الهرم الاقتصادي المقلوب: الديون ثلاثة أضعاف الناتج المحلي (1)

بقلم الأستاذ الدكتور/ فياض عبد المنعم

وفقًا لإحصائيات معهد التمويل الدولي بلغ حجم الديون العالمية 305 تريليون دولار بنهاية الربع الأول من العام 2023م، بما يعادل ثلاثة أضعاف قيمة الناتج المحلي الإجمالي العالمي الذي يقدر بنحو 101 تريليون دولار بنهاية عام 2022م، وهذا أعلى قيمة للديون العالمية، وكذلك أعلى نسبة مقارنة بالناتج العالمي، مما يشير إلى وجود اختلالات هيكلية عميقة في الوضع الاقتصادي الدولي، وينبئ إلى وجود احتمال لأوضاع غير مستقرة على مستوى الاقتصاد العالمي مثل حدوث حالات تعثر في سداد الديون وحالات إفلاس للمؤسسات وشيوع حالة عدم الثقة في المناخ الاقتصادي وبالتالي احتمال لتباطؤ اقتصادي.

مفهوم الدين العالمي:

يقصد بالدين العالمي تلك القروض الممنوحة لكل من المؤسسات الحكومية، والشركات المالية وغير المالية، والأسر والأفراد على مستوى العالم، وهذه القروض يصاحبها تكلفة لخدمتها تتمثل في أقساط القروض ومعدلات الفائدة على هذه القروض، وشهدت أرقام الدين العالمي ارتفاعًا ملحوظًا في العام الماضي، وذلك بعد فترة التعافي من وباء كورونا، حيث سجلت أرقام الديون العالمية أكبر زيادة في الديون في عام منذ الحرب العالمية الثانية، وذلك وفقًا لقاعدة بيانات صندوق النقد الدولي، وقد سجل الدين العالمي زيادة بنحو 45 تريليون دولار عند مستواه قبل جائحة كورونا.

تحليل هيكل الدين العالمي:

