أثر الاقتصاد الإسلامي في تطور علوم الرياضيات

بقلم الدكتور/ أسامة السعدوني جميل

ارتبطت الحضارة الإسلامية منذ أول نصٍّ فيها – اقرأ – بالعلم، وجاءت نصوص القرآن والسنة؛ لتوجِّه إلى أهمية العلم وفضل السعي في تحصيله، فكانت هي البيئة الحاضنة لتنامي العلم في الاتجاه الذي يخدم بيئةَ الناسِ ويكفل معايشها، ويبحث لها عن حلول لمشاكلها تحت مظلة الشريعة الإسلامية.
وقد أشارت بعض هذه الآيات إلى بعض النظم والآليات التي هي وسيلة من وسائل ضبط الأموال، كما يظهر ذلك من خلال بعض الآيات مثل: قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [يونس: 5] ، وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا} [الإسراء: 12]، فمن هذه الآيات نشأ علم الميقات، ليضبط مواقيت الصلاة، وما يتعلق ببقية الشعائر من صيام وصلاة وحج؛ فأدَّى ذلك إلى تطوُّر علم الفلك وعلم الرياضيات عند المسلمين.
ولم يكن ضبط الأموال بعيدًا عن هذا المعنى، خاصة مع تقرير التركات والفرائض وفقا لأنصبة محددة، كما في آيات النساء 7، 8 التي شكَّلت مدخلًا للعلم، ثم الآيات الثلاث هي: 10، 11، 176 من السورة نفسها، إلى جانب عددٍ من الآحاديث النبوية التي تناولت أنصبة التركة وبيان مستحقيها.
وكان الاعتماد في حساب التركات في تلك الآونة على ما يتوفَّر – لدى الناس في بداية الأمر – من علم الحساب، وبالتدريج صارت دراسة علم الحساب من لوازم دراسة علم التركات والمواريث، وأصبح علم الفرائض هو المختبر لهؤلاءِ لعلمِ الرياضيات، فأنتج هذا لطلابِ العلمِ دُربةً في الرياضيات وتكونت لديهم ملكة في هذا الباب، وتنامى الاهتمام بهذا العلم حتى ظهر الفرضيون الحسّابون، وتكررت الترجمة لكثير من الفقهاء بالفرضي الحاسب، وجمعت مؤلفاتهم ما بين مؤلفات في الفرائض، أو مؤلفات في الرياضيات، أو مؤلفات جمعت مابين العلمين.
بل كانت العناية بعلم الحساب سببًا في خروج علم الجبر والمقابلة من عباءة علم الحساب؛ ليصبح علمًا بذاته، على يد الخوارزمي (ت بعد 232هـ) صاحب كتاب الجبر والمقابلة، وبهذه الطريقة تطوَّر علم الرياضيات، وإن شئت فقل: وُضِعَت لبنات تطوُّره في الحضارة الإسلامية، ومن هذا المدخل يمكن أن ندرك أن ثمة علاقةً وطيدةً بين علمي الرياضيات والفرائض، والذي هو علم إسلامي وضع ليضبط أنصباء الورثة في التركة أو الميراث.
ويمكن أن نتناول هذه الفكرة عند ثلاثة من أعلام الفكر الإسلامي، وهم ابن خلدون وحاجي خليفة، والقنوجي؛ كنموذج للمؤلفين الذين عُنوا بخريطة العلوم الإسلامية، وأدركوا التكامل والتداخل فيما بين علمي الفرائض خاصة وضبط الأموال بعامة وبين علم الرياضيات.
لقد تناول ابن خلدون (المتوفى: 808هـ) في مقدمته علم الفرائض، وبيَّن أهمية علم الحساب بالنسبة له، وذلك لتصحيح الفرائض خاصة في حالات انكسار المواريث وغيرها من الحالات المعقَّدة، ثم بيَّن أن هذا العلم لما كان غالبًا في ضبط المواريث حتى صار لازمًا جعله العلماء فنًّا مُفردًا وظهرت فيه مؤلفات كثيرة، وكأن ابن خلدون أراد أن يصف بذلك عِلمًا بينيا بين الفرائض والحساب؛ لأنه عاد فعلق بقوله: “وهو فنٌّ شريف لجمعه بين المعقول والمنقول، والوصول به إلى الحقوق في الوراثات بوجوه صحيحة يقينية، عندما تجهل الحظوظ وتُشكِل على القاسمين(1).
وهذا يؤكِّد على الجانب المرن من الاقتصاد الإسلامي وانفتاحه على الاستفادة من العلوم المساعدة في ضبط الأموال وحفظ الحقوق، كما هو واضح مع ضبط أموال التركات، وتلك العلاقة الوثيقة بين العلمين، هي التي جعلت مؤلف “أبجد العلوم” صديق بن حسن القنوجي (المتوفى: 1307هـ) يضع علم حساب الفرائض تحت أنواع علم الحساب، ويستشهد بنص ابن خلدون السابق وينقله كاملا بأمثلته.
ويعتبر حاجي خليفة (المتوفى: 1067هـ) في كشف الظنون “علم حساب الوصايا والدور” من علوم الحساب والرياضيات، بل يجزم بأنه “يؤول إلى علم الجبر والمقابلة، ويبدو من هذه العبارة التداخل الشديد بين علم الجبر والمقابلة وعلم حساب الدور والوصايا”، ثم يضع أيضًا حساب الفرائض تحت علوم الحساب، فيعود مرة أخرى إلى إثبات تداخلية بين الفقه والحساب والفقه هنا هو الفرائض.
ولو تصفحنا مزيدًا من الكتب لوجدنا أن هناك منطقةً بينية بين علوم الرياضيات وعلم الفرائض وهذه المنطقة تعبِّر عن منطقة التطبيق لعلوم الرياضيات على علم الفرائض، وهذه الفرضية تثبت ما صرح به الخوارزمي في القرن الثالث الهجري من غرض تأليف كتاب الجبر والمقابلة، يقول: “ألفت كتاب الجبر والمقابلة؛ كتابًا مختصرًا، حاصرًا للطيف الحساب وجليله؛ لما يلزم الناس من الحاجة إليه في مواريثهم، ووصاياهم، وفي مقاسمتهم، وأحكامهم، وتجاراتهم، وفي جميع ما يتعاملون به بينهم”(2).
وهذا القدر كاف لإثبات أثر الاقتصاد الإسلامي في تطور العلوم الرياضية وفي الانفتاح على الآليات المساعدة التي تسهم في تحقيق أهدافه وتفعيل مقاصده، ولم يكن الأمر عند حد اقتباس هذه العلوم وتطبيقها، بل تجاوز ذلك إلى إحيائها ثم تطويرها؛ لضبط نُظُم البيع والشراء والقسمة والحساب، وقبل كل ذلك توخِّي تقسيم التركات والمواريث على أساس العدل والإنصاف، فلا ينال أحد مال أخيه بدون وجه حق، وذلك مقصد يعرفه الاقتصاد الإسلامي باسم العدل في الأموال.

(1) مقدمة ابن خلدون ضمن تاريخه بتحقيق خليل شحادة، دار الفكر، بيروت، الطبعة: الثانية، 1408هـ – 1988م (1/ 572).
(2) الجبر والمقابلة، الخوارزمي، مطبعة بول باربيه، 1937م (ص: 16).

Comments are disabled.