الاقتصاد الإسلامي بين المعايير الخلقية واستهداف التنمية المستدامة
بقلم الدكتور/ محمد السيد علي حامد
ليس صحيحا ما يدعيه بعضهم من أن الاقتصاد الإسلامي مجرد مجموعة من القيم الخلقية التي لا يزيد أثرها عن مجرد استهلاكها في المجالس الوعظية، بل هو نظام شامل متكامل ينظم كل جوانب الاقتصاد ويضمن تحقيق عوائد ملموسة على أرض الواقع، بمجرد تطبيقه، وهو الأمر الذي بات مقررا في الوقت الحالي، حيث اتجهت بعض الجامعات الكبرى إلى تدريس الاقتصاد الإسلامي، وعلوم الصيرفة وصيغ التمويل الإسلامية، انطلاقا من عدالتها، وأخلاقيتها في الوقت نفسه، ما يعني أنه نظام يرتبط ارتباطا وثيقا بالتنمية والإنتاج والنهضة الاقتصادية.
وهذا ما تنبأ به الاقتصادي الكبير جاك أستروي حينما رصد العلاقة الوثيقة بين الاقتصاد الإسلامي والتنمية في دراسة خصصها عن “الإسلام والتنمية الاقتصادية” يقول: “إن طريق الإنماء الاقتصادي ليس محصوراً في المذهبين المعروفين -الرأسمالي والاشتراكي-، بل هناك مذهب اقتصادي ثالث راجح هو المذهب الاقتصادي الإسلامي، الذي سيسود على عالم المستقبل؛ لأنه أسلوب كامل للحياة، يحقق كافة المزايا، ويتجنب كافة المساوئ، وأن المحرك للتنمية الاقتصادية موجود في القرآن الكريم والحديث الشريف بطريقة قوية“.
إن الإسلام بصفة عامة نظام شامل من التصورات والمبادئ والتشريعات والقوانين المحددة المنصبة على تنظيم المجتمع في كل مجالاته ونواحيه، وفي القلب منها الجانب الاقتصادي الذي يعرف بالاقتصاد الإسلامي، ويمتلك الاقتصاد الإسلامي إطارا شاملا في الجانب الاقتصادي: (نظرية اقتصادية، ومبادئ عمل، وتشريعات تفصيلية، وأهداف تنموية ومقاصد حضارية)، وكلها ينظم الأنشطة والعمليات الاقتصادية بطريقة تحقق المصلحة والعدالة الشاملة، وتضمن رفاهية جميع الأفراد وضمان استفادة كل مخلوق بثروات الطبيعة التي هي رزق الله لعباده ومخلوقاته، وهذا منبثق من نظرية الاقتصاد الإسلامي في استهداف الإعمار، وتحديد وظيفة المال الاجتماعية، وهدف السعي نحو الكسب، وطبيعة الرزق، وعلاقة الإنسان بالمجتمع والبيئة، ودوره الاستخلافي في الأرض.
ويؤكد الاقتصاد الإسلامي على أن وسائل تحقيق هذه الغايات هي العمل والإنتاج واستثمار المال على وجه يحقق مصلحتي الفرد والمجتمع، ويتكرر الأمر بالعمل ومشتقاته في القرآن الكريم لأكثر من 350 مرة، وتتكرر كلمة “السعي” 30 مرة، وتتردد كلمة “الكسب” 67 مرة، ما يعكس أهمية العمل في الاقتصاد الإسلامي ويحقق اتجاه هذا الاقتصاد إلى الإنتاج والسعي.
ولأجل تحقيق الغايات التي يتوخاها هذا الاقتصاد فإنه يضع مبادئ عملية لتنظيم جوانب هذا الاقتصاد كتقرير الملكية المزدوجة، والحرية الاقتصادية المنضبطة بالشرع، وتحريم المعاملات الظالمة التي تقوم على الربا والغصب وغيرها، وتحريم الاستثمار في المحرمات الخ…. ثم يضع إلى جانب ذلك تشريعات تفصيلية تتناول جوانب مختلفة من جوانب الاقتصاد وتمثل إطارا عادلا للتداول، ونظاما مميزا للإنتاج سعيا لإشباع الأولويات وضمان الكفاية والاستدامة، هذا إلى جنب تقرير حقوق في الملكيات الخاصة بضوابط معينة تضمن الوظيفة الاجتماعية للمال؛ للتصدي للكوارث، وتحجيم الفقر والحرمان، وضمان ذوي الحاجات، وتحقيق التوازن بين الفرد والمجتمع كليهما، ويظهر ذلك جليا من خلال تشريعات؛ كالزكاة، والصدقة، وسائر الحقوق التي يندب إليها الشرع.
أما الجانب الأخلاقي فهو طابع أصيل في الاقتصاد الإسلامي، يظهر في صورة مسحة إنسانية يتصف بها الاقتصاد الإسلامي، ليضمن عدم الانحراف بالمعاملات نحو التلاعب، والاحتيال، وليضمن دائما تعزيز جانب الرقابة الذاتية قبل الرقابة المجتمعية والقانونية، وهذه الأخيرة مؤسسة في الاقتصاد الإسلامي وفقا لسلطة الدولة في التدخل لتحقيق التوازن الاقتصادي والاجتماعي، ولحماية الملكيات الفردية من العدوان عليها.
