كفاءة الإيرادات العامة في النظام المالي الإسلامي
بقلم الأستاذ الدكتور/ فياض عبد المنعم حسانين
“إن واقع الحال يؤكد على أنه بينما يقوم النظام الضريبي الوضعي على أساس الجباية، وتعبئة خزانة الدولة- فإن النظام المالي الإسلامي مصمم على أن يكون النظام الضريبي -إن صحت التسمية- موجِّهًا للنشاط الاقتصادي؛ من أجل زيادة الإنتاجية، وترشيد الاستهلاك، وتقليل البطالة، وزيادة الصادرات، والتحكم في نسبة التضخم، ولا يستهدف منه جباية موارد للخزينة العامة فقط، وتظهر معالم هذا النظام من التوجيه الكريم للإمام علي بن أبي طالب لأحد ولاته قائلًا: «وليكن نظرُك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج؛ لأنَّ ذلك لا يُدْرَكُ إلا بالعمارة، ومَنْ طلب الخراج بغير عمارة؛ أخرب البلاد، وأهلك العباد».
الرائد صالح كامل رحمه الله.
يُقصد بالنظام المالي العام تلك القواعد التي تعمل على توفير الحاجات العامة، من خلال الإنفاق العام الذي يتطلب توفُّر إيرادات مالية عامة، ثم يتم عرض النفقات العامة والإيرادات العامة في وثيقة مالية هي الموازنة العامة. ويهدف النظام المالي حشد الإيرادات المتاحة لإشباع الحاجات العامة، والتي تختلف عن الحاجات الخاصة بالأفراد، فالحاجات العامة هي الحاجات التي يحتاجها المجتمع في مجموعه ولا تخص فردًا بعينه مثل: الحاجة إلى الأمن الداخلي، والاستقرار الاقتصادي، والتنمية، ورفع مستوى الدخول، بينما الحاجات الخاصة هي حاجة كل فرد على حدة، مثل الحاجة إلى الطعام، والملبس، والمسكن.
ولقد تطور علم المالية العامة أو النظام المالي العام في الدولة الحديثة تطورًا كبيرا خلال القرنين الأخيرين، مع تطور دور الدولة في الاقتصاد والحاجة إلى تحقيق الكفاءة في تخصيص الموارد الاقتصادية، والسعي لتحقيق الاستقرار الاقتصادي، ورفع معدل النمو الاقتصادي، ورفع مستوى المعيشة لأفراد المجتمع، وتحقيق عدالة التوزيع في الدخول والثروات، فتزايد الاهتمام بالإيرادات العامة وتزايدت أهمية المالية العامة في تحقيق هذه الأهداف.
أهمية الإيرادات العامة في الاقتصاديات الحديثة:
مع تزايد وتوسُّع نطاق الحاجات العامة في العالم المعاصر، وبروز حاجات عامة جديدة مثل: الإنفاق على التنمية البشرية، والبحث العلمي، والتطوير التكنولوجي، وغير ذلك من الأدوار الحديثة، التي تتعلق بدور الدولة في تنمية الاقتصاد، وتحقيق الاستقرار والاستقلال الاقتصادي، والتنمية المستدامة الشاملة، والتي باتت تستلزم توفير موارد مالية واسعة لتغطية الإنفاق العام لتحقيق أهداف السياسة الاقتصادية العامة.
ولقد أدى قصور حجم الإيرادات العامة للدول المعاصرة إلى نتائج اقتصادية وخيمة، وأزمات اقتصادية عميقة أبرزها: تضخم المديونية العامة، التي وصلت إلى مستويات غير مسبوقة في التاريخ، حيث سجلت تلك المديونية نحو ثلاثة أضاف الناتج العالمي.
كما أدى قصور حجم الإيرادات العامة اللازمة لتمويل الإنفاق العام المتزايد إلى لجوء الحكومات إلى فرض المزيد من الضرائب على كاهل المواطنين؛ الأمر الذي ترتبت عليه نتائج سيئة مثل: ارتفاع تكلفة تحصيل الضرائب من المستلزمات الإدارية والمادية، وشيوع ظاهرة التهرب الضريبي، ورفع تكلفة الإنتاج، والإسهام في رفع معدل التضخم الاقتصادي، وهي كلها آثار سلبية على كفاءة تخصيص الموارد الاقتصادية، تسببت في غياب العدالة في الدخول والثروات، وضعف معدل النمو الاقتصادي …إلخ.
كما أدى عجز الإيرادات العامة عن تغطية الإنفاق العام إلى الإفراط في التوسُّع النقدي، بإصدار النقود الجديدة بدون الاستناد إلى ربط تلك الإصدارات النقدية بتطور الناتج الإجمالي الحقيقي، وقد أدي ذلك إلى شيوع ظاهرة التضخم في معظم بلاد العالم. ما يبيِّن لنا الأهمية المتزايدة لكفاية الإيرادات العامة، وهذا ما يتحقق في ظل قواعد النظام المالي في الإسلام.
قواعد وخصائص الإيرادات العامة في النظام المالي الإسلامي:
تتأسس الإيرادات العامة في النظام المالي الإسلامي على مجموعة من القواعد أهمها:
- الإيرادات الفعلية: تنقسم الإيرادات المالية العامة إلى إيرادات حقيقية وإيرادات مالية اسمية، فالإيرادات الحقيقية هي إيرادات ناتجة من حصيلة إيراد إنتاج حقيقي، أما الإيرادات المالية الاسمية فهي إيرادات تفْرض على الممولين (الأفراد والشركات) بدون الربط بينها وبين زيادة الإنتاج الحقيقي من السلع والخدمات، والإيرادات العامة في النظام المالي في الإسلام هي من النوع الأول.
