الحج وقيمة الكسب المالي النظيف في الاقتصاد الإسلامي

بقلم الأستاذ الدكتور/ فياض عبد المنعم حسانين

أوضحنا في المقال السابق حقيقتين هامتين، قررت الأولى أن الاقتصاد الإسلامي اقتصاد أخلاقي في مبادئه وأهدافه، ووسائله، وأدواته، وقررت الثانية أن شعيرة الحج تجربة عملية وقلبية ترسِّخ القيم الأخلاقية في حياة المسلم بجميع جوانبها وتنوع السلوك فيها.
ونضيف هنا حقيقة أخرى على قدر المساواة بتلك الحقائق السابقة، وهي أن الاقتصاد الإسلامي اقتصاد إيماني، فمصدر مبادئه وقواعده هو الإيمان بالله ورسوله وبشرعه، وهو الركيزة الكبرى التي تنطلق منها وتتحدد وفقها قواعد النظام الإسلامي، ويصطبغ بها في تطبيقاته؛ كمؤسسات، وسياسات اقتصادية، وتصرفات اقتصادية لكل أفراد المجتمع المسلم. ولا نحتاج أن نذكر أن الإيمان بالله، هو عقيدة وعمل صالح يتفرع عن هذه العقيدة الجامعة لعقل وقلب المسلم لطاعة مولاه سبحانه وتعالى.
وتظهر شرطية هذا العمل في الحج بوضوح وفاعلية لا نظير لها، فالحج يترافق مع العمل الصالح في شتى جوانبه وعلى وجه الخصوص: الجانب الاقتصادي من أداء هذه الفريضة، فمنذ أول خطوة في برنامج أداء هذه الشعيرة، نجد أن الشرع يشترط لصحة أداء الحج أن تكون النفقة المالية اللازمة للحج من كسب طيب حلال، وأنه إذا لم يكن مصدر هذه النفقة كسبًا حلالاً طيبًا فإن الحج يكون مردودًا على صاحبه، وفي الحديث النبوي الشريف، “من أم هذا البيت من الكسب الحرام شخص في غير طاعة الله فإذا أهل ووضع رجله في الغرز، أو الركاب وانبعثت به راحلته قال: لبيك اللهم لبيك ناداه مناد من السماء: لا لبيك، ولاَ سعديك كسبك حرام وزادك حرام وراحلتك حرام فارجع مأزورا غير مأجور وأبشر بما يسوؤك، وإذا خرج الرجل حاجا بمال حلال ووضع رجله في الركاب وانبعثت به راحلته قال: لبيك اللهم لبيك ناداه مناد من السماء لبيك وسعديك قد أجبتك راحلتك حلال وثيابك حلال وزادك حلال فارجع مأجورا غير مأزور وأبشر بما يسرك1 .
فالكسب الطيب شرط القبول الأعمال في شريعة الإسلام، وهي قاعدة توضِّح خطورة هذه المسألة التي يتهاون فيها كثير من الناس، وفي الحديث النبوي الآخر الذي صار شعارًا من شعائر الدين: “إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا2.
والآثار الاقتصادية لقيمة الحفاظ على نظافة مصدر الكسب للأموال عميقة وواسعة في النظام الاقتصادي، فهي تشمل الآثار الإنتاجية، والآثار التوزيعية، وأثر استمرار الاستقرار الاقتصادي الكلي، وأثر استشراف المستقبل الاقتصادي على نحو صحيح.
إن الحفاظ على طهارة وطيب الكسب المالي من الأنشطة الاقتصادية ينتج في النهاية مؤشرات للقيمة الإنتاجية، إذ تتوجه القرارات الاقتصادية إلى القيم الإنتاجية الصحيحة والصالحة، وتتنافس فيها المواهب والقدرات، كلٌّ حَسَب طاقته واجتهاده، أما لو ساد في المجتمع خَبَث الكسب من الاستغلال والربا والغش والاحتكار، فإن النتيجة أن تنصرف المواهب والقدرات المتميزة عن النشاط الإنتاجي الحقيقي؛ لما نلاحظه من أن الكسب المرتفع في هذا المجتمع المريض اقتصاديًا يأتي من وسائل غير نظيفة، فتُهدر المواد الاقتصادية عن أن تلج إلى مجالها الصحيح، وتؤكِّد الدراسات الاقتصادية التاريخية، أن فُرصًا للتنمية والنهوض الاقتصادي قد ضاعت على مجتمعات كانت تملك موارد اقتصادية هائلة، ولكن الانحراف عن مجال الكسب الطيب قد دمر تلك الموارد وأهدرها، حينما راج الكسب الخبيث بسبب الدخول في أنشطة اقتصادية بعيدة عن الإنتاج النظيف المفيد.
