التنمية الاقتصادية وإشكالية المصدر

بقلم الدكتور/ محمد السيد علي حامد

خضعت المجتمعات العربية والإسلامية لمحاولاتٍ كثيرةٍ لنقل فكرة التنمية -كما تقرِّرها النظريات الاقتصادية الغربية – إلى المجتمع العربي، وتم ذلك على قدمٍ وساقٍ منذ خمسينيات وستينيات القرن الماضي على مستوى متكررٍ في أكثر من مجتمع عربي، وكانت النتيجة مختلفة تمامًا عمّا هو متوقع، “ولقد مضت عشرات السنين على تلك الآراء وهي تسود وتقود وفرضت نفسها على الواقع بدعم الغرب المستعمر نفسه، وسيطرت على برامج البناء والتطوير فهل كان ذلك هو الطريق القويم إلى القضاء على التخلُّف والتبعيَّة وتحقيق التقدم والتحرُّر من ربقة السيطرة الأجنبية، أم أننا ازددنا تخلفًا وتبعيةً وزاد تفوُّق الغرب علينا، وزدنا اعتمادًا عليهم وطلبًا لسلعهم؟ بل وصل الأمر إلى أننا أصبحنا نعتمد على الخارج حتى في تلبية حاجاتنا الغذائية بعدما كانت بلادنا فيما مضى تفيض بهذه الخيرات”(1).
لقد انتظرت أمثال هذه الدول إلى ثمار التنمية وتطلَّعت بشغف لا نظير له إلى معدلات مرتفعة من النمو، لتقيم عليها قفزة الصعود والانتقال إلى مصاف الدول الكبرى، وما أشد دهشتها حينما وجدت نفسها لا تزال تقف الموقف السابق، إن لم تكن تردَّت فيما هو أسفل منه وأبعد منه في مضمار التخلف، وما أشد صدمتها حينما فُوجئتْ بعجزٍ بارزٍ في الميدان الاقتصادي يرافقُه ترنُّح وتخبُّط وذوبانٌ على المستوى الاجتماعي والثقافي، كانت النتيجة إذا هي الفشل، الذي استدعى مزيدا من الفشل وكثيرا من التخبط.
وباتت الأفكار تأخذها الحيرةُ في تحليل سبب الفشل، فطرقت كل باب في تفسير مرجعه وتحديد سببه، واستقرت -بعيدًا عن السبب الحقيقي – عند المقولة الشائعة في هذا الباب أو عند الخيار الأسهل، فقرَّرت أن الخطأ قد وقع بسبب سوء التطبيق لا بسبب النظرية ذاتها، فالنظرية صحيحة والفكرة مستقيمة، ولكن الخطأ قد وقع في تطبيق هذه الأفكار والنظريات.
غير أن نظرةً فاحصةً على طبيعة كل من المجتمعين المستورِد والمصدِّر تقرِّر أنه حتى مع إحسان التطبيق فإن النتيجة لا يمكن أن تكون أفضلَ حالًا من ذلك. ولا ريب أن الاستعمار منذ أن نزح عن البلاد العربية قد ترك مشاعر الريبة والتربُّص وعدم الثقة فيما يَفِدُ من قِبَلِه، وهذه المشاعر كفيلةٌ بإخفاق هذه النماذج والتطبيقات، لكن هذا السبب مع أهميته يمكن التغاضي عنه، وكم من مغلوبٍ انبهر بحضارة غالبه، وطفق يقلِّده في كل مناحي تفوُّقه كما يقول مؤسس علم الاجتماع العربي ابن خلدون(2)، لكن الذي يمثِّل أكبر العوائق أمام نجاح هذه الأفكار أن الدماء الروحية والنفسية والدينية التي تسري في عُروقِ وأوصال المجتمع الإسلامي تُخالف – في التفضيلات، والـمُثُل، والأهداف – ما تتضمنه هذه النماذج.