وإن ارتكاز الاقتصاد الإسلامي على مبادئ العقيدة ليمد الشخص بمواصفات نفسية، تؤثر تأثيراً فاعلاً على سلوكه، نتيجة أنه يتحلى بصفات أخلاقية كالشعور بالمراقبة الذاتية بحيث يحرص على ضبط سلوكه بما يوافق أحكام الشريعة، وما يحقق به شعوره برضا الله عنه، وتنمو فيه الصفات التي تجعله إيجابياً ومتكاملاً مع غيره من أفراد المجتمع(1).
وقد حظي الجانب الأخلاقي بإشادات عالمية بعدما ثبتت أهميته بالنسبة للنشاط الاقتصادي بعامة وفي الآثار التنموية بخاصة.
يقول روجيه غارودي: “القول إن الاقتصاد الناجم عن مبادئ الإسلام هو على نقيض النموذج الغربي للنمو الذي يكون فيه الإنتاج والاستهلاك معاً غايات بذاتها، دون النظر بعين الاعتبار إلى المقاصد الإنسانية، فالاقتصاد الإسلامي في مبدئه القرآني لا يستهدف النمو ولكنه يرمي إلى التوازن، فهو لا يتماثل لا مع الرأسمالية الغربية، ولا مع الجماعية الاشتراكية، فميزته الأساسية أنه لا ينصاع للآليات العمياء التي ينطوي عليها اقتصاد يحمل غاياته الخاصة فيه ذاته، وإنما هو اقتصاد محكوم بغايات أسمى إلهية وإنسانية مترابطة لا انفصام فيها، سبق الغرب والشرق في خصائص اقتصادية فريدة منذ أكثر من ألف عام”.
بهذه العناصر المختلفة امتلك الاقتصاد الإسلامية بنيانا متكاملا من فلسفة عامة ومبادئ عمل واقعية زاوجت بين أشواق الروح ومتطلبات الجسد، وبين المصلحة العامة والمصلحة الخاصة، ووضعت بناء على ذلك تشريعات شكلت ملامح النشاط الاقتصادي في الإسلام، بادئة بالمبادئ العامة فيما هو عرضة للتغير والتطور، واضحة تشريعات تفصيلية لتقرير الحقوق على أساس العدل والرضا والمصلحة، وتطهير المعاملات من طرق الاحتيال والغش والتلاعب، ليس فحسب بوازع التشريعات والقوانين وما يرتبط بها من جزاءات، بل كذلك بواسطة ما بثته في روح المسلم من رقابة ذاتية تجعله عينا على نفسه ورقيبا على تصرفاته، وهذا بحق طابع يتميز به الاقتصاد الإسلامي، لا يوجد في غيره من النظم التي أهملت العنصر الأخلاقي وتركت الإنسان يسعى وراء ما يسعد شهواته ويحقق ملذاته، فكانت الجناية على الإنسان والبيئة والموارد الطبيعية، ومنذ أن ساد الاقتصاد التقليدي وسيطر على النظم المختلفة، منذ ذلك الحين وهو مرتبط بأزمات ليس أقلها الجشع والحرص على الكنز وتعظيم الثروة بكل ما هو ممكن، بل كذلك بدورات اقتصادية وأزمات متكررة باتت جزءا من نسيج هذه النظم، التي باتت تبحث عن تقليل معدلات الفقر والقضاء على الجوع في مناطق نفوذها، وبعد عقود من العمل ظهرت فكرة التنمية والاستدامة كأهداف إنسانية، في حين أن الاقتصاد الإسلامي استهدف ذلك من أول يوم عم نوره الآفاق.
وذلك بفضل نظرياته الإنسانية ونظرته لموقع المال ووظيفته في المجتمع، وعلاقة الإنسان به، فالمال مال الله وقد منح جميع البشر حق الانتفاع به كما في قوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الجاثية: 13]، وحيازة بعض البشر للمال لا تعني إطلاق يده فيه دون رعاية غيره بل هو وغيره ولو كان أكثر منه مالا في استحقاق الرزق سواء(2)، كما يدل عليه قوله تعالى: {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [النحل: 71].
ومن هنا تبلور أحد أهداف الاقتصاد الإسلامي ممثلا في الاستخلاف الذي يقتضي العمل لمصلحة البشر جميعا، وتحقيق الاستدامة الرشيدة.
والخلاصة: أن الاقتصاد الإسلامي نظام شامل وعلم متكامل، له عقيدة مميزة، ونظريات متكاملة، ونظم عملية لتحقيق التنمية وضبط عمليات التداول، يرتكز على مبادئ كبرى، وتشريعات تفصيلية، تضمن العدالة والتنمية، في إطار خلقي قيمي، يحول دون التلاعب أو الغش أو ما من شأنه أن يخل بجوهر وروح التصرفات والمعاملات الاقتصادية أو يهدم مقاصدها.
(1) د. زكي محمد إسماعيل، التنمية: المفاهيم الاجتماعية والقيم الأخلاقية، مجلة كلية العلوم الاجتماعية، العدد (40)، جامعة الإمام محمد بن سعود، الرياض، ص154.
(2) هذا أحد وجوه تفسير هذه الآية وقد ذكره الرازي ومما جاء في سياقه وملخصه ما جاء في قوله: “والمعنى أن الموالي والمماليك أنا رازقهم جميعا فهم في رزقي سواء، فلا يحسبن الموالي أنهم يردون على مماليكهم من عنده شيئا من الرزق، وإنما ذلك رزقي أجريته إليهم على أيديهم، وحاصل القول فيه أن المقصود منه بيان أن الرازق هو الله تعالى، وأن المالك لا يرزق العبد بل الرازق للعبد والمولى هو الله تعالى”. تفسير الرازي “مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير” (20/ 243).