الربا في البلدان الإسلامية من منطق الضرورة إلى الأمر الواقع وَالقَوَاعِدُ الفِقْهِيَّة التي يَسْتنِد إليها تَحْرِيمُ الرِّبَا
بقلم الأستاذ الدكتور/ عبد الرحمن أحمد يسري
تناولنا في المقال السابق موقف الديانات الثلاث: “اليهودية، والمسيحية، والإسلام” من الربا، ونستكمل في هذا المقال.
1. الربا في البلدان الإسلامية من منطق الضرورة إلى الأمر الواقع
أُدْخِل نظام الرِّبَا رسميًّا بالبلدان الإسلاميّة في أثناء القرنين التاسع عشر والعشرين عن طريق قناتين، هما: التشريعات الوضعيّة التي أقرَّت التعريف الغربيّ للربا، والنظام المصرفيّ الحديث الذي يقوم أساسًا على الفائدة، وقد فُتِحت هاتان القناتان في أثناء الاستعمار الغربيّ للعالم الإسلاميّ، وبالتدريج اكتسب نظام الرِّبَا مزيدًا من القوة والعمق في الدول الإسلاميّة؛ بسبب تبعيتها للعالم الغربيّ سياسيًّا واقتصاديّا، فضلًا عن نظم التعليم التي أهملت توجيهات الإسلام الاقتصاديّة.
وتأثرًا بهذه الأجواء فقد قام عدد من علماء المسلمين وفقهائهم ومفكريهم بالدفاع عن نظام الرِّبَا عن طريق التفريق بين الفائدة والرِّبَا والتمييز بينهما باستخدام حجج ومناقشات مماثلة لتلك التي استخدمت في الأزمنة القديمة والعصور الوسطى وإعادة صياغتها بما يناسب عصرنا الحديث(1).
ومن هؤلاء الشيخ عبد العزيز جاويش (1908م) الذي رأى أن الرِّبَا المحرَّم هو الرِّبَا المضاعف ذو المعدلات المركَّبة، أما الفائدة البسيطة فليست ربا محرَّمًا، وكذلك كان رأى الشيخ رشيد رضا صاحب الإمام محمد عبده. ومن هؤلاء أيضاً الدكتور معروف الدواليبي (1951م) الذي رأى أن الرِّبَا المُحرَّم إنما يكون في الفائدة المفروضة على القروض الاستهلاكيّة، أما الفوائد على القروض المُقدَّمة لتمويل التجارة والإنتاج فليست ربا.
أمَّا الفقيه القانونيّ والإسلامي الدكتور عبد الرزاق السنهوريّ (1956م) فلم ينكر حرمة الرِّبَا بجميع أشكاله سواء أكان فائدة مصرفيّة بسيطة أم مركَّبة على القروض، لأغراض الاستهلاك أو الإنتاج، ولكنه رأى أن النظام الاقتصاديّ الرأسماليّ الذي ما زال مهيمنًا على العالم يعتمد أساسًا على آلية الإقراض بالفوائد، ولا سبيل للفكاك من أسر النظام الاقتصاديّ الرأسماليّ ومعاملاته الرِّبَوِيَّة إلا إذا تغير النظام نفسه، فضلًا عن أن الأنظمة الاقتصاديّة السائدة في البلدان الإسلاميّة تخضع لهذا النظام ولا تتوافق تمامًا مع الفلسفة الاقتصاديّة الإسلاميّة؛ ومِنْ ثَمَّ فإن تمويل المشروعات على أساس المشاركة في الربح والخسارة –كما يطلبه الإسلام- أصبح نادرًا، وفي هذه الظروف حين يبحث أصحاب المشروعات عن تمويل لأعمالهم لا يجدون أمامهم إلا البنوك أو المؤسسات التي تمول بالفائدة؛ ولذلك فإن الحاجة العامة إلى التعامل بنظام الفائدة – أي الرِّبَا- أصبحت ماسة.
ويخلص السنهوري من ذلك إلى أنه يمكن إباحة الفائدة استثناء على سبيل المصلحة والضرورة التي من شأنها أن تبيح أشياء: كالميتة، ولحم الخنزير، أما إذا تغير الإطار المذهبيّ الرأسماليّ فإنه يُعاد النظر في تقدير الحاجة إلى الرِّبَا.
