المصرفية الإسلامية من الفكرة إلى الثمرة – التجربة، الرواد، المعالم، وأهم المحطات
بقلم الدكتور/ محمد السيد علي حامد
رغم حداثة التجربة المصرفية فإنها كانت نتاجًا طبيعيًا لازدهار التجارة العالمية واتساع عمليات التداول، خاصة مع وجود الموانئ التجارية التي عززت العلاقات التجارية بين الدول، فقد لعبت المدن التجارية الإيطالية مثل البندقية، جنوة، وفلورنسا دورًا حيويًا في هذا النمو، حيث ساعد موقعها الاستراتيجي كموانئ ملاحية على جعلِها مراكز تجارية ومالية مهمة، وقد أدى هذا النمو التجاري إلى تطور الأنظمة المالية والمصرفية، حيث ظهرت الحاجة إلى مؤسسات تنظم المعاملات المالية مثل بنك ريالتو في البندقية (Banco della Piazza di Rialto) عام 1587م، الذي يُعد من أوائل البنوك الحديثة، وشكل الأساس والمرجع والنموذج الكامل للبنك التقليدي، الذي يعمل كوسيط ائتماني وفقا لنظام الفائدة.
وكان العالم العربي والإسلامي على موعد مع هذه البنوك حينما دخلت خدمات البنك التقليدي إلى البلاد الإسلامية في منتصف القرن التاسع عشر للميلاد عن طريق فروع البنوك الغربية، التي تم تأسيسها في عواصم بعض البلدان الإسلامية، ثم عن طريق إنشاء بنوك تقليدية غربية في البلاد الإسلامية فيما بعد، في أواخر القرن التاسع عشر.
لم تجد هذه البنوك بوصفها بنوكا تقليدية ترحابا من علماء الدين، والذين بدأوا يفكرون في إيجاد بديل شرعي يلائم متطلبات العصر الحديث في منح الائتمان واستثمار الأموال ومساعدة الدولة في تحقيق التنمية، وبدأ البحوث والدراسات تتوجه إلى هذه النظم لفهمها وفهم دورها في المجتمع، لهدف استخلاص فكرة تفصيلية عن طبيعة عمل البنوك، وكيفية صياغة نموذج جديد يلائم متطلبات التعاملات المالية في العصر الحديث، وتتعرض هذه الدراسة لأهم المحطات التي مرت بها التجربة المصرفية الإسلامية، ابتداء من ظهور الفكرة وانتهاء بأهم التجارب الناجحة والآثار المختلفة التي تبعت هذه التجارب.
مراحل تطور فكرة المصرفية الإسلامية:
حدد المفكر الشيخ يوسف خلاوي الأمين العام لمنتدى البركة للاقتصاد الإسلامي معالم التجربة المصرفية الإسلامية في مراحلها المختلفة، في دراسة له عن دور الشيخ صالح كامل في دعم هذه التجربة، فبين أن المصرفية الإسلامية مرت بأربعة مراحل أساسية شكلت كامل تاريخها منذ الفكرة إلى الثمرة:
المرحلة الأولى هي مرحلة إيجاد «النموذج»: والذي كان بدافع التخلص من الربا، فتمثَّلت الفكرة في إنشاء بنك لاربوي، وهذا في رأي سعادته: “تحدٍّ استثنائي حقيقي، في تلك الفترة التي لا يمكن أن نتخيل شخصًا يفكر في إنشاء بنك لاربوي”؛ لأن العالم لا يعرف إلا نموذج البنك المبنى أساسا على الفائدة؛ ولهذا يعبر سيادته عن تلك الفكرة بأنها “محاولة ابتكار شيء من لا شيء”.
المرحلة الثانية مرحلة نشر النموذج: وتتميز هذه المرحلة بأنها كانت سريعة وفاعلة، وقد استهدفت محاولة نشر نموذج البنك الإسلامي في أي مكان يقبله، ويمثل الانتشار السريع لبنوك البركة نموذجا واقعيا لتلك المرحلة، فقد نشأت بنوك البركة في دول مثل: بريطانيا، وكازاخستان، وجيبوتي، وغيرها.
وبدأ شيء آخر يصاحب هذه المرحلة وهو جزء من مقومات استمرار ونجاح هذه التجربة، ألا وهو الجهود العلمية المصاحبة لتجربة المصرفية الإسلامية، حينما بدأت الحاجة للأعمال العلميّة تظهر، فخرجت مشاريع علمية عملاقة، في القلب منها: المشروع المتميز الذي قدمه الشيخ صالح كامل رحمه الله، وهو الفهارس التحليلية للاقتصاد الإسلامي التي خرجت بعد ذلك بشكل جديد وهو الشكل الجامع لنصوص الاقتصاد الإسلامي.
المرحلة الثالثة «استقرار «النموذج» وهي مرحلة شهدت مظاهر جديدة إذ دخل مستثمرون جددٌ في الاستثمار في المصارف الإسلامية حتى وإن كانوا لا يؤمنون بالمبادئ، حيث أظهرت هذه النماذج معدلات ربحية شديدة الارتفاع فأغرت مستثمرين لا يؤمنون بالاقتصاد الإسلامي لكن يؤمنون بالربح.
وصاحب هذه المرحلة ظهور المؤسسات غير الربحية التي مثلت البنى التحتية للاقتصاد الإسلامي، مثل: هيئة المحاسبة والمراجعة والمؤسسات المالية الإسلامية، التي تطوّر نموذجها، فالهيئة اليوم ليست كما كانت في بداية انطلاقتها، فمع التجربة تطورت كثيرًا، وتطوّر نموذج الاتحاد العالمي للمصارف الإسلامية إلى شكل جديد ومؤسسة جديدة في الواقع هي المجلس العام للبنوك والمؤسسات المالية الإسلامية، وكان من الطبيعي بعد استقرار النموذج أن يطرح القيمون عليه الأسئلة حول مدى نجاحه وبلوغه الأهداف المتوخاة منه، لذا شهدت هذه المرحلة نقد النموذج.
المرحلة الرابعة والأخيرة هى المرحلة الثرية والخصبة بالابتكار وهي مرحلة تطوير النموذج: لقد استقر نموذج المصارف الإسلامية، وبدأ أصحابه ينتقدونه، وكان صالح كامل نفسه، كما هو معروف، على رأس الناقدين، لكنه ما كان ينقد فحسب بل كان يعمل على التطوير، ويضيف الشيخ يوسف خلاوي: “وأستطيع أن أقول إن في حياة الراحل، ما كان يتصور أن يمرّ يوم فيها وليس له شأن بالاقتصاد الإسلامى إلى آخر يوم من حياته، كما يعرف الكثيرون من المقربين منه، هذه مرحلة الابتكار فعلا؛ لأن التطوير لا يمكن أن يتمّ من دون ابتكار، وشهدت نقلة مهمة للغاية وهي أن نموذج الاقتصاد الإسلامي الأشمل والأكبر يجب الانتقال به من اقتصاد المداينات إلى اقتصاد المشاركات“.
