الخريطة المفاهيمية للاقتصاد الإسلامي
بقلم الدكتور/ محمد السيد علي حامد
تتعدد استعمالات عبارة “الاقتصاد الإسلامي”، وتختلف باختلاف الحقل الذي توجد فيه، ما يدعو كثيرا من الناس إلى التساؤل عن المقصود بالاقتصاد الإسلامي، هل هو العلم، أم النظام، أم السياسات، أم الأنشطة التي تتوخى الحلال، أم المبادئ الأخلاقية والقيم التي يتطلبها الاقتصاد الإسلامي في النشاط الاقتصادي؟ ويتوجَّه التساؤل أيضا إلى الصيغ التطبيقية الرائجة في العصر الحالي، والتي شكلت معالم التمويل الإسلامي، جنبا إلى جنب المبادئ التي تنظِّم عمليات التمويل بالصيغ الإسلامية.
وفي الحقيقة، إن الاقتصاد الإسلامي وصفٌ مناسبٌ وملائمٌ لكل هذه الإطلاقات، فهو علم، ونظام، وسياسات، وأهداف وغايات، وهو أدوات للتمويل ومبادئ تنظم عملها، وهو مبادئ لتحليل السلوك الاقتصادي والتحكم في صوابيته، وهو كل ذلك مجموعا، وقد يطلق ويراد به أحد هذه الأنواع في سياق يتناول جانبا من جوانبه، وهذا ليس مثارًا للإرباك ولا اضطرابا اصطلاحيا، بل هو تأكيد على حضور الاقتصاد الإسلامي على المستوى الفكري والعلمي والتطبيقي، ويتناول هذا المقال مرورا سريعا يبين إطلاقات الاقتصاد الإسلامي ويوضح مناسبة هذا الإطلاق.
وقد راعيت في صياغة هذا التقسيم أمرين أساسيين:
- الجوانب العامة التي ترفد الاقتصاد الإسلامي، ابتداء من نقطة التفكير، ثم تمضي في طريق المبادئ، وصولا إلى التطبيقات الواقعية، وصيغ التمويل في شكلها الحالي وفقا لأحدث الأساليب المعاصرة.
- ضم الشبيه إلى الشبيه، وما هو خاص إلى ما هو عام، وإلا فسوف تخرج هذه الإطلاقات عن الحصر، والهدف هو وضع تقسيم سهل سلس يزيد الصلة بهذا العلم ويرسخ خريطته الذهنية في العقل.
ومن هنا فليس في هذا التقسيم مصادرة على أفكار الباحثين، لكنه محاولة متواضعة لرسم ملامح هذا العلم مع تعدد استعمالات كلمة اقتصاد إسلامي، والباب مفتوح للإبداع فيما يعزز حضور هذا العلم ويقرب ملامحه إلى الأذهان.
أما إطلاقات هذه العبارة واستعمالاتها فتشمل ما يلي:
- الفلسفة والتصورات الاقتصادية، التي ينفرد بها الاقتصاد الإسلامي، والتي تميزه عن باقي الأنظمة ذات الصبغة المذهبية؛ كالاشتراكية، والرأسمالية وما قبلها من مذاهب وفلسفات، اعتنقت رسالة معينة ورسمت أهدافًا من وراء الوجود الإنساني على هذه الأرض، والإسلام يتبنى رؤية فريدة عن الحياة، وعن المشكلة الاقتصادية، وعن الإنسان وعلاقته بالكون والحياة، ويقوم على أساس فكرة الاستخلاف، ورسالة الإعمار وتنمية المجتمعات، ويفترض في الأرض وفرة كافية لتحقيق السعادة لكامل البشر، إذا عدلوا في استعمال الثروة، ورعوْا مبادئ الاستخلاف فيها، وتركوا التظالم بينهم.
- الأهداف والمقاصد التي يتوخاها من وراء إدارة النشاط الاقتصادي؛ كالتنمية المستدامة، والاستقرار الاقتصادي، والضمان الاجتماعي، والتوازن بين الطبقات، وإقامة سوق رشيدة، ونظام نقدي عادل ومستقر، وغير ذلك مما يشكِّل مقاصد الاقتصاد الإسلامي وأهدافه بحسب التطورات الاقتصادية والظرف الاجتماعي.