إن المفهوم الغربي للتنمية يعكس الـمُثُل والأخلاقيات الناظمة للعقلية الغربية والروح الذي تسري في المجتمع الغربي، فيجسِّد معالم هذه الروح في صيغة قوانين وأفكارٍ ونُظُمٍ تعبِّر بصدقٍ عن تفضيلات هذه الحضارة وأهدافها، ويدور هذا المفهوم حول تعظيم الإنتاج وقياس التقدم بمدى رفاهية الأمم، التي تقاس كما ذهب آدم سميث بما تنتجه وما تستهلكه من سلع وخدمات، “فالمقياس الحقيقي لثروة الأمم هو ما تنتجه من سلع وخدمات”(3).
وهي مقولة قد تكون في ذاتها صحيحة؛ فبلا شك تمثِّل السلع والخدمات النافعة ثروة للأمم، وتسهم في تطوُّرها وتحقيق الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي، وهي بهذا الوصف أشبه شيء بالبديهيات، لكن اختزال التقدُّم حولها واعتبار الإنتاج لأجل الإنتاج أو لأجل الاستهلاك محور العملية التنموية هو الذي ضلل الأذهان، وفرض القسمة الجائرة القائمة على تقسيم الدول بحسب ثروتها من السلع والخدمات، فاعتُبرت الدول المتقدمة هي تلك الدول التي تتمتَّع بدخول مرتفعة بغض النظر عن درجة انحطاط وتدهور قيم مواطنيها وأخلاقياتهم، في حين أنه تم اعتبار الدول المتخلفة هي التي تلك الدول التي تعاني من الدخل المنخفض.
إنَّ النظرة الغربية للحياة لا تُجاوزُ الجانبَ الماديَّ، ولا تُفارقُ عنصر المكسب والثراء، ولا تبرح النظر إلى الأرض ولا ترفع أعينَها إلى السماء، وإذا كانت المسيحية قادرةً على تعزيز الجانب الروحي بشكل من الأشكال، وإذا كان لها إسهامٌ في الدعوة إلى بعض القيم والأخلاقيات، فإن الإنسان الأوربي الذي ضاق ذرعًا بهذه الدعوة لم يدَّخر وسعًا ولم يترك ممكنًا في سبيل إقصاء هذه القيم عن الحياة وعن التعاطي والتفاعل معها، فلم يَعُدْ لها إلا وجودٌ باهتٌ وتلاشى تأثيرها في الحياة الإنسانية، وباتتْ القيم المادية هي القيم التي تَحكُم المجتمع، وأصبحت تعبِّر عن نفسها في شكل مذاهب وفلسفات ماديَّة، انتزعت من الأوربي كل شعور بقيّوميّة عليا تفرض عليها توجيهات وأوامر من خارج ذاته، وهيأه ذلك نفسيًّا للإيمان بحقه في الحرية وغمره بفيض من الشعور بالاستقلال والفردية.
وهذا الأساس الذي تقوم عليه النظرة الغربية يتناقض من كل وجه مع البناء المعرفي والنموذج العقدي لدى المسلم، والذي ينبثق من عقيدته الدينية، ومنظومته التشريعية، ونسقه الأخلاقي، وبرنامجه القيمي، ونظام العرف الحسن الذي يتولد من فهم الدين وتجارب الحكمة، والذي يتركز كله على الإيمان بوجود قوةٍ عليا تحدِّد للمسلم أهدافه، وتحكم تصرُّفاته، وترسم تصوراته، وتؤطر تطلعاته، وتعزز فيه الشعور بالقيمة والمثال والموقف، وهذا ما شكَّل حائلًا دون إغراء المادة له أو سيطرتها على فكره وشعوره، فاتخذ موقفًا متوازنًا في نظرته للمال والقيمة، وهذا التوازن لو أُحسِن استغلالُه لاستحال نشاطًا وحركةً وطاقةً كبرى على المستوى الاجتماعي والاقتصادي والسياسي.
