المال الصالح وأثره في حفظ الكليات الخمس الضرورية

بقلم الدكتور/ عبد الناصر حمدان بيومي

المال عصب الحياة الذي تقوم عليه وتصلح به، وهو قوام حياة الفرد والمجتمع، ومحور الاقتصاد، ووسيلة التبادل، وبه يستغني الإنسان عن مذلة السؤال، كما يلعب المال دورًا محوريًّا كبيرًا في حياتنا المعاصرة، فيقاس اقتصاد الدول بقدراتها المالية، كما تقاس رفاهية الشعوب بمستوى دخل الفرد، وقدرته على اقتناء السلع والخدمات بمراتبها المختلفة. كما يغطي الإنفاق الخيري للمال العديد من الاحتياجات المجتمعية في عصرنا، والتي تعجز ميزانية الدول عن القيام بها، وقد برز في عصرنا العديد من الشخصيات التي سخَّرت حياتها ومالها لهذا الجانب، وفي هذا المقال نلقي الضوء على مفهوم المال الصالح في الاقتصاد الإسلامي، وهو مما يعكس الركيزة الأخلاقية في الاقتصاد؛ ويميز النظام الاقتصادي الإسلامي عن غيره، كما نتناول العلاقة بين المال الصالح وحفظ الكليات الخمس الضرورية؛ لأن وصف الصلاح للمال في جانب إنفاقه يكون بمشاركته في تحقيق أغراض ومقاصد وغايات اجتماعية؛ تفضي للإسهام في حفظ الكليات الخمس الضرورية.

أولاً: أهمية المال الصالح:

لقد اعتنى الإسلام بالمال عنايةً فائقةً، فضبط مصادره بأن تكون من طريق حلالٍ لا شُبهة فيه، وضبط إنفاقه بالتوسُّط والاعتدال الذي لا تبذير ولا تقتير فيه، وأوجب في المال حقًّا معلومًا للمحتاجين.
وقد ورد في حديث عَمْرو بْن الْعَاصِ رضي الله عنه أن رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ له: «يَا عَمْرُو، نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحِ لِلْمَرْءِ الصَّالِحِ».(1)
والمال الصالح: هو ما يكسبه الإنسان من الحلال، وفي وصف المال بالصالح إيماءٌ إلى أنه إذا كان يؤدَّى منه حقوق الله تعالى فهو مال صالح.
وقد أشار الفيومي إلى درجة الكمال في إنفاق المال، فقال: من “أنفق ماله في خمس خلال -أي أغراض صالحة- فقد نال طريق الكمال:

  • إحداها: كون المال حلالاً.
  • والثانية: أن يقول به في عباد الله هكذا وهكذا.
  • والثالثة: أن يضعه في موضعه.
  • والرابعة: ألا يشوب عطيته رياءً ولا منةً ولا محبةَ ثناءٍ ولا سببًا من الأسباب المحبطة لأجر العطية أو القادحة، بل تكون لوجه الله تعالى خالصًا.
  • والخامسة: ألا يشغله ماله عن الله تعالى، فهذا هو المال الصالح للرجل الصالح.

وأما إن كان المال حرامًا، أو كان حلالاً إلا أنه وضعه في غير موضعه، أو وضعه في موضعه إلا أنه شابه شائبة من الرياء أو محبة الثناء أو غيرهما من قوادح الأشياء، أو شغله ماله عن الله تعالى، فهذا مال مشؤوم، وصاحبه مَلوم، ولنفسه ظلوم(2).
فالمال الصالح عند الرجل الصالح من أفضل الأعمال، وقد قرنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقرآن والعلم والحكمة، في حديث ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «‌لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٍ آتَاهُ اللهُ مَالًا، فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ، وَرَجُلٍ آتَاهُ اللهُ حِكْمَةً، فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا»(3).
وعَنْ عبد الله بن عمر عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «‌لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ يَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللهُ مَالًا فَهُوَ يُنْفِقُهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ»(4).
وقد كان من الصحابة العديد من الأغنياء؛ كأبي بكر الصديق، وعثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، وكانوا ينفقون أموالهم في سبيل الله؛ تلبية للاحتياجات المجتمعية، وإسهامًا في حفظ الكليات الخمس الضرورية؛ كتحرير الصحابة المستعبدين من ظلم كفار قريش، وفي تحقيق التكافل المجتمعي من خلال عون الفقراء والمحتاجين وكفايتهم، وفي حفظ أمن المجتمع من خلال الإسهام في تجهيز الجيوش في العهد المدني، ونحوها من صور حفظ الكليات الخمس.
ولقد مدح الشارع المال الصالح عند الرجل الصالح؛ لأنه يسخِّر ماله فيما ينفع المجتمع في أمر الدين والدنيا، وأما المال عند الرجل الفاسق الذي يسخِّره فيما لا ينفعه، أو يكنزه، ويضر بالمجتمع، ويتخبط في أموال الله، فقد توعده الشارع بألوان من الوعيد الشديد في الدنيا والآخرة.