- النظام الاقتصادي المتكون من المبادئ، والأحكام الشرعية؛ لتنظيم النشاط الاقتصادي، والنظام في أساسه جملة من الأحكام القانونية المنظمة لنشاط ما، ومن المبادئ العامة التي تمثل قواعد عامة تتفرع عنها هذه المبادئ، وتنظم بعمومها ما لم يُنصَّ عليه، شأن القواعد الفقهية، وتحصل المبادئ من تتبع موارد الشرع في جهة معينة، أو من خلال النص الصريح على لسان الشارع، وبعضها ذو صيغة مذهبية؛ كمبدأ الملكية المزدوجة، وبعضها ذو صيغة قانونية مثل مبدأ الحلول والتقابض والتماثل في المعاملات الربوية بحسب طبيعة البدلين.
- التاريخ الاقتصادي للمسلمين وتطبيقات الاقتصاد الإسلامي عبر التاريخ. فما تلك التطبيقات إلا تجلياتٌ لفلسفة ومبادئ وأحكام الشريعة الإسلامية، إذ كانت دائما ما ترتبط بأدلة تفصيلية، أو اجتهادات حكيمة يظهر فيها المبدأ الفقهي الذي بنيت عليه هذه التطبيقات، وقد علم من تاريخ المسلمين أن نظام الحياة الاجتماعية بأكمله كان يقوم على هذا الأساس. وإلى فترة قريبة كان النظام القانوني ينظِّم كل جوانب الحياة في المجتمع الإسلامي، ومن ثم شكَّلت التجارب التاريخية جسدا لروح النظام الإسلامي التي تسري فيه، حتى في تفاصيلها الشكلية ذات الطابع الفني، وليس المراد هنا أنه يجب محاكاة هذه التطبيقات، بل المراد هو الاجتهاد في فهم مداركها كما هو الشأن في دراسة المسائل الفقهية القديمة؛ لاكتساب ملكة الاجتهاد في القضايا الاقتصادية، واستيعاب روح هذا العلم في السياق التاريخي.
- القطاعات المختلفة التي تتمثَّل في القطاع الربحي، والقطاع غير الربحي، والقطاع الحكومي أو العام، حيث اشتمل النظام الاقتصادي الإسلامي على مبادئ تدخل الدولة الحكيم بما يضمن وجود القطاع العام، وتحفز وتوسع نطاق القطاع الخاص لأداء أدواره الإعمارية، ولكنها وأملًا في تحقيق التوازن الاقتصادي وضمان استدامة التنمية؛ تشجِّع على وجود القطاع الثالث، وهو القطاع الذي لعب أدوارًا رائدة على مدار تاريخه لا سيما في تجربة الأوقاف، التي حملت مسؤولية التنمية الاجتماعية في مجالات متنوعة ولازال عطاؤها غزيرا إلى يومنا هذا.
- التمويل بما فيه من مبادئ وصيغ تمويلية مختلفة. والتمويل الإسلامي هو صيغ الإنتاج والاستثمار الإسلامية، التي تقوم على أساس العدل في المبادلات والتضامن في الربح والخسارة في المشاركات، وهي بهذا الوصف صيغ تنموية، تتجنب كل الانحرافات الاستثمارية التي عرفها الاقتصاد المعاصر في الاستثمار والإنتاج، ويمثل التمويل الإسلامي أهم الأدلة على قدرة الاقتصاد الإسلامي على تحقيق وفورات ضخمة، وهو التجسيد العلمي لمبادئ الاقتصاد الإسلامي، وأداته القوية في زيادة الطلب وتعزيز الإنتاج، وتحقيق النمو والتوظيف الأمثل للموارد البشرية والاقتصادية، والتمويل الإسلامي هو البديل أو بعبارة أدق القسيم للتمويل الربوي، الذي يصب في مديونيات متراكمة ومتزايدة باتت تربك كل خطط التنمية.