وقد تحفظ السنهوري في رأيه القائل بإباحة الرِّبَا استثناء في إطار المذهب الرأسماليّ بأن هذا يجري فقط بالنسبة للفائدة البسيطة، أما الفوائد المركبة (الرِّبَا المضاعف) فلا يمكن استثناؤها؛ إذْ لا تتسع لها نظريّة الضرورة(2). وقد انعكس رأي السنهوري هذا في القانون المدنيّ والقانون التجاريّ في مصر، وفي عدد من الدول العربية الأخرى التي صاغ السنهوري قوانينها، بحيث سمحت تلك القوانين بفرض الفائدة بمعدلات بسيطة في حدود (4%-8%)، ولا شك في أن هذا الوضع لا يختلف عما حدث في أوروبا منذ القرن السادس عشر. وقد أدى تقعيد الإباحة الاستثنائية للفائدة إلى فتح باب الإباحة الدائمة لها، وأدت الاستثناءات إلى مزيد من الاستثناءات، ولم تلبث الاستثناءات أن أصبحت القاعدة واختفى الأصل تمامًا!
أما الشيخ محمد سيد طنطاوي مفتي جمهورية مصر العربية الأسبق (1991م) فإنه لم يَنْفِ حرمة الرِّبَا بأي شكل كان، لكنه رأى أن معاملات البنوك أمور مستحدثة وهي متنوعة المقاصد مختلفة الوسائل؛ ولذلك فقد سمح بالتعامل بالفائدة في بعض الحالات التي زعم فيها أن الفائدة تساوي الربح الذي هو حلال، وقد استدل بأن القروض المصرفيّة عادة ما تُوجَّه إلى أنشطة استثماريّة، وإذا كان من الممكن تقدير أرباح الاستثمار بطريقة صحيحة ودرجة معقولة من اليقين والتأكد فلماذا لا نسمح للناس بأخذ تلك الأرباح، فهي في الحقيقة ليست بالفائدة المحرمة؟ لكن الخطأ الفادح في هذا الاستدلال أنه لا يمكن التعامل مع الأرباح المتوقعة بالطريقة نفسها التي نتعامل بها مع الأرباح المحقَّقة بحيث نعطيها نفس أحكامها من وجهة نظر الشريعة الإسلاميّة؛ لأنه في علم الفقه -وعلم الاقتصاد كذلك – الربح هو المقدار المحقق فعلاً من الفرق بين الإيرادات الكلية المُحَصَّلة من المبيعات والتكاليف الكلية. أما الربح المتوقع فهو أمر خاضع للتوقعات والتقديرات وقد يتحقق أو لا يتحقق. وقول الشيخ بأن القروض المصرفية توجه إلى أنشطة استثمارية مربحة ويمكن أن يجري تقدير أرباحها بدرجة أو أخرى من اليقين – بعيد عن الواقع العملي؛ إذ إن البنوك تقرض أموالا بفائدة محدد سعرها في السوق المصرفي مقابل استخدام العملاء النقود المقترضة مع التعهد برد الأصل كاملاً، فهي لا تستثمر بالمفهوم الاقتصادي وإنما تقرض، وحتى في الحالات المحدودة التي تستثمر فيها مباشرة، متحملة مخاطر الاستثمار، فإنها لا ترتبط إطلاقًا بمفهوم الاستثمار الإسلامي، هذا المفهوم الذي لا يقوم فقط على مبدأ تحمل المخاطر، من حيث ربح قليل أو كثير، بل يستلزم مشاركة البنوك في الربح أو تحمل الخسارة إذا حدثت.
وقدم بعض الاقتصاديّين الإسلاميّين: (صفي الدين عوض، وشوقي الفنجري) مناقشة أخرى لفصل الفائدة عن الرِّبَا والتمييز بينهما من منطلق ضرورة التفرقة بين الفائدة الاسمية والفائدة الحقيقية(3). فالنقود – أي العملة النقدية – تفقد نسبة صغيرة أو كبيرة من قيمتها الحقيقية أثناء التضخم، وناقشوا أن أسعار الفائدة عادة ما تكون أقل من أو مساوية لمعدلات التضخم الجارية؛ لذلك فإنه في مثل هذه الظروف يمكن اعتبار مدفوعات الفائدة تعويضًا عن الخسارة في القيمة الحقيقيّة للنقود وليست ربا.