فهذه هي المراحل العامة التي مرت بها التجربة المصرفية منذ أن كانت فكرة في عقول المفكرين، ورغبة في أنفس المخلصين من رجال الاقتصاد الإسلامي، إلى أن صارت نموذجا تعثر ونجح ووضع تحت مجهر النقد، فوضحت الرؤية واتسعت الحدقة لتبصر جادة الطريق، فظهر التطوير والابتكار والتنوع بقدر ما أتيح من دراسات وتجارب.
إن هذا العرض الموجز من شاهد على هذه التجربة لهو كافٍ في تقدير قيمة هذه التجربة، التي لم يقف أثرها وإلهامها عند حد تقدير المتحفزين لرؤية الاقتصاد الإسلامي على أرض الواقع، بل كذلك شكلت بؤرة جذب لهؤلاء الذين لا يؤمنون إلا بالربح، وسيظهر مدى تفرد وتميز هذه التجربة المصرفية بالتعرض لأهم التجارب التي عرفتها المصرفية الإسلامية منذ أن كانت فكرة في عقول المفكرين المسلمين إلى أن صارت نماذج واقعية أسهمت أيما إسهام في دعم التنمية في كل مكان حلت به، وسوف أعرض فيما يلي لأهم هذه التجارب.
- مهدت كتابات المفكرين المسلمين إلى التفكير حول إنشاء مصرف إسلامي بديلًا عن المصارف التقليدية، وذلك منذ أوائل القرن العشرين حيث ظهرت كتابات المودودي وغيره في الثلاثينيات، وحفظ الرحمن، ومحمد حميد الله، وأنور قريشي، ونعيم صديقي، ومحمد يوسف الدين، في الخمسينيات. وبلغ عدد الدراسات المنشورة حول هذا الموضوع 31 دراسة من عام 1940 م إلى عام 1974 م، وكان أول عمل مكرس لموضوع البنوك الخالية من الفوائد هو بحث محمد عزير في عام 1955 م، ثم توالت الكتابات في هذا الصدد، حتى مثلت أساسا ومنطلقا لفكرة بنك إسلامي خالي من الربا.
- شكلت بنوك الادخار التي قدمها الدكتور “أحمد النجار“؛ تجربة فريدة من نوعها في منطقة ميت غمر بمصر، وذلك في عام 1963، وقد اعتمدت هذه البنوك على مبادئ المشاركة في الربح والخسارة، مستلهمة فكرتها من بنوك الادخار الألمانية في القرن التاسع عشر. ولقد لاقت التجربة إقبالًا واسعًا، حيث جذبت آلاف المودعين في فترة قصيرة.
ومن المؤكد أن نجاح هذه التجربة طول فترة بقائها يرجع في الأساس إلى المنطلق الإسلامي الذي انبعثت منه فكرة بنوك الادخار، فهى تقوم على أساس المشاركة في الأرباح وعدم اللجوء مطلقاً إلى التعامل الربوى؛ الأمر الذى أدى إلى إقبال الجماهير المؤمنة إقبالا منقطع النظر على التعامل مع هذا البنك، وثانياً إلى الثقة المتبادلة بين المؤسسة الادخارية وعملائها، ولعل هذا السبب الأخير جاء نتيجة مباشرة السبب الأول، فالأساس الإسلامى الذى قام عليه بنك الادخار وبقية البنوك الإسلامية هو الذي أدى إلى قيام هذه الثقة المتبادلة بين المؤسسة وعملائها وهو الأصل الذي يقوم عليه كل نجاح.
ولكن مما يؤسف له حقاً أن هذه التجربة المصرية تعرضت للتجميد في منتصف عام ١٩٦٧ م، ثم للتغيير إلى الخط المصرفي السائد وأزيلت عنها صفتها الأساسية وهى العمل بغير الفائدة الربوية. وقد لاقت التجربة المصرية المصير الذى لاقته لسبب واحد هو: أنها لم تكن تتمتع بمظلة قانونية عند إنشائها، وبذلك وجد البنك المركزى المصرى فيها نشازاً عن الخط الذي تسير فيه البنوك فشجبها وقرر تغيير نظامها، ولم يكن الوقت مناسباً بعدُ، لكي يتصدى لمؤازرة هذه التجربة والإبقاء عليها وحمايتها. - في سياق متصل وفترة قريبة من إنهاء أعمال بنك الادخار المصري؛ أنشئ بنك ناصر الاجتماعي وذلك في عام 1971م، وبدأ نشاطه بافتتاح فرع واحد فقط في القاهرة في 25 يوليو 1972، وكان الهدف من هذا البنك هو تقديم الخدمات والمساعدات لمحدودي الدخل بلا فوائد يتحصل عليها مع خصم نسبة ضئيلة للمصروفات الإدارية، وقد حقق البنك نجاحا ملحوظا في بعض التقارير المتعلقة بالأداء المالي للبنك، وظهر أن الودائع قد ارتفع حجمها من ٤٤١ ألف جنيه في نهاية عام ١٩٧٣ م إلى نحو ١١,٥ مليون جنيه في نهاية عام ١٩٧٦ م، وأنه قد استفاد من القروض نحو ١٢ ألف مواطن صرف لهم البنك ٣,٥ مليون جنيه.
ويقوم البنك ببعض الأعمال التجارية التي من شأنها المساهمة في حل بعض مشاكل الاقتصاد الوطني؛ كأزمة المواصلات حيث تم تمليك السائقين نحو ثلاثة آلاف سيارة أسهمت فى حل مشاكل النقل والمواصلات، كما تم استيراد المعدات الحديثة ومستلزمات الإنتاج المختلفة لبعض طوائف الحرفيين، بحسب التقرير المشار إليه، إلى غير ذلك من الأنشطة والأدوار الاجتماعية والاستثمارية التي قام بها البنك، والتي ساهمت بنصيب كبير في إحداث التنمية لمحدودي ومتوسطي الدخل، وقد بدأ البنك نشاطه بافتتاح فرع واحد فقط في القاهرة في 25 يوليو 1972، ثم وصل عدد فروعه إلى 96 فرعا في باقي محافظات مصر. - قريبا من هذه الفترة شهدت المملكة العربية السعودية اتجاهًا قويا نحو تقديم خدمات تمويل وائتمان إسلامي في شكل قروض حسنة وبرامج تمويلية؛ لدعم المشروعات الصغيرة والمتوسطة، فأنشيء البنك السعودي للتسليف، وذلك في عام 1971م برأس مال قدره 5 ملايين ريال لتقديم قروض اجتماعيّة، وفي 1983م أُسند للبنك برنامج القروض المهنية، ومارس البنك نشاطه واتسع نطاق التمويل الاجتماعي فأضيف برامج تشمل تمويل السيارات الأجرة، والمنشآت الصغيرة والناشئة ويمارس البنك هذه المهام حاليا واسمه الحالي “بنك التنمية الاجتماعية”.
