أثر اعتبار التهمة في صحة التصرفات المالية
بقلم الأستاذ الدكتور/ عزُّ الدِّين بن زغيبة
أستاذ الفقه والأصول والمقاصد
ورئيس هيئة الرقابة والفتوى في عدد من المصارف الإسلامية
نقصد باعتبار التهمة من قبل الشارع في الحكم على تصرفات المكلفين “تلك التصرفات التي يكون إفضاؤها إلى المفسدة كثيرًا لا غالبًا ولا نادرًا”، وقد اختلف العلماء في تلك المسألة على مذهبين:
المذهب الأول: ذهب الإمام مالك ومن وافقه من العلماء إلى أن مراعاة التهمة أصل يبنى عليه الشرع، كما بين ذلك ابن رشد(1)، وبناء عليه فإن التصرف الذي قويت فيه التهمة يمنع الدخول فيه، وإذا فقدت تلك التهمة جاز الدخول فيه واستدل على ذلك من ثلاثة وجوه:
الوجه الأول: كثرة النصوص الواردة بالمنع في هذا القسم، منها قوله عليه الصلاة والسلام: «إِنَّ مِنْ أَشَرِّ النَّاسِ عِنْدَ اللهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، الرَّجُلَ يُفْضِي إِلَى امْرَأَتِهِ، وَتُفْضِي إِلَيْهِ، ثُمَّ يَنْشُرُ سِرَّهَا»(2). وهذا يعود لكثرة الفساد الذي يترتّب على إفشاء ذلك السرّ، وكذلك نهيه عليه الصلاة والسلام عن الخليطين(3)، وعن الانتباذ في الأوعية التي لا يعلم تخمير النبيذ فيها(4).
وقد علّق الشاطبي على ذلك قائلاً: “يَعْنِي: أَنَّ النفوس لَا تَقِفُ عِنْدَ الْحَدِّ الْمُبَاحِ فِي مِثْلِ هَذَا، وَوُقُوعُ الْمَفْسَدَةِ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ لَيْسَتْ بِغَالِبَةٍ فِي الْعَادَةِ وَإِنْ كَثُرَ وُقُوعُهَا“(5).
الوجه الثاني: عدّ الإمام مالك هذا النوع داخلاً ضمن باب سدّ الذرائع، وهذا بناءً على كثرة القصد وقوعًا، وإن كان القصد لا ينضبط في نفسه؛ لأنّه من الأمور الباطنة الخفيّة التي لا سبيل لقيامها، إلا أن له جهةً يُدرك بها هي: كثرة الوقوع في الوجود، أو مظنّةُ ذلك الوقوع، وكما عددنا جهة المظنّة مع علمنا بصحّة التخلف، وإمكانية وقوعه، وكذلك تعتبر الكثرة؛ لكونها مجالاً للقصد.
الوجه الثالث: إن تشريع الأحكام يكون بناءً على عللها، مع حدوث فوات تلك العلل كثيرًا في بعض الأحكام، فحدّ الخمر مثلاً، مشروع للزجر، وحصول الازدجار به واقع في الوجود من جهة الكثرة لا الغلبة، فعدَّت الكثرة في الحكم بما هو على خلاف الأصل، مع أن الأصل عصمة الإنسان عن الإضرار به وإيلامه، كما أن الأصل في مسألتنا الإذن، فخرج عن الأصل هناك؛ لحكمة الزجر، وخرج عن الأصل هنا من الإباحة؛ لحكمة سدّ الذريعة للممنوع.
وبناءً على هذا، ذهب الحنفية والمالكية والحنابلة إلى منع العينة والحكم بفساد عقودها.
بيع العينة وتنوع صوره:
مفهوم العينة على العينة الثنائية التي تعود فيها السلعة للبائع، بل يشمل كل الصور التي يحصل فيها المدين على نقد حاضر مقابل أكثر منه في ذمته، من خلال شراء سلع ليس له بها حاجة بثمن مؤجل، ثم يبيعها نقدا.
ومفهوم العينة بذلك يشمل ما يسىمى بالتورُّق وهو: الحصول على النقد من خلال شراء سلعة بأجل ثم بيعها نقدًا على طرف آخر غير البائع، وهذا المعنى هو الذي عناه شيخ الإسلام ابن تيمية حينما سئل: “عن رجلٍ احتاج إلى مئة درهم، فجاء إلى رجلٍ فطلبَ منه دراهم، فقال الرجل: ما عندي إلا قماش، فهل يجوز له أن يبيعه قماش مئةِ درهم بمئة وخمسين إلى أجلٍ؟ أو يشتري له قماشًا من غيره، ثمّ يبيعه إياه بفائدة إلى أجل؟ وهل يجوز اشتراط الفائدة قبل أن يشتري له البضاعة“.