لكن هذه الحجة لا يمكنها تبرير الفائدة المصرفية أو غيرها في حالات انخفاض المستوى العام للأسعار أو ثباته أو ارتفاعه بمعدل أقل من سعر الفائدة السائد، وفي كل هذه الحالات الممكنة عمليًّا ستكون الفائدة ربا وتصبح حجة الفائدة مقابل التضخم باطلة. وقد اعتمدت تلك المحاولة لتبرير الفائدة –كما يدَّعي أنصارها- على مبدأ التعويض الذي وضعه الإمام أبو يوسف صاحب الإمام أبي حنيفة في القرن الثامن الميلاديّ (الثاني الهجريّ)، وقد استَخدَم تلك الحجة في حالة الفُلُوس (النقود المعدنية الرخيصة) التي كانت قيمتها الحقيقيّة عُرضة للتدهور الكبير في مقابل النقود الذهبية والفضية وذلك في أوقات الغلاء (التضخم)، وعلى الرغم من ذلك فإن أبا يوسف وأتباعه لم يفكروا في التضخم بوصفه حالة دائمة، ولم يتبنَّوا مبدأ التعويض في ظل نظام نقديّ يعتمد كليةً على النقود الورقية، ولم يتخيلوا توظيف نظام التعويض المقترح لتبرير نظام الفائدة.
لقد أدرك كثير من الاقتصاديّين الإسلاميّين أن مشكلة التضخم المتأصِّل في معظم البلدان الإسلاميّة تؤثر بشدة في القيمة الحقيقيّة للنقود ولا سيما في الأجل الطويل؛ ولذلك فإنها تحتاج إلى حل حقيقيّ على أساس الشريعة. وقد يمكن قبول تعويض الخسارة في القيمة الحقيقيّة للنقود على أساس الشريعة (بشروط محددة) باستخدام شكل مقبول للربط القياسيّ indexation وليس عن طريق نظام الفائدة، ويرى كثير من الاقتصاديّين الإسلاميّين أن الحل الحقيقيّ والعلاج الفعال لمشكلة التضخم وانخفاض القوة الشرائية والقيمة الحقيقيّة للنقود هو اتخاذ خطوات إيجابية نحو نظام نقديّ عادل لا مكان فيه للتضخم(4).
لقد أخفقت المحاولات السابقة التي اجتهدت في الدفاع عن الفائدة في وضع قواعد نظرية وشرعية تقنع أهل العلم بأن الفائدة ليست هي الربا. كما أخفقت في إقناع عامة المسلمين البسطاء حول العالم بإباحة نظام الفائدة. مع ذلك فإن هذه المحاولات أوجدت مناخًا ملائمًا لاستمرار نظام الفائدة الذي قبلته الدول الإسلاميّة في ظل سيطرة القوى الاستعمارية عليها منذ قرن أو قرنين، النظام الذي مازالت خاضعة له تحت وطأة ظروف ضعفها الاقتصادي.
من الجهة الشرعية فإن مجمع البحوث الإسلاميّة بالأزهر ومجلس الفكر الإسلاميّ بباكستان ومجمع الفقه الإسلاميّ التابع لمنظمة المؤتمر الإسلاميّ والمجامع الفقهية الأخرى في العالم الإسلاميّ كل هؤلاء مازال لهم موقفهم الثابت في تحريم الربا ومساواته بالفائدة.