- ومن البرامج التمويلية الاجتماعية المبكرة تجربة صندوق التنمية العقاري السعودي ومقره الرياض، وهو صندوق عقاري تنموي غير ربحي، أنشئ بموجب المرسوم الملكي سعودي بتاريخ الحادي عشر من جمادى الآخرة سنة 1394 هـ الموافق 11/7 عام 1975، ثم بدأ الصندوق نشاطه في تقديم قروض للمواطنين لمساعدتهم على إقامة مساكن خاصة لهم، ولغرض الاستثمار، اعتبارا من بداية العام 1395 هـ، وبحسب وزارة التنمية فإن صندق التنمية العقاري يقدم قروضا للأفراد والمؤسسات لإقامة مشروعات عقارية للاستخدام الخاص أو الاستخدام التجاري، وقد تمكن الصندوق منذ بدء نشاطه عام 1395 ه وحتى نهاية العام 1419 هـ من تقديم 842.443 قرضا خاصا للأفراد، و488.2 قرضا استثماريا، وقد بلغت قيمتها الإجمالية مائة وعشرين مليار ومائة وأربعة وأربعين مليون ريال ساهمت في بناء حوالي خمسمئة وخمسة وخمسين ألفا وثمانمائة وست وستين وحدة سكنية.
- في ظل هذه التجارب الناجحة نما الوعي بأهمية التمويل الإسلامي، خاصة في ظل المناخ الثقافي والعلمي الذي ترددت فيه الدعوات إلى إنشاء مؤسسات اقتصاد إسلامي، لتقوم بنفس الدور الذي تقوم به البنوك التقليدية إلى جانب قيادة الاقتصاديات الإسلامية بصيغ التمويل الإسلامية، التي تتجنب الفائدة وتعمل لصالح الجماهير، بتشغيل مدخراتهم وتطوير مجتمعاتهم، وتوزيع الزكوات وإدارة الأموال إدارة مثلى، تراعي متطلبات التنمية وحاجات الأمة، وقد كان هنالك شبه إجماع على نبذ التعامل الربوي، فتوالت القرارات في هذا الشأن بدءا من القرار التاريخي لمجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف وذلك في عام 1964م، والذي قرر تحريم فوائد البنوك تحريمًا قطعيًّا؛ لأنها رِباً تحرمه الشريعة.
على كثرة هذه الكتابات وشهرتها ودورها في تأسيس الإطار النظري لتلك المؤسسات فإنها انطلقت أساسا من الأرضية الأولى، التي تأسست على كتابات الإصلاحيين مثل محمد عبده ورشيد رضا وجيل النهضة، وهي كتابات تدعو مرارا إلى أن تحرير البلاد الإسلامية لا يقف عند حد طرد المستعمر، بل يحتاج بنفس الدرجة إلى قوة اقتصادية متأسسة على اقتصاديات الإسلام بمبادئه ونطرياته المختلفة، وحقا أحاطت هذه الكتابات بالمعالم العامة للاقتصاد الإسلامي، والتي ساهمت إلى حد كبير في تكوين النظرية الاقتصادية الإسلامية. - بعدما اكتمل الأساس المعرفي والفني لبنك إسلامي، لم يبقَ إلا إطلاق أول بنك إسلامي مستوفٍ لشروط العمل وفقا لمبادئ الاقتصاد الإسلامي وعلى أساس صيغه التمويلية وعقوده المالية، وكانت الأمة على موعد مع حدث فارق في تاريخ الاقتصاد الإسلامي بعامة والمصرفية الإسلامية بخاصة عندما صدر المرسوم الأميري لحكومة دبي بإنشاء بنك دبي الوطني في مارس 1975 وتم تأسيسه فعلا في 15-9-1975م وبحلول يناير 1976 مارس البنك نشاطه الفعلي.
وقد مثَّل بنك دبي الوطني أول بنك إسلامي متكامل يقدم الخدمات المصرفية وفقا لمبادئ الشريعة الإسلامية، وقد تأسس البنك بفضل سعي الحج سعيد أحمد لوتاه وجهود غيره من المخلصين، وتم تأسيس البنك ليكون أول بنك إسلامي يقدم خدماته وفقًا لمبادئ الشريعة. وقد مثل تأسيس وإنشاء هذا البنك نقطة فارقة في تاريخ المصرفية الإسلامية، حيث شجع نجاحه الملحوظ على انتشار وتمدد التجربة وتوسَّع نطاقها لتعبر حدود الدول الإسلامية إلى الدول الغربية، كما أثبت أن المصرفية الإسلامية قادرة على تقديم الخدمات المصرفية ومنح الائتمان بنفس الكفاءة والفاعلية المعروفة في النظم التقليدية مع صيغ أكثر أمانا وعدالة وربحية.
كانت بداية عمل البنك في العمليات التجارية، ثم بدأ البنك بالتوجه إلى مجال الصناعة، فأقيمت سلسة كبيرة من المصانع في مختلف المجالات، ثم دخل البنك إلى مجال التنمية العقارية فمول إنشاء مدن سكنية كبيرة لتوفير الملكية للناشئة والشباب بطرق ائتمانية ميسرة، وأخذ البنك يشارك في كل الأنشطة الاستثمارية المتاحة في وقت مبكر، ولم يكد يمر على تأسيس البك عامان حتى كان قد حقق نجاحا هائلا تقرر فيه الأرقام مدى البون الشاسع بين الأرباح القائمة على الاسثمار الشرعي القائم على المشاركة وبين النظم الربوية التي تعمل وفقها النظم التقليدية.
على سبيل المثال أعلن بنك دبى الإسلامى في أول ميزانية له عن السنة المالية الماضية المنتهية 31-12-1976، وأورد الأرقام التي توضح نسب الأرباح، وهى بالنسبة المساهمين تبلغ ١١٪، وأما بالنسبة لودائع الاستثمار الخالى من الربا – فقد كان عائدها ١٠٫٤% عن سنة و ٧,٥ عن ستة أشهر، وهي عوائد كبيرة إذا ما أخذ في الاعتبار سعر الفائدة السائد وأنها أول عوائد بعد ممارسة البنك لأعماله لسنة واحدة فقط، وهي مدة قصيرة جدا قد تذهب في إجراءات التأسيس ووضع اللوائح وتحديد الهياكل الإدارية.
وقد أغرى هذا النجاح الكبير كثيرا من الدول المختلفة حول العالم باستلهام هذه التجربة، فتوالت طلبات متنوعة ترغب في النصح والمشورة جاء في نص تقرير عن البنك سنة 1976م “لقد تسلمنا العديد من الاستفسارات من بعض الدول الإسلامية يسألوننا النصح والاسترشاد ولتكوين بنوك إسلامية فى بلدانهم، كما استقبلنا ممثلي هيئات إسلامية ببلدان عديدة حتى البعيدة منها مثل ماليزيا وسنغافورة وتايلاند وقد تأثروا بفكرتنا وأسلوبنا فى العمل“.