فأجاب رحمه الله: “متى قال له الطالب: أريد دراهم، فأيّ طريق سلكوه إلى أن تحصل له الدراهم ويبقى في ذمته دراهم إلى أجل فهي معاملة فاسدة، وذلك حقيقة الربا، فإن حقيقة الربا أن يبيعه ذهبًا بذهب إلى أجلٍ، أو فضةً بفضةٍ إلى أجلٍ، حرم الله الربا لما فيه من ضرر المحاويج، وأكل أموال الناس بالباطل“(6).
ويرى ابن العربي أن هذا التصرف لا يمكن قبوله في الشريعة حتى وإن حصل التراضي عليه بين المتعاقدين، فإن الله عز وجل لا يرضاه، وهو معنى قوله: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188] وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «أَرَأَيْتَ إِذَا مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ، بِمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ»(7).
قال أبو بكر ابن العربي في كتابه القبس معلقا على حديث الربويات الست: “ولم يقل أحدٌ من الأمة: إن الربا يقتصر على هذه الأعيان الستة لا من الصحابة فمن دونهم، بل كانوا يتخوَّفون من الربا ويتأسَّفون على أن البيان فيه لم يقع فيه بالجلاءِ، وقد كان عمر بن الخطاب يقول على منبره: “إن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – توفِّيَ ولم يبيّن لنا أبوابًا من الربا فذروا الربا والريبة“(8). وهذه هي الشبهة التي أثبتها مالك وتفطن لها دون سائر الفقهاء“(9).
وعَنْ أُمِّهِ الْعَالِيَةِ، قَالَتْ: خَرَجْتُ أَنَا وَأُمُّ مَحَبَّةَ إِلَى مَكَّةَ فَدَخَلْنَا عَلَى عَائِشَةَ فَسَلَّمْنَا عَلَيْهَا، فَقَالَتْ لَنَا: «مَنْ أَنْتُنَّ؟»، قُلْنَا: مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، قَالَتْ: فَكَأَنَّهَا أَعْرَضَتْ عَنَّا، فَقَالَتْ لَهَا أُمُّ مَحَبَّةَ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ كَانَتْ لِي جَارِيَةٌ وَإِنِّي بِعْتُهَا مِنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ الْأَنْصَارِيِّ بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ إِلَى عَطَائِهِ، وَإِنَّهُ أَرَادَ بَيْعَهَا فَابْتَعْتُهَا مِنْهُ بِسِتِّمِائَةِ دِرْهَمٍ نَقْدًا، قَالَتْ: فَأَقْبَلَتْ عَلَيْنَا، فَقَالَتْ: «بِئْسَمَا شَرَيْتِ وَمَا اشْتَرَيْتِ، فَأَبْلِغِي زَيْدًا أَنَّهُ قَدْ أَبْطَلَ جِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا أَنْ يَتُوبَ»(10).
وورد عن بعض السلف نصوص تقرر منع ما فيه التهمة من التصرفات المالية منعا حاسمًا نذكر منها: ما روي عن أبي كعب عبد ربه بن عبيد الأزدي أنه قال: قلت للحسن بن يسار: إني أبيع الحرير فتبتاع مني المرأة والأعرابي، يقولون: بعه لنا فأنت أعلم بالسوق، فقال الحسن: “لا تبعه ولا تشتره ولا ترشده إلا أن ترشده إلى سوق”(11).
وقال ابن القاسم: “وَلَقَدْ سَأَلْتُ مَالِكًا عَنْ الرَّجُلِ يَبِيعُ السِّلْعَةَ بِمِائَةِ دِينَارٍ إلَى أَجَلٍ فَإِذَا وَجَبَ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا قَالَ الْمُبْتَاعُ لِلْبَائِعِ: بِعْهَا لِي مِنْ رَجُلٍ بِنَقْدٍ فَإِنِّي لَا أُبْصِرُ الْبَيْعَ، قَالَ: لَا خَيْرَ فِيهِ وَنَهَى عَنْهُ“(12).