- المؤسسات الاقتصادية التي تشمل مؤسسة الزكاة، ومؤسسة الوقف، ومؤسسة السوق وغيرها، حيث تمثل هذه المؤسسات أهم الأصول التمويلية للاقتصاد الإسلامي، وتتنوع مصارفها بحيث تشمل كل قطاعات المجتمع، وهي مؤسسات تنموية تشجع على الاستثمار وتوجِّه الأموال إلى استثمارات أكثر توظيفا واستدامة، ويعظم فيها الجانب الاجتماعي الذي يقدم المعونة العاجلة للنوازل المختلفة والمتكررة، فيضمن المجتمع الإسلامي علاجا مستداما لمشكلاته الاقتصادية والتنموية، ولا يمكن الحديث عن الآثار الاقتصادية والاجتماعية لهذه المؤسسات، لكن آثارها التاريخية والحاضرة جعلتها رموزا للاقتصاد الإسلامي، خاصة في جانب التكافل الاجتماعي بشكل لم يعرف له نظير في التاريخ.
- السياسات المختلفة النقدية والمالية والموازنة العامة وغيرها. وهي سياسات تقوم على أساس فكرة المصلحة، وتحري إشباع الحاجات العامة، وهي أمور تقع في عداد الواجبات السلطانية، فالحاكم نائب عن المسلمين في تحقيق مصالحهم وإشباع حاجاتهم وهو مأمور باتخاذ كل السبل لتحقيق أهداف النظام الاقتصادي الإسلامي المتمثلة في إعمار الأرض وكفاية الحاجات، ونشر ألوية التنمية في كل شبر من أشبار الأرض.
وقد عرفت السياسات الاقتصادية طريقها إلى الفكر والتطبيق الاقتصادي مبكِّرًا، ولعبت الزكاة دورا هائلا في تنظيم المالية العامة للدولة الإسلامية، وفي وقت مبكر وقبيل عهد عمر أرسيت دعائم بيت المال، ثم دخلت الموازنة العامة إلى الدولة بعد ذلك لتنظيم الإيرادات والمصروفات، ثم عرفت السياسة النقدية وأنشئت دار صك النقود، وقد ساهم مفكرو الإسلام وفقهاؤه في صياغة هذه السياسات، حتى إن قاضي القضاة أبو يوسف يعقوب كتب للخليفة هارون الرشيد كتاب “الخراج” لتنظيم إيرادات الدولة ومصروفاتها، وهو كتاب لايزال يحمل الكثير من المبادئ والخطرات الاقتصادية رغم قدم عهده، بل كان ملهما لكثير ممن جاء بعده فشاركوا بدورهم في صياغة السياسات الاقتصادية للدولة في عهودها المختلفة، ناهيك بالحديث عن السياسة التجارية، وسياسة التوزيع، وسياسة التنمية التي كتب فيها الخليفة علي بن أبي طالب رضي الله عنه في فجر الإسلام رسالة إلى عامله على مصر الأشتر النخعي يعجز الفكر المعاصر عن صياغة مثلها. - الفكر الاقتصادي الذي ساهم فيه فلاسفة مسلمون وفقهاء على مدار التاريخ: والذي يمثل حجر الزاوية في الاقتصاد الإسلامي عموما، وفي التحليل الاقتصادي الذي يجسد المفهوم الأكاديمي للاقتصاد الإسلامي، فهو الرافد المهم الذي نقل التنزيل إلى التأويل وهو الاجتهاد الذي تبحر في نصوص القرآن والسنة وفتش عن أسباب النزول ومرامي التنزيل، وتابع تطبيقات النبي وخلفائه في وقت تكونت فيه الدولة وتمت أركانها، ولم يبق لها إلا صياغة مبادئها ومراميها وتصوراتها في شكل قوانين وأحكام ومبادئ ونظريات، وهذا ما قام به العلماء الذين تنوعت مشاربهم في النظر إلى الظاهرة الاقتصادية؛ ما بين باحث عن تفسير للسلوك، وباحث في أحكام المعاملات، وناظر في الأهداف والمرامي، وناقد للسياسات وراسم لصحيحها، وقد جمع الفكر الاقتصادي إلى طياته كل ما يمكن تصوره ذا فائدة في دراسة الظاهرة الاقتصادية، حتى دراسة الأزمات المعاصرة وبيان أسبابها وطرق علاجها كما حصل مع المقريزي في أزمة كساد النقود، وقد استوعبت جهود علماء المسلمين كل ما كان لازما لدراسة الظاهرة الاقتصادية لعصرهم، وما زال في هذه الجهود ما يحمل سمات التصور الإسلامي، ويصلح للدخول في علم الاقتصاد الإسلامي المعاصر، وما كان وقتيا فيمكن الاستفادة منه في دراسة تطور الفكر، أو دراسة تأثيره في الفكر الاقتصادي عموما، ولا يخفى على اللبيب أن الدراسة العميقة تكشف ما وراء السطور مما لا يمكن قراءته إلا بعقل يقظ وفؤاد ذكي.