وهذا دليل عملي على صدق نجاح هذه التجربة في واقع جديد على المصرفية الإسلامية من ناحية الأعراف والعلاقات ونظم الاستثمار العالمية. - تبع ذلك وفي العام نفسه تأسيس البنك الإسلامي للتنمية، وهو يمثل مجموعة مؤسسات مالية كبرى، تعمل في مجالات دعم النشاط الخاص ودعم التنمية في البلاد الإسلامية، وهو في الأساس بنك دولى يتعامل – أساساً – مع الدول، أما تعامله مع الأفراد فيقع في نطاق ضيق يتمثل في قبول المدخرات لحفظها لهم دون أي عائد بطبيعة الحال، ويقع المركز الرئيسى لهذا البنك في مدينة جدة .
وقد بدأ التفكير في إنشاء هذا البنك عام 1970، وأعلن عن هذه النية أثناء انعقاد المؤتمر الثاني لوزراء خارجية الدول الإسلامية بمدينة كراتشي، حيث تقدمت دولتان من الدول الأعضاء باقتراحين يدعوان إلى إنشاء بنك أو اتحاد بنوك إسلامية، قدم الاقتراحين الوفد المصرى والوفاء الباكستاني، وقد لقيا ترحيباً وحماساً من جميع الدول الأعضاء وأصدر المؤتمر قراره فى 28-12-1970 بتكليف جمهورية مصر العربية مسئولية القيام بدراسة شاملة لهذا المشروع. وفى ١٤ محرم ۱۳۹۲ هـ (29-2-1972م ) انعقد المؤتمر الثالث لوزراء خارجية الدول الإسلامية بمدينة جدة وقدمت إليه “الدراسة المصرية لإنشاء نظام مصرفى إسلامي“، وكانت دراسة شاملة هدفها وضع الأسس الشرعية لإنشاء بنوك عصرية على أصول شرعية وإقامة نظام مصرفى إسلامى متكامل، يشمل مصارف محلية واتحاد عام لهذه المصارف المصرفية وقد أصدر المؤتمر بشأن هذه الدراسة القرار التالي “اطلع المؤتمر على الدراسة التي قامت بها جمهورية مصر العربية لإنشاء البنك الإسلامي الدولي والعمل على إعادة بناء المجتمع الإسلامي وتدعيم اقتصاده على أسس مثالية شرعية من العدل الإلهي والقيم الإنسانية والسعي لتحرير المعاملات المصرفية من المحظورات الشرعية بما يتفق مع الأسس الاقتصادية المتطورة، وقرر المؤتمر أن تنشأ بالأمانة العامة إدارة مالية واقتصادية وتكون هذه الإدارة نواة وكالة فى الميادين الاقتصادية والمالية التي تهم الدول الأعضاء.
وبناء على هذا القرار أُنشِئت الإدارة الاقتصادية بالأمانة العامة للموتمر الإسلامي، كما دُعِي للانعقاد أول مؤتمر لوزراء مالية الدول الإسلامية بمدينة جدة، وأصدر تصريحًا بإعلان العزم على إنشاء البنك الإسلامى للتنمية، وبالفعل كوَّن لجنة تحضيرية لإعداد مشروع الاتفاقية التأسيسية البنك، وتم التصديق عليها من الدول الأعضاء وأصبح البنك الإسلامى الدولى للتنمية حقيقة واقعة يباشر أعماله بالفعل منذ 20-10 – ١٩٧٥م. - ظهرت فكرة إنشاء بنك فيصل الإسلامي سنة 1974م حينما انعقد العزم على إنشاء بنك إسلامي متكامل يعمل فقا لأحكام الشرعية الإسلامية، وفي عام 1977م قام الأمير محمد الفيصل بن عبد العزيز آل سعود – رئيس مجلس الإدارة – بعرض الفكرة على المسئولين المصريين، ولاقت الفكرة ترحيباً واسعاً على المستويين الشعبي والرسمى، وتمت الموافقة على تأسيس البنك، وصدر بذلك القانون رقم 48 لسنة 1977م، الذي أقره مجلس الشعب المصري في حينه، ليبدأ البنك كمؤسسة اقتصادية واجتماعية تأخذ شكل شركة مساهمة مصرية وتعمل وفقاً لأحكام الشريعة الإسلامية، وقد لاقت أسهم البنك إقبالاً كبيراً حيث تجاوزت المبالغ المكتتب فيها عند التأسيس خمسة أمثال الأسهم المطروحة للاكتتاب، لذا تم تعديل رأس المال أكثر من مرة حتى وصل إلى 500 مليون دولار كرأس مال مرخص به مقابل 198 مليون دولار كرأسمال مصدر ومدفوع بالكامل، كما يدير البنك أكثر من سبعمائة ألف حساب للعملاء، وتصل أصول وموجودات البنك إلى ما يزيد على ثلاثة مليارات دولار أمريكي، وافتتح أبوابه للعمل رسميًّا واستقبل عملاؤه في 5 يوليو 1979م.
وقد حددت كلمة الأمير محمد الفيصل في افتتاح البنك ملامح البنك، وأهدافه، وطبيعة عمله، وأنشطته، حتى في الفترة السابقة على افتتاحه رسميا، كما بينت معالم الدور التنموي والاجتماعي الذي يرتبط بمهمة البنك الأساسية كمؤسسة من مؤسسات الاقتصاد الإسلامي، لا يقف الأمر بها عند استخدام مبادئه وقواعده وصيغه التمويلية، بل تلتزم بأهدافه الكبرى ومقاصده الأساسية في تلبية الحاجات العامة، وتحقيق التنمية والنهضة للمجتمعات الإسلامية، وأقتبس منها بعض الفقرات التي توضح المقصود:- إن هذا البنك الوليد قد وضع في خطته أن يشارك طبقاً لأحكام الشريعة الإسلامية في عمليات التجارة لسد حاجات البلاد من السلع الضرورية وحاجة الجماهير للغذاء أو الكساء، أو الإسكان، وقد وصل حجم العمليات التجارية التى ساهم فيها حتى الآن حوالى ٤ ملايين دولار أمريكي.
- ومن ناحية نشاط البنك فى مجالات الاستثمار طويل الأمد فإن بنك فيصل الإسلامى سوف يقدم إمكانياته فى العمليات الاستثمارية اللازمة لرفع مستوى معيشة المواطنين. وعلى الأخص ذوى الدخل المحدود، وفى مقدمتها مشروع الإسكان الاقتصادى لذوى الدخل المحدود.
- وعلى نفس الأسس سوف يساهم البنك في إطار المشاركة الاستثمارية في الشهور القادمة …كما أن البنك في سبيله إلى دراسة مشروعات نستهدف زيادة الإنتاج والتنمية لمحدودي الدخل من أصحاب الحرف وصغار المنتجين في مجالات الصناعة والزراعة والخدمات. وفي هذا المجال يركز البنك على الأسلوب الإسلامي في تدبير أدوات الإنتاج والخدمات وتسويق المنتجات بحيث تنتهى مشاركة البنك إلى تمليك المنتجين من الحرفيين وصغار المنتجين أدوات الإنتاج، من أحدث ما وصلت إليه تكنولوجيا العصر.