2. القَوَاعِدُ الفِقْهِيَّة التي يَسْتنِد إليها تَحْرِيمُ الرِّبَا
ينبني تحريم الفائدة أو الرِّبَا على ثلاث قواعد فقهيّة:
- القاعدة الأولى-“كُلُّ قَرْضٍ جَرَّ نَفْعَا فَهُوَ رِبَا“:
هذه القاعدة مبنية على أخلاقيات القرض الحسن المستمدة من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، ومعنى هذا أن المكافأة الوحيدة للقرض هي شكر المقترض للمقرض مع السداد. - القاعدة الثانية-“الخَرَاجُ بِالضَّمَان“:
تعني هذه القاعدة أن مالك رأس المال يجب أن يختار بين “العائد” على رأس المال عن طريق المشاركة مع مستخدمه في الربح والخسارة أو “الضمان” لرأس ماله من قِبَل من يأخذه بطريق الاقتراض، بحيث يعيد إليه أصل المبلغ لا أقل ولا أكثر، وعلى هذا فإن القاعدة تعني أنه لا يمكن لصاحب رأس المال الجمع بين كلٍّ من “العائد” و”الضمان” لرأسماله في صفقة واحدة. - القاعدة الثالثة: “الغُرْمُ بالغُنْم“:
هذه القاعدة تؤكد مضمون القاعدة السابقة، فالغُنم هو العائد أو الربح، والغُرْم هو الخسارة أو احتمال الخسارة، وتعني هذه القاعدة أن مالك رأس المال لا يستحق الغنم (العائد أو الربح) إلا إذا كان مستعدًا للمشاركة في الغرم (الخسارة). أي: قبول مخاطرة احتمال عدم تحقق ربح أو احتمال خسارة بعض أو كل رأس ماله، وهذه القاعدة تلخِّص لب أو جوهر المشاركة الإسلامية في الاستثمار.
إن في هذه القواعد الثلاث بيانًا واضحًا على أن الفوائد المصرفيّة المدفوعة للمودعين فوق رؤوس أموالهم (المضمونة) ربا محرم، وكذلك الفوائد التي يجب على المقترضين دفعها للبنوك مقابل استخدام أموال اقترضوها منها هي رِّبَا مُحَرَّم قطعًا.
هذا هو الربا في البلدان الإسلامية من منطق الضرورة إلى الأمر الواقع، وأهم القواعد الفقهية التي يستند إليها تحريم الربا، وأما المنطق الاقتصادي الإسلامي لتحريم الربا من خلال عجز نظام الفائدة عن التخصيص الأمثل للموارد الاقتصادية، فهو موضع المقال التالي.
(1)حذَّر النبيّ –صلى الله عليه وسلم- في أحاديث عِدَّة من الاتباع الأعمى الذي قد يقع فيه المسلمون حين يُحاكُون الأمم السابقة في طرائقهم وتقاليدهم. أخرج الإمام مسلم في صحيحه، كتاب العلم، باب اتباع سنن اليهود والنصارى (8/ 57 ) حديث رقم (2669) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا فِي جُحْرِ ضَبٍّ لَاتَّبَعْتُمُوهُمْ» قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ آلْيَهُودَ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: «فَمَنْ»
(2) لابد من التنويه والتأكيد على أن السنهوري لم يقل بتماثل الضرورة التي تبيح التعامل بالفائدة البسيطة مع الضرورة الشرعية في حالة أكل الميتة ولحم الخنزير، حيث قال: إن التعامل بالفائدة نشأ عن حاجة ماسَّة ترقى إلى مرتبة الضرورة. لكن المتعاملين بالفائدة البسيطة على هذا الأساس توغَّلوا في الفائدة المركبة ( الربا المضاعف ) الذي أكد السنهوري على حرمته وعدم دخوله في دائرة الضرورة. كذلك لا يعرف كثير من الناس أن الضرورة لا يمكن أن تكون دائمة! فإن قضية تنزيل الحاجات منزلة الضرورات وقاعدة: “الضرورات تبيح المحظورات” ينبغي التعامل معها بحذر شديد لمنع إساءة استخدامها، فضلًا عن ضرورة استدعاء القواعد المكملة لها كقاعدة: “ما أبيح لضرورة يُقدر بقدرها”.
(3) الفائدة الحقيقية هي معدل الفائدة الاسمي مطروحا منه معدل التضخم، فإذا كان معدل الفائدة كما حدده البنك هو 10% مثلا، وكان معدل التضخم 10% فإن الفائدة الحقيقية (الربا) صفر.
(4) انظر: الدكتور عبد الرحمن يسري أحمد “التضخم ومشكلات النقود الورقية وإمكانيات علاجها في إطار إسلامي”، بحث مقدم لدورة مجمع الفقه الإسلامي، دبي، 2019.