دور التبادل في تعزيز النمو الاقتصادي وتعزيز كفاءة السياسة النقدية في الاقتصاد الإسلامي
بقلم الدكتور/ محمد النوري
أستاذ وخبير في الاقتصاد والتمويل الإسلامي
“يؤدي منع الربا إلى رخص السعر، فيزداد الطلب نتيجةً لذلك، بينما الربا يزيد من تكلفة المنتج فترتفع الأسعار، فيقل الطلب، فيحصل الكساد، ويخلْق اقتصاد مثقل بالديون تكون فيه الحكومات والمنظمون والمستهلكون مكبلين بالديون المترتبة على ذمتهم لصالح الممولين، بما يقيد من حركتهم، ويحدد مساراتهم، ويخلق مناخًا مربكًا لإستراتيجيات التنمية وللخطط الإنتاجية على مستوى الأفراد والحكومات”
الرائد صالح كامل
ترتكز الفلسفة الإسلامية للتمويل على التبادل، الذي يحتلُّ مكانة مهمة في الاقتصاد بصفة عامة؛ لأثره على كل من الاستثمار والاستهلاك، وهو بذلك يشكل الخطوة الأولى نحو النمو وتراكم الثروة وتنمية الاقتصاد ورفاهية الأفراد، تلك الأمور التي لا تتحقق بدون وجود تمويل مستمر للمشروعات؛ والتمويل بدوره يتوقف على تبادل المنافع، أي الطلب المستمر على السلع والمنتجات لما فيها من قيمة مضافة، وهذا يؤثر بشكل كبير على عملية الإنتاج اللازمة للنمو.
1. دور التبادل في تعزيز النمو الاقتصادي:
يفترض التبادل وجود عنصرين أساسيين أو بدلين رئيسيين هما: السعر والمنتج. والإسلام يدعو إلى وجود اختلاف بين هذين العنصرين ولا يقبل بتشابههما؛ وذلك لأن الاختلاف هو ضمانة خلق قيمة أكبر وإنتاج المزيد من المنافع الاقتصادية، في حين أن التشابه والتماثل بينهما يعني المداينة، كما في التمويل عن طريق الفائدة، أو المقايضة عندما تكون السلعة مقابل السلعة.
ويعبِّر التنوع بين البدلين عن فائدة متبادلة لكلا الطرفين من شأنها أن تزيد الطلب على العمليات التجارية، وتعزِّز الإنتاج؛ لهذا السبب، يميِّز القرآن بين معاملات البيع والإقراض بفائدة (الربا). وتؤكِّد الآية القرآنية على ذلك في قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]. والمعنى: “أحلّ الله البيع (التجارة)، وحرّم الربا (القرض بفائدة) “.
ويكشف التحليل الاقتصادي لهذه الآية عن إمكانية التمييز بين الاقتصاد الحقيقي القائم على أساس عمليات التبادل التجاري، وبين الاقتصادي المالي القائم على أساس آلية الائتمان والديون. حيث يتضمن النوع الأول عمليات الشراء، والبيع، والمجازفة، وتكوين الثروة، والتوظيف، بينما يسمح الثاني بنقل المخاطر، ويشجع نظم المداينات الربوية.
على هذا الأساس، ترتبط جميع عمليات التمويل الإسلامي ارتباطًا وثيقًا بعقود الشراء والبيع كما في: بيع المرابحة (البيع بهامش الربح)، وبيع السلم (تأجيل المبيع وتعجيل الثمن)، والاستصناع أو عقد المقاولات، وعقد الإجارة ( بيع حق الانتفاع) ، إلخ.
وفي الوقت نفسه، ترتبط عمليات الاستثمار ارتباطًا وثيقًا بالإنتاج، وتكوين الثروة من خلال عقود مختلفة مثل: المضاربة، والمشاركة، والمزارعة، والمغارسة، والمساقاة، الخ.
وتهدف كل هذه العمليات إلى تعزيز الاقتصاد الحقيقي من خلال التمويل، بعيدا جدا عن الربا الذي هو مجرد نوع من الانحراف عن دور المال في النظام الاقتصادي ووظيفته الأساسية في تمويل المشروعات.
2. بين التبادل التجاري وتحريم الربا:
لم يكن تحريم الإسلام وقبله الديانات التوحيدية للربا، إلا تماشيا مع المصلحة ومع النمط الأخلاقي العادل للمعاملات؛ لأن الفائدة المدفوعة على دين يستدينه المرء عمل غير أخلاقي، وهي صورة تكررت في إشارات الفلاسفة القدماء، واعتبرها بعض المعاصرين ورما سرطانيا يؤدي في النهاية إلى انهيار النظام بأكمله.
ولهذا نرى الإسلام يشجِّع على التبادل ويمنع من الربا، ويشدِّد في تأجيل عنصري التبادل (تأجيل البدلين) فيُسمح بتأجيل السعر (الدفع لأجل)، أو المنتج (التسليم لأجل)، ولكن لن يُسمح بأي حال من الأحوال بتأجيل كلا البدلين في نفس الوقت؛ لأن هذه ضمانة نفاذ المعاملة وتمامها أي: تسديد الثمن وتسليم المبيع؛ حتى نتفادى بيع الإنسان ما ليس عنده، وهو أيضًا أمرٌ يجب تجنُّبه في مثل العقود لأَجَل التي تُمارس اليوم في الأسواق المالية، ومثل بيع الديْن بالديْن التي تتم عبر المضاربات المالية مثل: توريق الديون التي تُعدُّ العامل الرئيسي للأزمة المالية الراهنة.
3. دور التبادل في علاج أزمة السياسات النقدية المعاصرة:
تهدف السياسة النقدية المعاصرة إلى التخلُّص التدريجي والمدروس من نظام سعر الفائدة، والتحوُّل على المدى المتوسط إلى نظام المشاركة، وتقاسُم المخاطر بين مختلف الأطراف. فقد تبيَّن أن سعر الفائدة (معدل الربا) آلية غير فعّالة في تخصيص الموارد، سواء كانت الفائدة مرتفعة، فهي ظلمٌ للمقترض، أو صفرية وسلبية، فهي ظلمٌ للمقرض. وقد أنتج النظام الربوي المعاصر خلال العقود الماضية حالاتٍ من التخبُّط الاقتصادي بسبب الربا، ولا زالت الدول التي تمكنت من تحقيق نوع من الاستقرار المالي هي التي لديها نسبة فائدة حقيقية تقارب الصفر.
وفي الاقتصاد الإسلامي، تقوم السياسة النقدية على التبادل التجاري لا على الإقراض، الذي يقود إلى توسّع المديونية {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]. فالبيع والشراء نشاط تبادليٌّ يرتبط بالاقتصاد الحقيقي ارتباطاً مباشرًا، ويسهم في تنمية حركة السلع والخدمات والأصول القائمة على الملكية، ويمكّن من رواج الثروة ويقلّص من دائرة المديونية.
إن السياسة النقدية التي تقوم على هذا المنوال تقود إلى تنظيم الائتمان بشكل يحول دون حدوث انكماش أو تضخم مالي، عبر ضبط نمو الكتلة النقدية في حدود لا تتجاوز نسبة النمو الاقتصادي، إلى جانب التوجُّه نحو التخلص التدريجي من هيمنة سعر الفائدة كآلية وحيدة لإدارة النشاط الاقتصادي. وقد أثبتت التجارب العملية الحديثة إمكانية اللجوء مرحليا الى النظام الهجين، وهو نظام يتعايش فيه جنبا الى جنب النظام المستند الى سعر الفائدة مع نظام التمويل الإسلامي.