- إلى جانب ذلك كله فإن بنك فيصل الإسلامى سيقوم فى إطار الشريعة الإسلامية وأحكام فقه المعاملات بالخدمات المصرفية بكافة أنواعها التقليدية وغير التقليدية، من فتح اعتمادات سنوية، وإصدار خطابات الضمان، والصرف الأجنبي، وتأجير الخزن الخاصة، والاكتتاب في صكوك الاستثمار، وغير ذلك مقابل أتعاب يتقاضاها إزاء ما يقدمه من خدمات حقيقية لعملائه.
- وتحقيقاً للتنمية الاجتماعية يلتزم البنك بأداء الزكاة المفروضة شرعاً على رأس ماله حتى يطهره . ويقوم بتوزيعها في مصارفها الشرعية.
لقد حظيت تجربة بنك فيصل الإسلامي بمزيد من النجاحات والإنجازات العظيمة، والدليل على ذلك حالة التمدد والانتشار التي شهدتها هذه التجربة حتى صار بنك فيصل مجموعة كبيرة وانتشرت فروعه عبر مختلف البلدان الإسلامية وغيرها، وتضاعفت أصول هذه المجموعة ونما رأسمالها وعلى مدار سنوات عمل هذه المجموعة ساهمت في إقامة كثير من المشروعات التنموية والاستثمارية، التي استقطبت أموال المسلمين ووجهتها وجهتها السليمة نحو استثمار حقيقي يستهدف تحقيق الكسب النظيف، وتوجيه الحقوق المالية إلى مستحقيها فكانت دليلا على أن العملية الاستثمارية في الاقتصاد الإسلامي عملية تنموية على كافة المستويات.
وقد شهد بنك فيصل الإسلامي حضورا وانتشارا في دول مثلوقد شهد بنك فيصل الإسلامي حضورًا وانتشارًا في دول متعددة مثل: السودان والبحرين ومصر والسعودية، وباكستان، بعدد كبير من الفروع في كل دولة من هذه الدول. - بيت التمويل الكويتي: في سياق مواز لإنشاء بنك فيصل الإسلامي وما تزامن إنشاؤه من بنوك إسلامية في مختلف الدول العربية؛ تم الإعلان عن إنشاء بيت التمويل الكويتي 23-2-1977 وذلك سنة 1977م حينما صدر المرسوم الأميرى الكويتي بالقانون رقم ۷۲ لسنة ۱۹۷۷م بالترخيص فى إنشاء شركة مساهمة كويتية باسم بيت التمويل الكويتى، وقد نصت المادة الأولى من هذا القانون على أنه يرخص لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية ووزارة العمل ووزارة المالية في تأسيس شركة مساهمة كويتية باسم «بيت التمويل الكويتي برأس مال قدره عشرة ملايين دينار، وجاء في المادة الثانية أنه “على المؤسسين بصفتهم الالتزام بوثيقة تأسيس الشركة ونظامها الأساسي” أما المادة الخامسة فتنص على الأغراض التي أسست من أجلها الشركة هي :
أولا: القيام بجميع الخدمات والعمليات المصرفية لحسابها أو لحساب الغير على غير أساس الربا سواء في صورة فوائد أو أى صورة أخرى.
ثانيا: القيام بأعمال الاستثمار مباشرة أو بشراء مشروعات أو بتمويل مشروعات أو أعمال مملوكة للغير وذلك أيضاً على غير أساس الربا.
ويتقيد التعامل مع غيرها من الشركات التي تزاول نفس أعمالها أو تساعدها على تحقيق أغراضها بالتشارك أو وفقا لصور الوكالة والتفويض والتكامل، بشرط عدم التعامل بالربا، كما يظهر من المواد 5، و6، 7. - في سياق مقارب اعتزم المخلصون بدولة الأردن توسيع دائرة التجربة المصرفية الإسلامية، فتوجهت جهود المخلصين إلى إضافة مؤسسة جديد للعمل تحت لواء الشريعة الإسلامية، واستكمال التوجه نحو تطوير المجتمع الإسلامي واستثمار أموال بنيه فيما يحقق التنمية المستدامة لأبناء هذه المجتمعات، وتزاوج الفكر والمال والإرادة القوية وتم تأسيس البنك الإسلامي الأردني.
وقد كان تأسيس هذا البنك كما هو الشأن في غيره انطلاقًا من التوجه نحو تحقيق مبادئ الاقتصاد الإسلامية، بصرف النظر عن المنفعة الشخصية، وآية ذلك أننا نجد رجلا مثل الشيخ/ صالح كامل يقدم المعونة المالية والخبرة الاقتصادية لإنجاح هذه التجربة، وقد صدر قانون البنك الإسلامي الأردني للتمويل والاستثمار ، وهو القانون رقم ١٣ ل : ۱۹۷۸م . وحددت المادة السادسة الهدف من إنشاء البنك في أنه “يهدف البنك إلى تغطية الاحتياجات الاقتصادية والاجتماعية في ميدان الخدمات المصرفية وأعمال التمويل والاستثمار المنظمة على غير أساس الربا، والتي تتمثل على وجه الخصوص في:- (أ) توسيع نطاق التعامل مع القطاع المصرفى عن طرق تقديم الخدمات المصرفية غير الربوية، مع الاهتمام بإدخال الخدمات الهادفة لإحياء صور التكافل الاجتماعي المنظم على أساس المنفعة المشتركة.
- (ب) تطوير وسائل اجتناب الأموال والمدخرات وتوجيهها نحو المشاركة في الاستثمار بالأسلوب المصرفى غير الربوى.
- (ج) توفير التمويل اللازم لسد احتياجات القطاعات المختلفة ولا سيما تلك القطاعات البعيدة عن إمكان الإفادة من التسهلات المصرفية المرتبطة بالفائدة”.
إن هذه المادة وإن كانت تؤكد على الأهداف الاجتماعية والتنموية لتأسيس البنك وهي أهداف تتلاقى مع غايات الشرع الكبرى في تحقيق الريادة والاستقلال الاقتصادي والتنمية الاقتصادية، فإنه يشير إلى قضية في غاية الأهمية وهي تلك التي تمس الفئات التي تريد التمويل لمشروعات صغيرة أو متناهية الصغر، ويجدون حرجا أو ثقلا في الالتزام بفوائد الديون التي تترتب على تلك العمليات التمويلية التقليدية والتي قد تقضي على مشروعاتهم قبل بدايتها.
- الرائد الشيخ/ صالح كامل: عطاء بلا حدود
كان للرائد الشيخ صالح كامل دور كبير في إنجاح هذه التجربة وإخراجها إلى دائرة الضوء، وقد كان له كذلك دور كبير في توسيع إطار هذه التجربة لتصبح منطلقا لمجموعة بنوك البركة التي تجاوزت وحدها 600 فرعا تقدم الخدمات المصرفية وفقا لقواعد ونظم الشريعة الإسلامية والاقتصاد الإسلامي منتشرة في مختلف دول العالم.
