِيدُ.

فَلَا تَلْتَمِسْ رِزْقًا بْعَيْشٍ مُقَتَّرٍ       ……        لِكُلِّ غَدٍ رِزْقًا يَعُودُ جَدِيدُ.

أَلَم تَرَ أَنَّ الرِّزْقَ غَادٍ وَرَائِحٌ      …….      وَأَنَّ الَّذِي أَعْطَاكَ سَوْفَ يُعِيدُ.

انظر: المحاسن والأضداد، لأبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ البصري، ت: 255هـ، ط2 مكتبة الخانجي-القاهرة 1415هـ/1994م: 53.

([7]) الحث على التجارة والصناعة والعمل: 33.

([8]) المصدر السابق: 42-43.

([9]) القصار: هو الذي يقوم بغسل الثياب وتنظيفها.

([10]) الحث على التجارة والصناعة والعمل: 34-35. ولعل هذا هو أحد مجالات فهم وتنزيل حديث ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم «‌جَمَعَ ‌بَيْنَ ‌الظُّهْرِ ‌وَالْعَصْرِ، وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ»، وزاد الطبراني: «وَهُوَ ‌مُقِيمٌ ‌عَلَى ‌غَيْرِ ‌خَوْفٍ، وَلَا شَيْءٍ اضْطَرَّهُ إِلَى ذَلِكَ» فَقَالُوا: فَلِمَ يَا أَبَا عَبَّاسٍ؟ قَالَ: «أَرَادَ أَنْ لَا يُحْرِجَ أُمَّتَهُ». أخرجه مسلم: 1/490 (705) كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الجمع بين الصلاتين في الحضر، الطبراني: 12/74 (12547). فلعل ما نقله الخلال عن سفيان الثوري يتخرج على مثل هذا الحديث، وهو حالات الحرج والمشقة، فيصلي فردًا أو يجمع بين الصلوات حال الاضطرار إلى ذلك بسبب ظروف عمله، وعدم تمكنه من الحصول على عمل آخر.

([11]) الحث على التجارة والصناعة والعمل: 36-37.

([12]) المصدر السابق: 53.

([13]) المصدر السابق: 41.

([14]) المصدر السابق: 37.

([15]) المصدر السابق: 44-47.

([16]) المصدر السابق: 44.

([17]) المصدر السابق: 58، وهذا المعنى ورد في الحديث عَنْ أَبِي سَعِيدٍ t، عَنْ النَّبِيِّ r، قَالَ: «‌التَّاجِرُ ‌الصَّدُوقُ ‌الأَمِينُ مَعَ النَّبِيِّينَ، وَالصِّدِّيقِينَ، وَالشُّهَدَاءِ». أخرجه الترمذي: 3/507 (1209) ‌‌أبواب البيوع، بَابُ مَا جَاءَ فِي التُّجَّارِ وَتَسْمِيَةِ النَّبِيِّ r إِيَّاهُمْ، وقال: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الوَجْهِ، وضعفه الألباني.

([18]) المصدر السابق: 67-96.

([19]) المصدر السابق: 92-94. والحديث أخرجه أحمد: 19/182 (12134) وضعفه شعيب الأرنؤوط، وأبو داود: 2/120 (1641) كتاب الزكاة، باب ما تجوز فيه المسألة، وضعفه الألباني، والترمذي: 3/514 (1218) أبواب البيوع، باب ما جاء في بيع من يزيد، وضعفه الألباني.

([20]) المصدر السابق: 97-102.

([21]) المصدر السابق: 98-99.

([22]) المصدر السابق: 57.

([23]) المصدر السابق: 53-54. والحديث أخرجه: ابن أبي شيبة في المصنف: 4/467 (22183) وصححه الهيثمي في مجمع الزوائد.

([24]) أخرجه البخاري: 3/38 (1968) كتاب الصوم، ‌‌بَابُ مَنْ أَقْسَمَ عَلَى أَخِيهِ لِيُفْطِرَ فِي التَّطَوُّعِ وَلَمْ يَرَ عَلَيْهِ قَضَاءً إِذَا كَانَ أَوْفَقَ لَهُ.