أثر بناء العقود على اللزوم في استدامة الأنشطة الاقتصادية
بقلم الأستاذ الدكتور/ عزُّ الدِّين بن زغيبة
أستاذ الفقه والأصول والمقاصد
ورئيس هيئة الرقابة والفتوى في عدد من المصارف الإسلامية
إن الأصل في العقود اللزوم؛ لأن العقد شُرِعَ لتحصيل المقصود من المعقود به والمعقود عليه، ودفع الحاجات عن الخلق، فيناسب ذلك اللزوم دفعًا للحاجة وتحصيلًا للمقصود، وبناءً عليه كان الأصل في البيع اللزوم وكان الخيار عارضًا.
ومستند هذا الأصل قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] قال الحسن في تفسير هذه الآية: (يعنى بذلك عقود الدَّيْن وهي ما عقده المرء على نفسه من: بيع، وشراء، وإجارة، وكِراء، ومُزارعة، ومُصالحة، ومُناكحة، وطلاق، وتمليك، وتخيير، وعتق، وتدبير، وغير ذلك من الأمور ما كان ذلك غير خارج عن الشريعة، وكذلك ما عَقَدَ على نفسه لله من الطاعات والصيام والحج والاعتكاف والقيام والنذر، وما أشبه ذلك من طاعات ملَّة الإسلام)(1).
وقد ذهب جمهور المفسرين إلى أن الآية عامةٌ وشاملةٌ لجميع العقود؛ سواءٌ التي عقدها الله على عباده وألزمهم بها من الأحكام، أو العقود التي يعقدها العباد بين بعضهم البعض من مختلف أنواع المعاملات.
والأمر بالإيفاء الوارد في هذه الآية يدل على وجوب ذلك، فتعيَّن بذلك أن إيفاء العقد من العاقد بعقده حقٌّ عليه، ويُقضَى به عليه إذا حاول التخلص منه، قال ابن العربي: (وإذا عاقَدتَ صاحبك قولًا أو فعلًا أو إشارةً تعيَّن عليك الوفاء بذلك العقد)(2).
وقد أكَّد سبحانه وتعالى الوفاء بالعقد بالوفاء بالعهد؛ لأن العقد نوع من العهد فقال: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} [الإسراء: 34]، وقال: {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا} [البقرة: 177].
والذي يُستخلَص من هذه الآيات أن ما التزمه الإنسان بنفسه هو معاهَدٌ عليه، لا يحلُّ له نقضه ولا الغدر فيه، وما أُمِر به من قبل الشارع يجبُ عليه الوفاء به كاملًا، وبناءً على هذا فإنه يجب على الإنسان ألا يدخل في التزامٍ يعلم مُسبقًا أنه لا يمكنه الوفاء به لأي سببٍ كان.
واعتمادًا على أصل اللزوم المتقدِّم قال مالك وأبو حنيفة ببطلان خيار المجلس في البيع، وأن البيع لازمٌ بمجرد العقد تفرَّقا أم لم يتفرَّقا بالإضافة إلى عدم انضباط المجالس، ولهذا قال مالك في الموطأ بعد ما ذكر حديث ابن عمر: «الْمُتَبَايِعَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ عَلَى صَاحِبِهِ، مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا إِلَّا بَيْعَ الْخِيَارِ» قَالَ مَالِكٌ: «وَلَيْسَ لِهَذَا عِنْدَنَا حَدٌّ مَعْرُوفٌ، وَلَا أَمْرٌ مَعْمُولٌ بِهِ فِيهِ»(3).
وهذا يعني أنه قد تعذَّر جَعلُ هذا الحديث أصلًا في تشريع خيار المجلس؛ لخلوِّه من تحديد مقدار المجلس ومدَّته، مع غياب عملٍ في شأنه يفسِّره، ويمكن الرجوع إليه والاعتماد عليه؛ لأن المجلس لا ينضبط ويختلف ذلك باختلاف مكان وقوعه.