وقد كان تأسيس البنك الإسلامي الأردني مغامرة كبيرة يصعب تحقيقها في محيط يزخر بالمصارف التقليدية، التى تقدّم خدمات تعوّد عليها الجمهور وتآلف معها، كان مغامرة كبيرة تطلبت شجاعة استثنائية من الرائد صالح كامل الذي كان قطب الرحا ومحور الارتكاز في تأسيس هذا البنك.
حمل الدكتور سامي حمود فكرة تأسيس بنك إسلامي إلى محافظ البنك المركزي الأردني الدكتور محمد سعيد النابلسي فتحفظ عليها بداية، ثم عرض فكرته على الأمير محمد الفيصل وصالح كامل، وتم الاتفاق أن يغطيا «حصّة المساهمين غير الأردنيين وسقفها 40% من رأس المال. ولكن بعد صدور قانون البنك تراجع الأمير وغيّر موقفه، بسبب شعوره بوجود مخالفات شرعيّة في مشروع قانون البنك، رغم أن هيئة الفتوى الأردنية كانت قد دققت نصوص القانون، لكن الأمير فضّل الابتعاد ولم ينجح حمود في إقناعه بتغيير موقفه، أما الشيخ صالح فلم يبدّل موقفه وأعلن عن استعداده لتغطية المساهمة السعودية في البنك وحده، وبالفعل حوّل 25% من قيمة القسط الأول للجنة التحضيرية ما أعطاها دفعًا للمضي بجمع الاكتتابات، وانطلقت مسيرة البنك في 1399/3/25هـ الموافق 1979/2/22م.
ونجح البنك في استقطاب العملاء ونمت ميزانتيه وتضاعف عدد موظفيه واستكمل دفع نصف رأسمال الصرح به، وبمرور الوقت ظهرت بعض التناقضات والمكشلات التي كان يمكن أن تعصف بهذه التجربة الوليدية وتقتلها في مهدها، لكن الرائد صالح كامل بما حظي به من حكمة، وسعة أفق، واعتزام لا نهاية له لإنجاح هذه التجربة، قد استطاع التغلب على هذه العقبات، واستطاع البنط أن يعود لاستقراره بمجرد تولي صالح كامل رئاسة مجلس الإدارة وذلك 1400هـ الموافق 1980م، فمن عادة الشيخ صالح، عندما يبدأ عملًا أن يرافقه بنفسه ويرعاه إلى أن يشتد ساعده ويبلغ مرحلة النضج والاستقرار، وعندما يتأكد أنه في أيد أمينة، فإنه يتوقف عن متابعته الدائمة واللصيقة، وينطلق إلى عمل جديد ومهمة جديدة.
وقد أوصل البنك الإسلامي الأردني إلى هذه المرحلة فعلاً فحلق في آفاق اقتصادية دلت على أن التجربة المصرفية تجربة فريدة حقيقة بالنجاح إذا توفرت لها إرادة مؤمنة وإدارة رشيدة.
واستمر البنك في نجاحاته وأدواره الاجتماعية، التي ترتبط بطبيعة عمل البنوك الإسلامية كمؤسسات إسلامية تستهدف التنمية، فساهم البنك في تمويل المرافق الاقتصادية الوطنية ذات النفع العام؛ كالجامعات والمستشفيات والمدارس ووسائل خدمات النقل والمشاريع العقارية ما يؤمن فرص عمل للأيدي العاملة للحدّ من البطالة، كما قام البنك بحشد المدخرات الوطنية وتوجيهها مباشرة إلى أنشطة ومشاريع اقتصادية واجتماعية قادرة على توليد سلع وخدمات ذات نفع حقيقي لحياة الناس المعيشيّة.
ونوع البنك الإسلامي الأردني نشاطاته منها بالتبرعات، والقروض الحسنة، وصندوق التأمين التبادلي، وبرامج تمويل المهنيين والحرفيين وتمويل مختلف النشاطات الاجتماعية، وهنا تبرز مشاريع مميزة مثل مشروع ضاحية إسكان الروضة الذي سوّق بالتأجير المنتهي بالتملك، والبيع بالتقسيط على ثلاثين سنة، ومشروع ضاحية الياسمين وغيرهما من المشاريع التي ساهمت في إعمار الأرض وإنماء المجتمع.
صالح كامل والتحليق في آفاق الحلم
لم يكن الرائد صالح كامل أحد الذين تأثروا بالتجارب الناجحة للبنوك الإسلامية، بل كان من أوائل المفكرين فيها وقد ساهمت نجاحاته الأولى كمستثمر يعمل وفقا لنظم الاقتصاد الإسلامي، أقول ساهمت في تكوين ثقة لدى الجماهير والمستثمرين على حد سواء في كفاءة صيغ التمويل الإسلامي.
وبخصوص المصرفية الإسلامية فباعتباره مستثمرا، فإنه في حاجة إلى التمويل ولابد أنه فكر في أكثر من مرة في إمكانيات الحصول على تمويل إسلامي بعيد عن الربا. ولابد أن هذا الرجل الذي التزم وصية أبيه في عدم التعامل بالربا؛ قد حلق بفكره ومعرفته بنظم الاقتصاد الإسلامي إلى آفاق الفكرة ذاتها التي كررها رجال مثل دكتور النجار والأمير الفيصل وسامي حمود والشيخ سعيد لوتاه وغيرهم.
يقول الرائد الشيخ صالح كامل: “بدأت أفكر في إنشاء بنك إسلامي، في تلك الفترة شاءت إرادة الله سبحانه وتعالى، أن يفكر أيضا صاحب السمو الملكي الأمير محمد الفيصل بإنشاء بنك إسلامي، وكذلك الشيخ سعيد لوتاه في دبي في الإمارات العربية المتحدة، نحن الثلاثة سمعنا عن بعضنا البعض، واجتمعنا في بيت الأمير محمد ، واتفقنا على أن نعمل معًا، وكنّا في فريق العمل، نحن الثلاثة رجال أعمال واثنين أكاديميين، هما الدكتور أحمد النجار من مصر، والدكتور سامي حمود من الأردن، ثلاثة رجال أعمال وإثنان أكاديميان، وقد أراد الله أن تبدأ تجربة البنوك الإسلامية“.
وهذا يقودنا لتقرير حقيقة مهمة وهي أن عقول المفكرين وإرادة المستثمرين المسلمين كانت متجهة كلها إلى ضرورة وجود بنك إسلامي، وقد تزامنت التحضيرات المختلفة لجميع هذه البنوك في جميع البلدان التي تمت فيها والفرق الوحيد هو في أسبقية الظهور فقط، وإن كان التعاون بالخبرات والقدرات المادية قد حصل في كل هذه التجارب، بل كانت مشاركة الرائد في تأسيس البنك الإسلامي الأردني من نوع التعاون على البر والإحسان، وقد تكلل هذا التعاون بنجاح ومع التجربة والعمل تكونت الخبرة وقويت العزيمة نحو مزيد من الانتشار ليس فحسب في البلدان العربية والإسلامية، بل في مختلف دول العالم التي يمكن نقل التجربة إليها.