المذهب الثاني: ذهب الإمام الشافعي إلى عدم منع المكلف من التصرفات التي كثُرت التهمةُ فيها، وقالوا: بجواز دخوله في ذلك العمل، واستدلوا لذلك من وجهين:
الوجه الأول: أن العلم والظنّ بوقوع المفسدة منتفيان وغير حاصلين، إذ ليس هناك احتمال محضٌ بين الوقوع وعدمه، ولا توجد هناك قرينة ترجَّح بها إحدى الجهتين على الأخرى، واحتمال القصد للمفسدة والإضرار، لا يقوم مقام القصد نفسه، ولا يقتضيه لوجود العوارض من الغفلة وغيرها عن كونها موجودة أو غير موجودة.
الوجه الثاني: أن المكلَّف لا يصحّ عدّه هنا مقصراً ولا قاصدا كما هو شأنه في العلم والظنّ؛ لأن حمله على القصد إليهما ليس أولى من حمله على عدم القصد إلى واحد منهما، وإذا كان كذلك فالدخول في العمل المأذون فيه قويٌّ جدًّا فلا يُمنَع.
وبناء عليه قال الإمام الشافعي: “أَصْلُ مَا أَذْهَبُ إلَيْهِ أَنَّ كُلَّ عَقْدٍ كَانَ صَحِيحًا فِي الظَّاهِرِ لَمْ أُبْطِلْهُ بِتُهْمَةٍ وَلَا بِعَادَةٍ بَيْنَ الْمُتَبَايِعَيْنِ وَأَجَزْته بِصِحَّةِ الظَّاهِرِ وَأَكْرَهُ لَهُمَا النِّيَّةَ إذَا كَانَتْ النِّيَّةُ لَوْ أُظْهِرَتْ كَانَتْ تُفْسِدُ الْبَيْعَ”(13).
وما ذهب إليه الإمام مالك، ومن تَبِعه هو الأحوط للدين؛ دفعًا من الحومان حول الحمى، الذي يؤدِّي إلى الوقوع في الشبهات المحرّمة، لقوله صلى الله عليه وسلم: “وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ“(14).
(1)ينظر: البيان والتحصيل (7/ 112).
(2)أخرجه مسلم، كتاب النكاح، باب تحريم إفشاء سر المرأة (2/ 1060) حديث رقم (1437).
(3)أخرجه مسلم (3/ 1572) حديث رقم (1981) عن أنس بن مالك، يقول: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يخلط التمر والزهو، ثم يشرب، وإن ذلك كان عامة خمورهم يوم حرمت الخمر». والزهو: قال الجوهري الزهو بفتح الزاي وأهل الحجاز يقولون بضمها وهو البسر الملون يقال إذا ظهرت الحمرة أو الصفرة في النخل فقد ظهر فيه الزهو وقد زها النخل زهوا وأزهى لغة، ينظر: شرح النووي على مسلم (10/ 178).
(4)أخرجه البخاري، كتاب المناقب، باب قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13] (4/ 178) حديث رقم (3492) ومسلم، كتاب الأشربة، باب النهي عن الانتباذ في المزفت والدباء والحنتم والنقير، وبيان أنه منسوخ، وأنه اليوم حلال ما لم يصر مسكرا (3/ 1577) حديث رقم (1993).
(5)الموافقات (3/ 81).
(6)جامع المسائل لابن تيمية ط عالم الفوائد (ص: 223).
(7)أخرجه البخاري، كتاب البيوع، باب إذا باع الثمار قبل أن يبدو صلاحها، ثم أصابته عاهة فهو من البائع (3/ 77) حديث رقم (2198) ومسلم، كتاب المساقاة، باب وضع الجوائح (3/ 1190) حديث رقم (1555).
(8)أخرجه ابن ماجه (2/ 764) حديث رقم (2276)، وقال البوصيري: في مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه (3/ 35) هذا إسناد صحيح رجاله ثقات.
(9)القبس في شرح موطأ مالك بن أنس (ص: 780).
(10)أخرجه الدارقطني (3/ 477) حديث رقم (3002) وانظر في الحكم عليه الهداية في تخريج أحاديث البداية، للغماري (7/ 225) حيث نقض العلل التي أعل بها الدارقطني هذا الحديث.
(11)أخرجه عبد الرزاق في المصنف (8/ 295) حديث رقم (15274).
(12)المدونة (3/ 167).
(13)الأم للشافعي (3/ 75).
(14)أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه (1/ 20) حديث رقم (52) ومسلم، كتاب المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات (3/ 1219) حديث رقم (1599).