وبقدر ما تصلح أخلاقيات ونظم الإنسان الغربي للتفاعل مع المناهج الغربية التي هي ثمرة لهذه الأخلاقيات وتلك النظم، بقدر ما تتعارض أخلاقيات الإنسان المسلم معها، وهي أخلاقيات راسخة لا يمكن استئصال جذورها بمجرد زعزعة العقيدة أو تمييعها.
وهذا يعني ضرورة انطلاق مفاهيم التنمية من محضن العقيدة الإسلامية، وضرورة أن تكون غاياتها وأهدافها منسجمة متماهية مع أخلاقيات المسلم وتفضيلاته وخطته الكبرى في الحياة، وحينئذ لن تكون حصيلة التنمية وثمارها وقفًا على الجوانب التكنولوجية والمادية فقط، بل سيتعدى تأثيرها إلى الجوانب الروحية والمعنوية، فيحصل التوازن المطلوب بين كل نشاط من أنشطة الحياة، أما استيراد المناهج والأفكار دون مراعاة الظروف والسياقات التي نشأت فيها فهي مجازفة كبرى، ومقامرة بالجوانب الروحية التي تميِّز الأمة وتحفظ لها خصوصياتها، هذا على فرض حصول إنجاز في الجوانب المادية والاقتصادية، ومع الاعتراف بالفشل في هذا المجال فإن استيراد هذه المناهج تضحيةٌ كبرى بالجانبين.
إن التنمية الحقيقية حركة حضارية يتوقف نجاحها على مدى الإيمان بها وقدرتها على التفاعل والالتحام مع الواقع المعين، وبغير ذلك ستذهب كل محاولات فرضها أدراج الرياح، وبهذا يظهر خطر الدعوة إلى نماذج الدول المتقدمة دون الأخذ في الاعتبار مدى جوهرية هذا التقدم ومدى تأثيره على النواحي النفسية والروحية للأمة، ومدى توافقه مع خصوصية الأمة وتراثها وتاريخها ونسقها القيمي والثقافي.

(1) التنمية الاقتصادية في المنهج الإسلامي، عبد الحق شكري، كتاب الأمة، ط1، 1408ه (ص: 36).
(2) حيث عقد فصلا مقدمته لتاريخه التي اشتهرت باسم المقدمة، ورصد فيه من خلال تشريحه للتاريخ وأدوراه وأحداثه هذه الظاهرة فقال في (1/ 184) من تاريخه [تحقيق: خليل شحادة، دار الفكر، بيروت ، ط2، 1408 هـ – 1988 م]: “فصل في أن المغلوب مولعٌ أبدا بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده: والسّبب في ذلك أنّ النّفس أبدًا تعتقد الكمال في من غلبها وانقادت إليه إمّا لنظره بالكمال بما وَقَرَ [ثبت] عندها من تعظيمه، أو لما تُغالِط به من أنّ انقيادها ليس لغلب طبيعيّ إنّما هو لكمال الغالب، فإذا غالطت بذلك واتّصل لها اعتقادًا فانتحلت جميع مذاهب الغالب وتشبّهت به وذلك هو الاقتداء، أو لما تراه – والله أعلم – من أنّ غلب الغالب لها ليس بعصبيّة ولا قوّة بأس، وإنّما هو بما انتحلته من العوائد والمذاهب – تُغالِط أيضا بذلك عن الغلب- وهذا راجع للأوّل ولذلك ترى المغلوب يتشبّه أبدا بالغالب في ملبسه ومركبه وسلاحه في اتّخاذها وأشكالها بل وفي سائر أحواله”.
(3) by P. J. O’Rourke, On The Wealth of Nations, Atlantic Monthly Press, New York, 2006, pp. 7-8.
نقلا عن: آدم سميث: مقدمة موجزة، إيمون باتلر، ترجمة علي الحارس، مراجعة إيمان عبد الغني نجم، مؤسسة هنداوي، 2017م (ص: 34).

Comments are disabled.