إننا هنا نقف عند المرحلة التي أشار إليها سعادة الشيخ يوسف خلاوي، أي المرحلة الثانية والتي استهدفت محاولة نشر نموذج البنك الإسلامي في أي مكان يقبله، مع محاولة رفد النموذج بأعمال علمية منظمة تخدم واقع المصرفية المتجدد.
وبالفعل قام الرائد بمتابعة تأسيس المصارف الإسلامية وتحت اسم البركة تم تأسيس أول بنك إسلامي في لندن 1983 أي في عقر دار رأس المال الغربي، وقد حقق هذا البنك نجاحات فارقة واجتذب من الودائع والحسابات المصرفية من غير المسلمين ما أزعج السلطات البريطانية آنذاك، الأمر الذي حدا ببنك إنجلترا «أو مصرف إنجلترا المركزي» إلى إغلاق البنك متذرعًا بأنه لا يتبع لسلطة نقدية أو مالية إشرافية في بلده الأم، وهي المملكة العربية السعودية، حيث كان خاضعًا لإشراف وزارة التجارة السعودية وليس لمؤسسة النقد العربي السعودي.
حزم الشيخ صالح أمتعته حزينًا وغادر عاصمة الضباب على مضض وظلت الفكرة تراوده من حين لآخر حتى التقى في نهاية تسعينيات القرن الماضي مع المصرفي البحريني المنظم إداريًا وفكريًا ومهنيًا وكان يعمل رئيسًا تنفيذيًا لمصرف ABC بنك الإسلامي، ونائبًا للرئيس التنفيذي عن المنطقة العربية للمجموعة عندنان يوسف؛ وبدآ معًا ملحمة نجاح فارقة استمرت إلى وقتنا الحالى، والتي تمثلت في تلك المجموعة الاستثنائية النجاح التي تعمل تحت مظلة البركة، وتنتظم ثلاثة دول بفروعها المختلفة، لقد انطلقت مجموعة البركة المصرفية من المنامة حيث المركز أو المقر والترخيص من سلطة إشرافية هي مصرف البحرين المركزي «مؤسسة النقد سابقًا»، ثم أبحرت أفقيًا ورأسيًا من الشرق إلى الغرب، حتى جاوز عدد فروع البنك 600 فرعا في ثلاثة قارات آسيا وأفريقيا وأوربا، وتشمل هذه الدول: الأردن، مصر، تونس، البحرين، السودان، تركيا، جنوب أفريقيا، الجزائر، باكستان، لبنان، سوريا، والعراق بالإضافة إلى مكاتب تمثيلية في بعض الدول كليبيا.
المصدر: بنك البركة التقرير – مصر التقرير الإقليمي لسنة 2022 ص: 7.
إن هذه الحالة الاستثنائية من النجاح والنبوغ تعود أولا وأخيرا إلى الإيمان الراسخ الذي كان يحتفظ به مؤسس المجموعة الشيخ صالح كامل، والذي كان يؤمن بثلاثة اعتبارات هي التي حركت قناعاته نحو تأسيس كيان مصرفي إسلامي يُشار إليه بالبنان:
الاعتبار الأول: إيمانه بأن تحريم الربا هو عقيدة «إبراهيمية» حرمتها الأديان السماوية الثلاث.
الاعتبار الثاني: أن المنتجات المصرفية الإسلامية لا بد لها أن تنتشر وتوثق وتقام لها القرابين، بل وأن تجد لها مريدين في مختلف بقاع المعمورة من دون الخروج عن تقاليد وأحكام الشريعة السمحاء.
الاعتبار الثالث: إن الله قد استخلف الإنسان في ماله لإعمار الأرض وهو ما دفع المجموعة إلى الانتشار في ثلاث قارات لتغطي أعمالها أسواق مترامية الأطراف، ومجموعات بشرية أصبحت مؤمنة بأن الصيرفة الإسلامية قد جاءت لصالح الإنسانية جمعاء، من دون تفرقة أو استثناء.
جدول يوضح انتشار فروع بنك البركة وسنوات التأسيس من إعداد وحدة الدراسات الاقتصادية بمنتدى البركة للاقتصاد الإسلامي.
الدول | المنطقة | الاسم | سنة الإنشاء | عدد الفروع |
---|---|---|---|---|
تركيا | أوروبا | بنك البركة – تركيا التشاركي | 1985 | 230 |
باكستان | جنوب آسيا | بنك البركة (باكستان) المحدود | 2010 | 170 |
الأردن | الشرق الأوسط وشمال أفريقيا | البنك الإسلامي الأردني | 1978 | 111 |
تونس | الشرق الأوسط وشمال أفريقيا | بنك البركة – تونس | 1983 | 42 |
مصر | الشرق الأوسط وشمال أفريقيا | بنك البركة – مصر | 1980 | 39 |
الجزائر | الشرق الأوسط وشمال أفريقيا | بنك البركة – الجزائر | 1991 | 33 |
السودان | الشرق الأوسط وشمال أفريقيا | بنك البركة -السودان | 1984 | 30 |
سوريا | الشرق الأوسط وشمال أفريقيا | بنك البركة سورية (شريك) | 2009 | 15 |
جنوب أفريقيا | أفريقيا | بنك البركة المحدود – جنوب أفريقيا | 1989 | 9 |
البحرين | مجلس التعاون الخليجي | بنك البركة الإسلامي | 1984 | 5 |
لبنان | الشرق الأوسط | بنك البركة – لبنان | 1991 | 8 |
ليبيا | الشرق الأوسط وشمال أفريقيا | مجموعة البركة | 2011 | (مكتب تمثيلي) |
العراق | الشرق الأوسط | بنك البركة العراق | 2 | |
ألمانيا | أوروبا | رقمي |
الآثار الاجتماعية لمجموعة بنوك البركة
وقد اتسمت كل الأنشطة والمشاريع التي قامت بها أو دعمتها مجموعة بنوك البركة، بتوافقها مع القيم والمعايير الأخلاقية الإسلاميّة، التى كان يدعو إليها الرائد الشيخ صالح كامل، وقد تنوعت هذه المشاريع واختلفت بين دولة وأخرى ومن مجتمع إلى آخر بحسب احتياجات كل مجتمع ومقدراته الاقتصادية، من الدعوة إلى تحصيل العلم وإقامة دورات تدريبية، ودعم محاضرات وندوات توعوية، إلى تمويل شبكة مدارس لتوفير التعليم المجاني، وتقديم منح تعليمية فى مختلف الدول، ودعم قطاعى العجزة وأصحاب الاحتياجات الخاصة، أو تشجيع إقامة المعارض وإذكاء روح الثقافة الإسلاميّة، كما فى تركيا، حيث أقيمت معارض الخط العربي، ومكتبة مجانية وأفلام وثائقية، وإصدار كتب متخصصة وتكريم الشخصيات المحليّة.
إلى جانب تأسيس صندوق لدعم الكتاتيب وبناء المساجد والمستوصفات والعيادات المجانيّة، كما في تركيا. كما أنشأ البنك في دولة الجزائر وقفًا مشتركا بينه وبين وزارة الشؤون الدينية، وشركة السيّارات الأجرة التي شغلت المئات من الأشخاص، كما قدم قروضًا حسنة لربات البيوت ودعم قطاع النسيج والأعمال الحرفيّة.