- العلم بما يشمل عليه من مقومات تتمثل في المفهوم، والثمرة، والعلاقة مع العلوم الأخرى، والموضوع، والمناهج، والأدوات البحثية، ونظرية الاقتصاد الإسلامي في الإنتاج والاستهلاك، والتوزيع، والقيمة، ودور مبادئ التحليل الاقتصادي في دراسة الظاهرة الاقتصادية وصفا وتفسيرا، وتوجيها على أساس النموذج الإسلامي، ورؤية الاقتصاد الإسلامي للمشكلة الاقتصادية ومفارق الطرق بينه وبين الاقتصاد الوضعي، وموقع علم الاقتصاد الوضعي منه ومصادره ودراساته المختلفة.
وعلى الرغم من أن علم الاقتصاد الإسلامي علمٌ حديث إلا أنه يجمع مقومات العلم وأدواته ومناهجه، بل يتسم بأمور لا توجد في علم الاقتصاد الوضعي، وهي بعده عن التحيُّز ودوره المعياري، وتنوع مناهجه، وكونه مبنيا على تصورات إلهية لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، وهو بوجه خاص ضرورة للمجتمعات التي تتوخَّي دراسة إسلامية للظاهرة الاقتصادية، لما يتميز به من قدرة على تفسير السلوك الاقتصادي الخاص بالمسلم، والذي لا يمكن لعلم الاقتصاد الوضعي تفسيره، وعلاقة النشاط الاقتصادي بالإسلام وتنظيم الإسلام للنشاط الاقتصادي لا يحتاج إلى كبير بيان، فلا حصر للنصوص التي تنظِّم النشاط الاقتصادي في مختلف جوانبه بما يشكل نظرية متكاملة في كل جانب من جوانبه، والحق أن تنظيم الإسلام للاقتصاد على المستوى النظري والتطبيقي لم يكن يوما موضع شك، فلا يمكن لدين جاء بخاتمة الشرائع ونص في كتابه على أنه نعمة تامة وشريعة كاملة؛ أن يهمل أهم تنظيم أهم مقومات الحياة ألا وهو الاقتصاد، وضمن علم الاقتصاد نجد الرؤية الشاملة للإسلام عن النشاط الاقتصادي بدءا من تحديد المنطلقات، مرورا بالمبادئ، وانتهاء بالأحكام الجزئية لكل معاملة على حدة.
فهذه هي أهم جوانب الاقتصاد الإسلامي، وهو كما قررت سابقا شامل لكل ذلك على حدة وشامل لكل ذلك مجموعا، وهي إطلاقات عرفها التاريخ والتطبيق أي أنها ليست مجرد فروض نظرية تحتاج إلى بيان، وهي تؤكد كما سبق حضور وشمول وسعة مجالات الاقتصاد الإسلامي كعلم فريد، له منهج متميز، وأسلوبه الخاص في دراسة النشاط الاقتصادي.