حول الكتاب:
يتناول الكتاب فكرة السنن الإلهية في الميدان الاقتصادية انطلاقا من التسليم بوجود قوانين ثابتة تحكم الكون المادي وتحكم الأحياء وطرائق السلوك والاجتماع، فالأولى هي القوانين المادية التي تحكم الطبيعة والثانية هي القوانين الاجتماعية، وهي سنن الله تعالى في الرفع والخفض، والبسط والقبض، والتقدم أو التخلف.
إن النوع الأول من القوانين ثابت مطرد لا يتغير ولا يختلف من بيئة إلى أخرى ولا دخل للإنسان فيه إلا باستثماره واستغلاله لإدارة شؤون الحياة وعمارة الأرض، أما النوع الثاني فهو خاضع لإرادة الإنسان وحريته وفق سنن معينة بينها الله سبحانه وتعالى فإن استغلها على الوجه الصحيح ومضى في الطريق المستقيم تحققت النتائج الطيبة، وإن أعرض عنها حقت عليه نتائجها السلبية السيئة، وكان فوق ذلك محاسبا يوم القيامة على تفريطه في إطار تكليفه بالإعمار والسعي والعمل الصالح.
ويولي البحث عنايته بالنوع الثاني؛ حيث تدخل فيه القوانين الاقتصادية باعتبارها سننا اجتماعيا وسلوكا إنسانيا في إنتاج المال وتوزيعه واستهلاكه، فإن الجانب الاقتصادي هو أحد جوانب الحياة يخضع لما تخضع له بقية جوانبها. أي: أنه يخضع لسنن الله تعالى المنضبطة المطَّردة الوقوع التي لا يستثنى منها أحد، ويقسم المؤلف بحثه إلى أربعة محاور وضع أمام كل منها رقما.
أما المحور الأول وهو “مفهوم السنة الإلهية وخصائصها ومجالاتها” فقد تناول فيه مفهوم السنن الإلهية مبينا أنها “طريقة الله تعالى في معاملة خلقه”، منتقلا إلى خصائصها فيقرر أنها:
- الاطراد وعدم التخلف
- عدم التعارض مع طلاقة المشيئة
- عدم التعارض بين اطِّراد السنة واختيار الإنسان
- عمومية السنن الإلهية.
أما مجالات السنن الألهية فهي تعمل في ميدانين: الميدان الأول: هو ميدان الكون المادي الذي يحيط بالإنسان ولا دخل للإنسان فيه، كما لا دخل له في نمو بدنه وعمل أجهزة جسمه ومهمة الإنسان ههنا هي السعي لاكتشاف هذه السنن، والاستفادة من قانونها للحصول على نتائج إيجابية.
وأما الميدان الثاني: فهو ميدان الاجتماع البشري، وهو كذلك خاضع لقوانين صارمة وكثيرا ما دل القرآن والسنة على أن أوضاعا معينة تترتب على سلوكيات معينة بأساليب مختلفة يعرض لها في المحور الثاني.
وقد جاء المحور الثاني ليتناول “أساليب الإرشاد إلى السنن الإلهية ولماذا بنيت الحياة عليها”، فيتناول في القسم الأول منه أساليب إرشاد الوحي إلى السنن الإلهية، ويبين أن هذه الأساليب قد تنوعت وتعددت؛
[1] فقد يرشد إليها بصريح العبارة كما في قوله تعالى: ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ﴾ [آل عمران: 137].
[2] وقد يخبرنا الله سبحانه بوجود سنة ما لا بلفظ السنة، وإنما بتقرير نتيجة معينة على سبب معين، كترتيب إهلاك الأمم على الظلم، ﴿وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ﴾ [يونس: 13].
[3] وقد تأتي الدلالة على ذلك بأسلوب القضية الشرطية، التي يتم بها الربط بين الشرط والجزاء المترتب عليه كما في قوله تعالى: ﴿وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا﴾ [الجن: 16].
[4] أو بعكس ذلك ببيان ارتباط مصير كارثي بفعل شيء معين عن طريق النهي عن فعله، كما في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ [الأنفال: 46].
[5] وقد يأتي التنبيه على هذه السنة من خلال إيراد السنة في شكل قضية فعلية منجزة محققة الوقوع مثل قوله تعالى: ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ﴾ [البقرة: 276].