وفي جنوب أفريقيا عمل البنك على تعزيز: التعليم، والرعاية الاجتماعية، والدِّين، والصحة، والرياضة؛ وكان دوره بارزا في المساعدة على الإغاثة من الكوارث، حيث أعال المحتاجين بغض النظر عن الدّين أو اللون أو العنصر والجنس… وهكذا تنوّعت الأفكار والمشاريع والمستهدفين وفى جميعها تطبيق المعياري الإبداع والاستدامة وفق قيم الإسلام وأخلاقياته.
خلاصة وخاتمة:
وبعد، فقد مرت المصرفية الإسلامية بمخاض كبير، ارتكز على جهود مخلصة ومحاولات دؤوبة، تمخضت عن تجربة رائدة ساهمت في إرساء الأسس العامة لفكرة التمويل الإسلامي، وإظهار الحاجة إلى وجود مؤسسات مالية متكاملة تعمل وفقًا لمبادئ الشريعة الإسلامية، كما ساهمت في توعية الجمهور بأهمية التمويل الإسلامي، وزيادة الوعي بأحكام الشريعة الإسلامية المتعلقة بالمعاملات المالية، وشجعت المفكرين على إنشاء مؤسسات مالية متكاملة تعمل وفقًا لمبادئ الشريعة الإسلامية.
- وقد استهدفت هذه الدراسة عرضا للمحطات الأولى والأساسية ونقاط المرور التي جازتها المصرفية الإسلامية في طريقها للظهور والنشأة، وعرضت ضمن ذلك لأهدافها العامة والعوامل التي أثرت في تسارع هذه التجربة ودولنتها بالصورة التي رأيناها، والتي تؤكد على شعور عام ورغبة عامة جارفة في إيجاد مؤسسة تمثل الاقتصاد الإسلامي على وجه الأرض بمبادئه الإنسانية وأهدافه السامية واستثماره النظيف.
- كما بينت مدى نجاحات هذه التجربة لا بعد قرن أو قرنين من الزمان، ولكن بمجرد طرح أسهم هذه المؤسسات للاكتتاب العام، والعجب العجاب أن الاكتتاب كان يزيد عن المقدار المطلوب ما يجبر رؤساء مجالس هذه البنوك على إعادة تقييم أصول هذه البنوك.
- يظهر أن التحالفات التي تعرفها مؤسسات الاقتصاد الإسلامي والتي يمكن أن نكتب عنها لاحقا من خلال صور التناغم والتعاون، كان وراء استمرار عمل ونجاح هذه البنوك، ما يعني أن التكتلات الاقتصادية في عصرنا الحالي من أهم ضمانات الاستدامة لمؤسسات المصرفية الإسلامية.
- كما يمكن أن نقرر أن المصرفية الإسلامية تمتلك مؤهلات البدء والاستمرار إذا أخذنا في الاعتبار وجود شريحة هائلة من المسلمين يتشوفون إلى الاعتماد على هذه المؤسسات في استثمار أموالهم، مدفوعين بنظرية الاقتصاد الإسلامي في ضرورة الاستثمار وضرورة التنمية وضرورة الإعمار وواجبات المسؤولية المجتمعية، ما يعني ضرورة وجود موارد مستمرة لتمويل نهضة شاملة.
وقد كان هذا عرضا إجماليا لأهم محطات المصرفية الإسلامية، جاء بمناسبة اعتزام مؤسسة منتدى البركة للاقتصاد الإسلامي، باختيار رشيد من الأمين العام لهذه المؤسسة/ سعادة الشيخ يوسف خلاوي بأن تكون الندوة القادمة تحت عنوان: “المصرفية الإسلامية في خمسين عامًا: إنجازات الماضي وآمال المستقبل” يوم ١٦ – ١٧ إبريل ٢٠٢٥م (١٨ – ١٩ شوال ١٤٤٦هـ)، في جامعة الأمير مقرن، المدينة المنورة وتنعقد الفعاليات المصاحبة للندوة يوم الثلاثاء ١٥ إبريل ٢٠٢٥م (١٧ شوال ١٤٤٦ه) بغرفة المدينة المنورة.
وهي ندوة استثنائية؛ لأنها ستضم بيوت الخبرة المصرفية في مختلف البنوك الإسلامية، إلى جانب رجال الاقتصاد الإسلامي الذين عاصروا هذه التجربة في مهدها وتطورها، إلى جانب المفكرين والباحثين من مختلف دول العالم، وستقدم الندوة تقييما دقيقا لإنجازات المصرفية الإسلامية خلال خمسين عاما، إلى جانب ما تعتزمه هذه الندوة من استشراف مسقبل المصرفية الإسلامية في واقع يعج بالتطورات التكنولوجية، والهيكلية، وبروز أنماط جديدة من الخدمات المصرفية، وفقهم الله كل خير وسداد.
مصادر الدراسة
مداخلة الشيخ يوسف خلاوي في ندوة افتراضية بعنوان: “مساهمة صالح كامل في الاقتصاد الإسلامي: الجوانب العلمية”، جامعة الملك عبد العزيز، 9 شعبان 1442هـ الموافق 22 مارس 2021م / من مكة وإليها سيرة الشيخ صالح كامل، ندى عيد، منشورات نومد، 2023م/ كلمة صالح كامل في حفل تكريمه في إثنينية عبد المقصود خوجة، مجلة دله البركة 2009 يونيو/ عبدالله عبد المجيد المالكي، الموسوعة في تاريخ الجهاز المصرفي الأردني، البنك الإسلامي الأردني، المجلد السابع، عمان م/ مجلة دلة البركة, رمضان 1411هـ – مارس 1991 – نشرة داخلية صادرة عن مجموعة دلة البركة/ عدنان يوسف، مقدمة كتاب المسؤولية الاجتماعية في مجموعة البركة المصرفية الصادر عن إدارة البحوث والتطوير سنة 2011م في المنامة البحرين/ مداخلة الدكتور بندر حجار في ندوة افتراضية بعنوان «مساهمة صالح كامل في الاقتصاد الإسلامي : الجوانب العلمية»، جامعة الملك عبد العزيز، 9 شعبان 1442هـ الموافق 22 مارس 2021م/ محمد توفيق الشاوي، الخصائص المميزة للبنك الإسلامي للتنمية، المؤتمر العالمي الأول للاقتصاد الإسلامي، 1396ه. عبد الرحمن يسري، استدامة المصارف الإسلامية، ندوة البركة الثالة والأربعون، الاقتصاد الإسلامي وأصالة الاستدامة، 2023م، ص385. أحمد النجار، حركة البنوك الإسلامية، شركة سبرينت للطباعة والنشر، القاهرة، مصر، ط1، 1993م/ مصطفى الهمشري، الأعمال المصرفية والإسلام، مجمع البحوث الإسلامية، القاهرة، 1985/ محمود الأنصاري وآخرون، البنوك الإسلامية، كتاب الأهرام، 1988م.