ثانيًا: نماذج لشخصيات معاصرة استثمرت المال في حفظ الكليات الخمس:

لقد كان للتربية الإسلامية أثرٌ كبير في سلوك وتصرفات المسلمين في كل العصور؛ للقيام بما يحفظ الكليات الخمس الضرورية، ولا يقتصر ذلك على المتقدمين في العصور الأولى، بل هناك العديد من النماذج المعاصرة، وهم هؤلاء الذين أيقنوا بأهمية توجيه أموالهم وجهودهم لحفظ الكليات الخمس الضرورية، ولم يقتصروا على إنفاق أموالهم في تلبية احتياجاتهم الخاصة. فقد كان لبعض المعاصرين همة عالية، تجاوزت حدود حب التملك الفطري الغريزي، وإنفاق المال في الكماليات والترفيهيات، إلى حب البذل والإنفاق في حفظ الكليات الخمس الضرورية: الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال.
ومن هؤلاء الدكتور عبد الرحمن بن حمود السميط، الذي ولد عام 1947م بالكويت، ودرس الطب في ليفربول وكندا، ومارس مهنة الطب في الكويت وفي قارة إفريقيا، ومات عام 2013م، غير أنه ترك ثروة كبيرة في مجال حفظ الكليات الخمس الضرورية، ومنها: بناء ما يقارب (5700 (مسجدًا، وتوزيع أكثر من (٧٠٠ ( ألف مصحفًا، وكفالة (50) ألف يتيمًا، ورعاية (٥٠٠ (ألفَ طالبٍ، وبناء (٨٤٠( منشأة تعليمية، وحفر حوالي (12) ألَ بئرٍ ارتوازية في أفريقيا، وأنشأ (٩ (مراكز صحية، و(١٠) إذاعات.
وقد تنوعت هذه الثروة الكبيرة، وشملت حفظ الكليات الخمس الضرورية، فحفظ الدين: من خلال نشر الدعوة الإسلامية بإنشاء آلاف المساجد، وتفعيلها لتكون منارات في نشر الإسلام وتعليم المسلمين صحيح الدين، وتوزيع مئات الآلاف من المصاحف، التي تعد البداية على طريق التعرف على الإسلام وفهم القرآن والعمل به.
وأما حفظ النفس: فمن خلال إنشاء المراكز الصحية، وحفر آلاف الآبار الارتوازية، وكفالة عشرات الآلاف من الأيتام والفقراء.
وأما حفظ العقل: فمن خلال إقامة المئات من المنشآت التعليمية.
وأما حفظ النسل: فمن خلال حفظ الصحة العامة وعلاج المرضى والتصدي للأوبئة المنتشرة في إفريقيا من خلال المراكز الطبية.
وأما حفظ المال: فمن خلال استثماره فيما ينفع الأمة بأسرها، ويعود بالمصلحة على المجتمعات الفقيرة، وعدم كنزه والاستئثار به.
إنه نموذج عملي لرجل عاش الرفاهية والإمكانيات المادية الكبيرة في دولة الكويت، كما احتكّ احتكاكًا مباشرًا بالتقدُّم المادّيِّ الكبير الذي وصلت إليه الحضارة الغربية من خلال دراسته للطب في بريطانيا وكندا، غير أنه لبى نداء الفطرة السليمة، بالذهاب إلى دول قارة إفريقيا الفقيرة لعون وإغاثة المحتاجين، وعلاج المرضى، وإنشاء المساجد، وإقامة المدارس والجامعات؛ للحفاظ على الكليات الخمس الضرورية التي جاءت شريعة الإسلام بل كل الشرائع السماوية بحفظها.