ومما بناه الفقهاء من الفروع على هذا الأصل قول ابن شاس في باب الصلح: (إن الوضيعة في الصلح لازمةٌ لا يجوز الرجوع فيها؛ لأن ذمة الغريم قد برئت منها)(4)، وقال في العاريَّة: (ومتى كانت العاريَّة إلى أجل معلومٍ أو كان لها قدرٌ معلومٌ؛ كعارية الدَّابة إلى موضع كذا، أو العبد ليبني بناءً أو ليخيط له ثوبًا، فهي له لازمةٌ كهبة الرقاب، فإن لم يَضْرب أجلًا ولا كانت لها مدة انقضاء فهي لازمة أيضا بالقول والقبول، وليس له الرجوع فيها ويلزمه إبقاؤها مدة يُنتفَع بها فيها الانتفاع المعتاد بمثلها عند استعارتها)(5).
والذي يتبيَّن لي من خلال ما سبق أن مصلحة العقد بالأصالة في لزومه، إلا أن هذه المصلحة قد تتخلَّف في بعض العقود إذا ما تعذَّر فيها اللزوم لمانعٍ عارضٍ؛ كالجُعالة، والمغارسة، والقِراض، والوكالة، ومن ثم عَمَد الفقهاء إلى جعل اللزوم فيها مقرونًا بالشروع في العمل لا بمجرد العقد، وفي هذا نظرٌ إلى عذر العامل؛ لأنه قد يخفُّ إلى العقد لرغبة في العِوَض ثم يتبيَّن له أنه لا يستطيع الوفاء بعمله.
إلا أن العامل إذا شرع في مباشرة العمل المتعاقَد عليه فإن العقد يكون لازمًا له ولا يمكنه الرجوع فيه إلا لعُذْرٍ قاهر، ومن أمثلة ذلك: لو دفع رجلٌ نخلَه إلى رجل سنين معلومةً على النصف أو الثلث، ثم أراد أحدهما الرجوع قبل انقضاء المدة، فليس ذلك له، أيُّهما أراد إبطال ذلك، وهذا قول مالك، وقال: إلا أن يمرض فيَضعَف أو يُفلس، فيقال له: ساقِ إن شئت عدلًا رضًا وإلا كان صاحب المال أولى به من غيره(6).
وكونُ العقود لازمةً بالعقد أو بالشروع في العمل؛ وسيلةٌ لعدم نقضها، وهو حقُّ الله تعالى ليحصُل مقصدُ الشريعة منها، والمتمثِّلُ في رفع الخصومات، وقطعِ المنازعات بين الأمة وتثبيتِ الأموال لأصحابها، والأملاك لمالكيها من غير مُنازِعة ولا شُبْهة في الملك.
وحتى يكون لزوم العقود لزومًا صحيحًا وذا أثرٍ في الواقع اشتُرِطَ في وجوده: حصول صيغ العقود وهي: الأقوالُ الدالَّة على التراضي بين المتعاقدين أو ما يحلُّ محلَّها ويأخذ حكمها؛ كالأفعال والإشارة في بعض التصرُّفات؛ لأن المقصود من العقود هو الرضا فما دل عليه كفى.
ولا يُفهم من هذا الكلام أن كلَّ ما رَضِيَ به العاقدان أو أحدُهما من التصرُّفات والالتزامات ملزمٌ له كيفما كان، وإنما يلزمهما، مما رضيا به من تصرفاتٍ، ما كان وقوعه موافقًا للشريعة، أما ما كان مخالفًا لها فهما ممنوعان منه، ولا عبرة لرضاهما به، قال ابن حارث: (انظر فكل صفةٍ انعقدت على ظاهر الصحة والسلامة، ثم تبين فيها وجهٌ لو تعاملا عليه لم يَجُزِ البيع؛ فلا يجوز أن يتراضيا بتنفيذ ذلك الوجه الذي لا يحل التعامل فيه)(7).
(1) تفسير القرطبي (6/ 32).
(2) القبس في شرح موطأ مالك بن أنس (ص: 1162).
(3) موطأ مالك (2/ 671) رقم (79).
(4) عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة (2/ 804).
(5) عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة (3/ 860).
(6) انظر هذه المسألة في الأوسط في السنن والإجماع والخلاف لابن المنذر (11/124).
(7) أصول الفتيا (ص: 114).