كما نرى أيضًا آثار الكسب الطيب للثروات المالية في جانب التوزيع في الاقتصاد، فالكسب الطيب من النشاط الاقتصادي الحلال يولد عائدًا عادلًا لكل عنصر من عناصر الإنتاج بالقدر الذي أسهم به في العملية الإنتاجية، فتسود علاقات التوزيع العادلة، التي تعتبر من أقوى وسائل مكافحة الفقر في المجتمعات، وهذا النمط العادل من التوزيع هو العلاج الوقائي الذي يسبق كل السياسات والبرامج، التي تمارس لعلاج الفقر بعد وقوعه وتجذُّره في شرائح المجتمع، لأنها وسائل مكلفة وغير فاعلة ما لم تتأسس مسبقًا على قاعدة عدالة توزيع عوائد عناصر الإنتاج في الاقتصاد.
لقد قامت الدولة الاستعمارية بنهب ثروات البلاد المستعمَرة، وهذا كسب خبيث نتح عنه المآسي التي نراها في عالمنا اليوم من مليارات الفقراء الذين يتضوَّرون جوعًا في العديد من البلاد التي خضعت للاحتلال الأوروبي، مما يؤكد زيف محاولات تجميل البلاد المتقدمة الغريبة، ويؤكد أن النظام الرأسمالي نظام لا يهتم بالأخلاق إلا من زاوية كونها وسيلةً دعائيةً للترويح لحضارته التي تسبت في شقاء الإنسان.
ومع تساند الأسس السليمة لاقتصاد إنتاجي حقيقي، وعدالة توزيع مُرافِقة لهذا النشاط الإنتاجي الحقيقي – نتيجة شيوع الكسب الطيب من مصادر مشروعة ونظيفة وعادلة – مع هذه المنظومة تتحقق أفضل الظروف للاستقرار الاقتصادي الكلي، والسؤال هنا: لماذا عندما تشيع مصادر الكسب الطيب في مجتمعٍ ما يتحقق الاستقرار الاقتصادي الكلي؟
والإجابة هي: أن الاقتصاد هو هيكل مترابط في دائرة واحدة، حيث تتلاقى تدفقات تيار الإنتاج مع تدفقات تيار التوزيع، فإذا كانت هذه التيارات متناسقة يستمر الاستقرار الاقتصادي، أما إذا اختلّ التوازن بين التيار الإنتاج وتيار التوزيع يحدث الخلل وتقع الاضطرابات الاقتصادية الدورية المتكررة، كما نراها في النظام الاقتصادي الرأسمالي السائد حاليًا.
ونزيد الأمر وضوحًا، فنقول: إن النشاط الاقتصادي عبارة عن دوائر من الأنشطة الاقتصادية المتبوعة والمترابطة، ففي دائرة فرعية للإنتاج، إذا كان عائد عناصر هذا الإنتاج لهذه الدائرة عادلاً، أي: نظيفًا. أي: خاليًا من الربا، والاحتكار، والاستغلال، سيكون التوزيع عادلاً ونظيفًا، فتتسع دائرة توزيع الدخول على شرائح أوسع في المجتمع، ويقل تركيز الثروة؛ لأنه يأتي في معظمه من الاحتكارات والاستغلال والغبن الفاحش، وهنا يستقر الطلب الكلي؛ نظرًا لوجود دخول لكل شرائح المجتمع تتيح للجميع القيام بالطلب على السلع في الأسواق المختلفة، فتستمر حالة الاستقرار في الاقتصاد الكلي.
إن النظام الاقتصادي الرأسمالي السائد حاليًا، ينحِّى القيم الإيمانية والأخلاقية عن ممارسات النشاط الاقتصادي في دائرة الإنتاج والتوزيع، ويُنكِر أي صلة بين الاقتصاد والسلوك الإيماني، كما قالت مدين لشعيب عليه السلام: {أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} [هود: 87] وذلك عندما قال لهم: {أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [هود: 85] أي: احرصوا على نظافة كسب أموالكم.
هكذا نلاحظ دور فريضة الحج في تحقيق الاستقرار الاقتصادي وتوازن الإنتاج وعدالة التوزيع، انطلاقا من حرص الشريعة الغرَّاء، على طيب الكسب وجعله شرطا لقبول هذا العمل على ما فيه من مشقة وجهد، إعلاء لقيمة نظافة وطيب الكسب المالي، وخلوها من كسب الربا، والميسر، والباطل، والغرر، والغش، والاحتكار؛ لما لها من أثر عميق في الأداء الاقتصادي للمجتمع، وفي استقرار هذا الأداء، وفي سيادة العدل في توزيع الدخول والثروات، وفي الحد من الفقر ومقاومته، منذ اللحظة الأولى لوجوده، وفي توفير هيكل توزيع متوازن للثروات والدخول في المجتمع، وأخيرًا كل ذلك سيهيئ الفرصة لتشجيع أصحاب المواهب والقدرات على الإسهام المستمر في النشاط الاقتصادي، ليتحقق الازدهار الاقتصادي، وجوهره الكسب النظيف، ومن ثم تتحقق النهضة الاقتصادية المنشودة.

1 أخرجه البزار في مسند البزار (15/ 221) حديث رقم (8638).
2 أخرجه مسلم، كتاب الزكاة، باب قبول الصدقة من الكسب الطيب وتربيتها (2/ 703) حديث رقم (1015).

Comments are disabled.