ومن النماذج المتميزة كذلك الشيخ صالح كامل، الذي (ولد بالسعودية عام 1941م، وتوفي عام 2020م)، وأوقف ماله وحياته على خدمة الاقتصاد الإسلامي، ونشْرِ مبادئه في العالم، من خلال مؤسسات العمل الخيري غير الربحية؛ كالمراكز البحثية المتخصصة التي أنشأها في العديد من دول العالم الإسلامي؛ كمركز أبحاث الاقتصاد الإسلامي بجامعة الملك عبد العزيز في جدة، ومركز صالح عبد الله كامل للاقتصاد الإسلامي بجامعة الأزهر، ومركز جدة للعلوم والتكنولوجيا في جدة، وأطلق ندوة البركة للاقتصاد الإسلامي التي تعقد سنويًّا منذ أكثر من أربعين سنة. كما أنشأ العديد من المؤسسات الربحية الخدمية؛ كمجموعة دلة البركة التي تشمل مجموعة شركات، منها: البركة للاستثمار والتنمية، ومجموعة البركة المصرفية، ومجموعة التوفيق المالية، وعسير، والشركة الإعلامية العربية، وشركة مسك الإعلامية العربية، وراديو وتلفزيون العرب (ART)، وشركة مجموعة دلة، وشركة دلة للتنمية العقارية والسياحية، وشركة درة العروس، والغرفة التجارية الإسلامية، ولجنة المشاركين في محفظة البنوك الإسلامية، والمجلس العام للبنوك والمؤسسات المالية الإسلامية.
وكان رئيس مجلس أمناء المؤسسة المصرية للزكاة، كما كان عضوًا بمجلس أمناء كل من مؤسسة الملك عبد العزيز ورجاله لرعاية الموهوبين، ومؤسسة الفكر العربي والمؤسسة العربية للإعلام.
هذه وغيرها من النماذج تكشف عن الدور الكبير للإنفاق الخيري التطوعي في الاقتصاد الإسلامي، وأثر الأفراد أصحاب الرؤية الواضحة، والأهداف السامية، والهمة العالية في الإسهام في حفظ الكليات الخمس الضرورية في مجتمعاتهم بل في العالم بأسره.
وما أحوجنا في عصرنا إلى المزيد من هذه النماذج التي تتمتع بالرؤية الواضحة والتصور الشامل لدور المال الصالح في حفظ الكليات الخمس الضرورية، وتحقيق أهداف التنمية الاقتصادية المستدامة، وسد الفجوات والثغور في مجالات كثيرة تحتاج الأمة الإسلامية إلى من ينهض بها؛ لتحقِّق الأمة التكافل والترابط والنهضة الحضارية والمعرفية…

(1) أخرجه البخاري في الأدب المفرد: 112 رقم (299) وصححه الألباني.
(2) فتح القريب المجيب على الترغيب والترهيب، لأبي محمد حسن بن علي بن سليمان البدر الفيومي القاهري، ت: ٨٧٠هـ، ت: د. محمد إسحاق محمد، ط1 مكتبة دار السلام-الرياض ١٤٣٩هـ/٢٠١٨م: 12/559.
(3) أخرجه البخاري: 1/25 (73) كتاب العلم، بَابُ الِاغْتِبَاطِ فِي الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ.
(4) أخرجه البخاري: 9/154 (7529) كتاب التوحيد، بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ آتَاهُ اللهُ الْقُرْآنَ، مسلم: 2/201 (815) كتاب صلاة المسافرين وقصرها، بَابُ فَضْلِ مَنْ يَقُومُ بِالْقُرْآنِ وَيُعَلِّمُهُ، وَفَضْلِ مَنْ تَعَلَّمَ حِكْمَةً مِنْ فِقْهٍ أَوْ غَيْرِهِ فَعَمِلَ بِهَا وَعَلَّمَهَا.

Comments are disabled.