وهذا واضح من خلال أمثلة كثيرة أبرزها التطبيق العمري للخراج، فعندما فرض عمر بن الخطَّاب الخراج على الأرض الخراجية، كان قد قدره بقيمة منخفضة جدًا بحيث يتحمله الإنتاج الزراعي من الأراضي الخراجية، ويبقى فائضٌ من الإيراد يحصل عليه العاملون على هذه الأراضي، وهو ما يشير إلى أن الخليفة عمر -رضى الله عنه- كان يستهدف أن يكون الإيراد المالي العام إيرادًا حقيقيًا ناتجًا عن جزء من الإنتاج الحقيقي. يروي أبو عبيدة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لحذيفة بن اليمان وعثمان بن حنيف لما بعثهما على الخراج: «انْظُرَا مَا لَدَيْكُمَا، انْظُرَا لَا تَكُونَا حَمَّلْتُمَا أَهْلَ الْأَرْضِ مَا لَا يُطِيقُونَ» . فَقَالَ عُثْمَانُ: وَظَّفْتُ عَلَيْهِمْ شَيْئًا لَوْ أَضْعَفْتَهُ عَلَيْهِمْ لَكَانُوا مُطِيقِينَ لِذَلِكَ، وَقَالَ حُذَيْفَةُ: وَضَعْتُ عَلَيْهِمْ شَيْئًا مَا فِيهِ كَبِيرُ فَضْلٍ”(1).
ويتصل بذلك أن هيكل الإيرادات العامة في النظام المالي في الإسلام لا يعتمد على التمويل بتيارات الديون خاصة الديون الربوية، وقد أكَّدت هذه القاعدة الفترة التطبيقية لهذا النظام في صدر الإسلام، واستمر تطبيقها لنحو عشرة قرون متتالية، وهي التي جعلت هذا النظام عصيًّا على الانهيار التي تخلقه الأزمات المالية التي تنشأ بفعل التجارة في الديون. - انخفاض العبء المالي بما يناسب قدرة النشاط الاقتصادي: فقد استندت الإيرادات العامة في النظام المالي في الإسلام على قاعدة انخفاض العبء المالي على المكلفين بدفع الموارد المالية العامة. وهذه قاعدة عامة في كل الأعباء المالية، وهي متحققة في فرض الزكاة، وفي فرض الأعباء المالية العامة، مما يمنع من محاولات التهرب من الدفع. فتحصل من ذلك مبدأ مهم وهو تناسب العبء المالي مع قدرة النشاط الاقتصادي؛ فمقدار الواجب في الزكاة هو 2.5%، على خلاف الأمر في النظام المالي التقليدي الذي قد تصل فيه الضرائب في بعض الأحوال إلى 40%، وهي في معظم الحالات في حدود 20-25% من الدخل. وذلك متأسس على قواعد الرفق والمسامحة التي تتميز بها الشريعة الإسلامية التي يدل عليها قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] ، وقوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286].
- اتساع قاعدة المكلفين: حيث يؤدي انخفاض العبء المالي من ناحية، وارتباط هذه الأعباء بالعبادة إلى حرص المكلفين على المبادرة بإخراجها وقت ثبوتها، بل قد تؤدي قبل حلولها بفترة بسبب تقدير المكلف لحاجات الناس وظروفهم الاقتصادية، وقد أدى ذلك إلى ثبات في الإيرادات المعتادة للموازنة العامة وفي تنامٍ لإيرادات الدولة بنمو الاقتصاد.
- الجمع بين الواجب والتطوع: فهناك نوعان من المساهمين في توفير الإيرادات العامة،
النوع الأول: الأشخاص والشركات التي يفرض عليها دفع مبلغ مالي للموازنة العامة وفقًا لما يقرر ولي الأمر بالاجتهاد الشرعي بضوابطه. والنوع الثاني: المتبرعون من أصحاب الملاءة المالية المرتفعة من الموسرين، حيث يفتح الإسلام الباب واسعاً أمام هؤلاء للإسهام في توفير الموارد المالية اللازمة لإشباع الحاجات العامة في المجتمع؛ وذلك بفضل الحث المتكرر من الشريعة الإسلامية على إنفاق الأموال خاصة في وقت الحاجة الملحة فيقول المولى تبارك وتعالى: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} [الحديد: 7]، ويقول: {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11) } [الحديد: 10، 11]، فبفضل هذا الربط العضوي بين النفقة والثواب تكثر إيردات النظام المالي الإسلامي، وتتسم بالثبات والتزايد.
كفاءة الإيرادات العامة في النظام المالي في الإسلام:
نخلص مما سبق إلى أن الإيرادات العامة في النظام المالي في الإسلام تتمتع بالكفاءة، من حيث توفُّر الحصيلة المالية، وانخفاض تكلفة تحصيل تلك الموارد، وأنها موارد حقيقية وليست اسمية، وأن قاعدة المساهمين فيها تتسم بالاتساع والتنوُّع، هذا ومن الممكن تأسيس نظام للإيرادات العامة في النظام المالي الإسلامي في اقتصاد حديث، بل هو أولوية في ظل ما نشهده من تخبُّط وانحرافٍ عن النماذج العادلة، والدخول في نظم تتسبب في دورات اقتصادية وأزمات دورية.
(1) الأموال (ص: 50) برقم (106).