تشير إحصائيات الديون العالمية إلى أن ديون الحكومات تمثل نسبة 28% من إجمالي قيمة الدين العالمي، أما ديون الشركات غير المالية (الإنتاجية الزراعية والصناعة والتجارية والخدمات غير المالية) فتبلغ نسبتها نحو 30.1% من إجمالي قيمة الدين (وهذه نسبة طبيعية، والمفروض أن تكون أعلى من ذلك). أما ديون المؤسسات المالية (المصرفية وغير المصرفية) فقد بلغت نسبتها نحو 23% من إجمالي قيمة الدين العالمي، بينما بلغت ديون الأسر والعائلات نحو 18.9%.
ويلاحظ بنظرة تحليلية إلى المكونات النسبية لهيكل الدين العالمي ارتفاع نسبة الديون الحكومية من إجمالي قيمة الديون العالمية بنسبة 28% ، وهي نسبة مرتفعة وتؤكد ارتفاع النشاط الاقتراضي للحكومات المختلفة، بسبب تزايد عبء المديونيات السابقة، والإفراط في الاقتراض غير الرشيد لتمويل الإنفاق الحكومي الواسع، ووجود اختلال جذري في هيكل الموازنات العامة للحكومات، حيث لا يتوافر لدى تلك الحكومات موارد مالية ذاتية للإنفاق على بنود الإنفاق العام الحكومي المتزايدة، فتلجأ إلى مزيد من الاقتراض الذي يتراكم عامًا بعد آخر، بدون وجود سقف لإيقاف هذه الزيادة المطردة في الديون الحكومية، لأن ذلك يتطلب وجود فائض مالي متراكم ولسنوات ممتدة، وهذا غير ممكن في ظل السياسات المالية الحكومية المتبعة وفي ظل جمود الهياكل الحالية للموازنات العامة الحكومية، الأمر الذي يؤكد الحاجة الماسة لقواعد اقتصادية حاكمة لتلك الموازنات الحكومية من خارج الفكر الاقتصادي الوضعي السائد عليها، وهذه مسألة يمكن أن يتميز فيها الاقتصاد الإسلامي بقواعده وضوابطه التي تحكم إطار ونظام الموازنة العامة من منظور الاقتصاد الإسلامي حيث تعمل هذه القواعد والمبادئ للنظام المالي العام في الاقتصاد الإسلامي علي الحد من الاقتراض ومنع تراكم القروض والديون في الموازنة العامة، وذلك مثل تفعيل قاعدة التخصيص للموارد. وذلك بمواجهة مشكلة الفقر ودعم الفئات غير القادرة بتوفير موارد معينة من مصادر متعددة كالزكاة والصدقات التطوعية والوقف والتوظيف. الأمر الذي يخفف العبء على بنود الموازنة العامة الخاصة بالدعم. إلى جانب استخدام وسائل تمويلية غير الاقتراض لتمويل الاستثمارات العامة في البنية الأساسية مثل آلية الصكوك وصيغ الإنشاء للأصل والاستغلال المؤقت ثم إعادة الأصل. إلى غير ذلك من صيغ تمويل مشروعات البنية الأساسية المنضبطة بقواعد الشريعة (وهذا يحتاج إلى حديث آخر مفصل).
كما يظهر تحليل هيكل الدين العالمي قطاعيًّا، إلى أن الديون المستحقة على الشركات غير المالية (الإنتاجية بأنواعها) قد بلغت نحو 130.1% من إجمالي قيمة الدين العالمي، وهي نسبة غير مرتفعة، وتعنى اعتماد الشركات الإنتاجية على الاقتراض في توفير قدر من حاجاتها المالية، وهي مسألة شديدة الأهمية عند النظر الدقيق لها؛ لأنها تدحض مقولة أن الشركات الإنتاجية لا يمكن أن تعمل وتتوسع في أنشطتها بدون الاعتماد على الاقتراض بالفائدة، ولكن الانخفاض النسبي لديون الشركات الإنتاجية إلى أقل من الثلث من إجمالي الديون العالمية يؤكد أن نشاط سوق القروض إنما يتجه إلى تمويل أنشطة ورغبات غير إنتاجية، وهذه مسألة تحتاج إلى أن يتناولها الباحثون والخبراء في الاقتصاد الإسلامي بالفحص والدراسة العميقة والشاملة، وهنا نستطيع استخلاص أن منع القروض بالفائدة على الأجل لن يترتب عليه آثار كبيرة على توفير الاحتياجات المالية للمؤسسات الإنتاجية وأنه يمكن توفير بدائل متنوعة للقروض بالفائدة بغرض تمويل النشاط الإنتاجي مثل صيغ التمويل بالمشاركات بالربح بأنواعها المختلفة أو صيغ البيوع الآجلة لتوفير المستلزمات من المواد والأصول الثابتة اللازمة لممارسة النشاط الإنتاجي، وهناك دراسات متخصصة عديدة قد أكدت على أن اعتماد الشركات الإنتاجية على القروض في توفير احتياجاتها التمويلية يجعلها أكثر هشاشة عند التعرض لمخاطر النشاط الاقتصادي، وأن هناك دراسات تطبيقية على العديد من الشركات الإنتاجية التي اعتمدت على تمويل حاجاتها التمويلية بأسلوب المشاركة في الأرباح إما عن طريق طرح المزيد من أسهم رأس المال أو بعقود مشاركات تمويلية مؤقتة قد أثبتت تلك الدراسات أن هذا الأسلوب من التمويل غير الاقتراض قد جعل تلك الشركات أقوى وأكثر مناعة في مواجهة مخاطر النشاط الاقتصادي، وأن ذلك قد ترجم إلى تحقيق معدلات أعلى من الربحية، بسبب ارتفاع قدرة الهيكل التمويلي لتلك الشركات على المخاطرة في الأسواق وجني أرباح أعلى.
ثم يأتي القطاع المالي، أي المؤسسات المصرفية والمؤسسات المالية وغير المصرفية التي يتحدد نشاطها في حشد الأموال بأدوات مالية مختلفة وتوجيهها لأغراض التمويل للحكومات وللشركات وللأسر، وقد بلغت نسبة ديون القطاع المالي نحو 23% من إجمالي قيمة الديون العالمية، وهذه نسبة مرتفعة تشير إلى اتجاه تلك المؤسسات المالية للاقتراض لتوفير احتياجاتها المالية، أي أن هذه المؤسسات المالية باتت تقترض من أجل أن تقرض الغير. وتجني العوائد بالفرق بين فائدة الاقتراض وفائدة الإقراض. وهذه المؤسسات تحتاج إلى إصلاح جذري شامل، يتضمن تغييرًا في طبيعة هياكلها التمويلية وفي الأدوات المالية التي تطرحها في الأسواق سواء على مستوى جذب الأموال أو على مستوى منح التمويل.
وأخيرًا، يأتي قطاع الأسر والعائلات، حيث بلغت نسبة ديون نحو 18.9% من إجمالي قيمة الدين العالمي، أي أن ديون العائلات والأسر في العالم بلغت مبلغ 5.8 تريليون دولار، وهو مبلغ مرتفع، ويشير إلى اعتماد الأسر على الاقتراض لتوفير حاجاتها الاستهلاكية بأغراضها المختلفة، ويأتي جزء كبير من هذه الديون بسبب ما تحدثه الحملات الإعلانية والدعايات وحب التقليد من رغبات محمومة على الشراء بالديون مع سهولة الحصول على بطاقات الائتمان وأشباهها من أدوات ووسائل أخرى توفر عمليات الشراء للأسر بالديون والقروض، وهذا مما يرفع من ثقل الالتزامات المالية المستقبلية على قطاعات واسعة من الأسر والأفراد، وجعل حياة الكثير منهم يعيش حياته بكاملها وهو لا يخرج من دائرة الاقتراض ودفع تكلفة هذا الاقتراض.
كما يظهر تحليل هيكل الديون العالمية من منظور دولي، إلى أن ديون البلاد الناشئة والنامية بلغت نحو الثلث من إجمالي الديون العالمية بمبلغ 100 تريليون دولار وهو ما يعادل 250% من إجمالي الناتج المحلي الإجمالي لها، وهو ما يشكل ضغطًا متزايدًا على اقتصاد تلك الدول في المستقبل من أجل سداد أعباء تلك المديونيات.
أما ديون البلاد المتقدمة اقتصاديًّا فبلغت نسبتها الثلثين من إجمالي الديون العالمية أي نحو 300 تريليون دولار بنسبة 330% أي نحو ثلاثة أضعاف وثلث إجمالي الناتج المحلي للدول المتقدمة.
وتأتي الولايات المتحدة الأمريكية كأكبر حكومة مدينة في العالم برقم دين بلغ نحو 31 تريليون دولار عام 2022م ويمثل هذا الدين 10% من إجمالي الدين العالمي ونحو 130% من الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي.

Comments are disabled.