أما في القسم الثاني من هذا المحور فيطرح سؤالا مفاده: لماذا بنيت الحياة على السنن؟ مبينا أن ذلك ضروري لاستقامة نهج الحياة وتكييف أوضاعها، فلولا ذلك لما استطاع الإنسان تسخير ما خلقه الله من أجله انتفاعا واستغلالا، ولما استطاع تحقيق هدف العمران الذي طالبه به وأوجبه عليه، هذا فضلا عن ضرورة ذلك لتحقق شرط الابتلاء والاختيار الذي يقوم على قانون ثابت لا يختلف باختلاف الأحوال والظروف، ومن ثم فإن النتائج التي ترى على الساحة الاجتماعية ستكون نتيجة طبيعية لعمل الإنسان وسلوكه ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ [الشورى: 30]
ويناقش في المحور الثالث “السنن الإلهية والقوانين والغرائز” فالسنن الإلهية ثابتة لا تتحول بينما القانون قابل للتغيُّر إذا لم يصل لمرحلة القطع به، وعندما يكون بهذه الحيثية فهو سنة من السنن، أما الغرائز فليست من قبيل القوانين ولا السنن بل هي بعض مكونات الإنسان وأجزاء منه، خلقت معه ليمارس الاستجابة لأمر الله تعالى بتهذيبه إياها واستخدامها في إطار التكاليف، وقد تكون عاملا من عوامل الارتقاء بذاته ومقوماته، وقد تدفعه إلى البطر والسفه والخروج على السنن.
وينتقل المؤلف إلى المحور الرابع ليعرض لـ “بعض سنن الله في الميدان الاقتصادي وأثرها في الحياة”، فـ (سنة الله تعالى في الحصول على الرزق “الدخل”) هي: أن كل كائن يحصل على رزقه بالسعي والعمل، وقد ارتقى الإسلام بالعمل حتى جعله قسيما للجهاد في سبيل الله ﴿وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ﴾ [المزمل: 20] ، ولا دخل للدين في الرزق، بل القاعدة هي العمل والسعي وحسن استغلال السنن؛ فالكل مرزوق ﴿كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا ﴾ [الإسراء: 20] لكن يتفاوت الناس في الأرزاق بقدر تفاوتهم في المواهب والقدرات والإخلاص في العمل.
أما عن “سنة الله في رغد المعيشة وارتفاع مستواها” فهي العدل على ما يذكر المؤلف، فإذا بنيت الحياة على العدل الاجتماعي والعدالة في التوزيع ظهرت البركات والخيرات، وإذا عم الظلم نقصت الثمرات وانتشرت في المجتمع مشاكل كثيرة من جراء نقص الطلب عن العرض، حيث لا يقدر بعض الناس مع الظلم على الاستهلاك النافع للاقتصاد.
ويعرض المؤلف لسنة الله تعالى في الاستهلاك فيقرر أنها التزام حد معين في الاستهلاك لا يزاد عنه أو ينقص فمع الزيادة، حد الوصول إلى الترف وبطر النعمة يقع المجتمع في أمراض معنوية أو يعاني أزمات اقتصادية ليس أقلها التضخم بزيادة الطلب وإهمال الضروريات، أما تجاوز الحد نقصا بالتقتير فذلك مفسد للنفس بحرمانها من مقومات الحياة، ومفسد للمجتمع بإيقاعه في أزمة اقتصادية جراء نفص الطلب.
ويتحدث المؤلف عن “سنة الله في العلاقات الاقتصادية” فيوجه العناية لضرورة أن تكون العلاقات عادلة في جانب توزيع الثروات والدخول، وفي جانب الحقوق المدنية، فإن تحقق العدل في هذه المجالات سرى إلى غيرها بصورة تلقائية.
أما عن “سنة الله في التغيير” فينوِّه المؤلف بأنها تبدأ من تغيير النفس، فلقد أقام القرآن الكريم علاقة سببية بين التغيرات التي تشاهد على أرض الواقع وبين ما يحدثه الإنسان من تغيرات في قيمه الخلقية وقدراته النفسية، فنعم الله تحصل لمن يأخذ بالأسباب ويمضي على الطريق المستقيم، ويلتزم العدل والأمانة، فإذا انحرف عن ذلك المسار تغيَّرت عليه النعم ووقع في أزمات بقدر انحرافه.
ويتعرض المؤلف في هذا المحور -فيما يشبه الخاتمة – إلى “موقف المسلم من السنن” فيقرر أن من واجبات المسلم معرفة هذه السنن والبحث عنها واكتشافها، ثم استثمارها في الإعمار والبناء مراعاة للأسباب التي تؤدي إلى النتائج، فإن علمنا بهذه السنن يتطلب منا إنزال الواقع على حكمها واشتقاق برنامج عملي على أساس منها، أما تلاوتها آناء الليل وأطراف النهار والاستشهاد بها من الدعاة والمصلحين فليس له تأثير على مجريات الأمور العملية.