آليات ابتكار وتطوير المنتجات الإسلامية في ظل تحديات التعامل بالعملات المشفرة*
بقلم الدكتورة/ هيام سامي الزعبي
أستاذ مساعد في الاقتصاد والمصارف الإسلامية
ظهرت العملات الافتراضية المشفَّرة بسبب التطوُّر التكنولوجي الذي يشهده العالم اليوم، وبالرغم من ارتباطها بكثير من المخاطر؛ فإنها قد لاقت قبولًا من قبل الكثير من المتعاملين بسبب تمتُّعها بعدة ميزات.
وفي نظرة استشرافية لمستقبل النظام النقدي في ظل استحواذ النقود المشفرة، والتغيُّر الحاصل في طرق وإدارة كثير من المؤسسات المالية على أعمالها وتقديم خدماتها؛ تجدُ المؤسسات المالية الإسلامية نفسها أمام تحديات كبيرة، حتى تستطيع أن تواكب هذا التطور وتنافس المؤسسات المالية التقليدية ضمن أحكام الشريعة الإسلامية. لابد -إذًا- للمؤسسات المالية الإسلامية من تطوير منتجاتها بما يتناسب مع النظام العالمي الجديد المستند للنقود المشفرة، فما هو موقف الاقتصاد الإسلامي من هذه النقود؟، وما هو موقفه من وجود نظام نقدي جديد قائم عليها؟ وكيف يمكن التعامل مع هذه العملة الجديدة وما يرتبط بها من تحديات، هذا ما تعالجه هذه المقالة.
أولا: التعريف بالنقود المشفرة وكيفية إصدارها
إن العملات المشفرة والنقود الرقمية هي عبارة عن أصول رقمية مصممة للعمل كوسيلة للتبادل، تعتمد على آلية التشفير؛ لتأمين معاملاتها، والتحكُّم في إنشاء وحدات إضافية، والتحقُّق من نقل الأصول والقيم بشكل غير نَسخْي، وهي في غالبها مبنية على تقنية تسمى بسلسلة الثقة/ الكتل Blockchain والتي تكفل الشفافية والسرعة والثقة في النقل، وتتميَّز بسرعة إنجاز العمليات الخاصة بها، وسهولة التعامل بها، وانخفاض التكلفة في عملياتها، ولا تخضع لأي سلطة مركزية أو رقابة أو أية قيود، وتعتمد على تقنية تشفيرية فريدة تقوم على تكنولوجيا التناظر الإلكتروني(1)، الذي يحفظ سرية تعاملاتها وهوية المتعاملين ها.
على الجانب الآخر تتوالد هذه النقود في جوٍّ من السرية ومناخ يكتنفه الغموض، وترتبط تعاملاتها بأنشطة إجرامية؛ كغسيل الأموال، وتمويل الإرهاب، والتهرب الضريبي، كما أنها تفتقد إلى الاعتراف القانوني في كثير من الدول، ما يعني عدم وجود إطار تشريعي يغطِّي عمليات التعامل بها ويضمن حقوق المتعاملين، مما قد ينتج عنه سلسلة من عمليات التلاعب والاحتيال في ظل عدم وجود إطار تشريعي يحول دون ذلك ويقدر على إعادة الحقوق لأصحابها.
وحول نطاق قبولها، فقد شهدت نموًا كبيرًا كشكل من أشكال الدفع، وبدأت بعض الدول والحكومات والمؤسسات والأفراد قبولها والتعامل بها، بالمقابل رفضتها بعض الدول والحكومات، وفرضت عقوبات على من يتعامل بها. وبالمثل، لم تتفق الهيئات الدولية المختصة بالشؤون المالية والنقدية على موقف نهائي من النقود المشفرة؛ بسبب الحاجة إلى مزيد من الدراسات والبحوث، حول الجوانب الفنية، والتقنية، والمالية، والقانونية.
ثانيا: الآثار الاقتصادية للنقود المشفرة
- الآثار الإيجابية: للنقود المشفرة آثار كثيرة إيجابية منها: أن منظومة الأصول الرقمية توفِّر إمكانات اقتصادية كبيرة، حيث تُنجَز المعاملات بكفاءة عالية وبأقل وقت، بالإضافة إلى أنها تمكِّن من الاستفادة من قيمة اقتصادية غير مستغلَّة، ومن آثارها الإيجابية أيضا، انخفاض تكلفة الحركات بسبب غياب الوسيط المالي في المعاملات التي تتم من خلال العملات المشفَّرة.
- الآثار السلبية: هناك آثار سلبية للتعامل بالعملات المشفرة تتمثل في أثرها على السياسة النقدية؛ فزيادة المعروض من العملات الرقمية قد يؤدِّي إلى تراجع المعروض من النقود الورقية، وقد تلجأ البنوك إلى سحب السيولة الزائدة من البنك المركزي مما يحد من قدرة البنك المركزي على امتصاص السيولة من خلال بيع الأوراق المالية، وبالتالي تضعف قدرة البنوك على منح التمويل والتسهيلات الائتمانية.
ويُسهم انتشار العملات المشفرة في إحداث طفرة من هجمات البرمجيات الضارة، التي قد تؤدي إلى زيادة كبيرة في استهلاك الطاقة، وتمثِّل هذه العملات بيئة خصبة لاستيعاب عمليات غسيل الأموال والتهرُّب الضريبي، والمتاجرة بالمحرمات. هذا إلى جانب أنها عُرضة إلى خسائر كبيرة بسبب التقلُّب الشديد في الأسعار ارتفاعًا وانخفاضًا، فضلًا عن أثرها السلبي على الاستقرار المالي؛ كونها تضخِّم الفجوة بين الاقتصاد الحقيقي – الذي يركِّز على الإنتاج – وبين الاقتصاد المالي الذي يركِّز على تحقيق الربح من فرق الأسعار.
ثالثا: الاقتصاد الإسلامي والنقود المشفرة
يتطلَّب إيضاح العلاقة بين الاقتصاد الإسلامي والنقود المشفَّرة أولا، تحليلًا لمفهوم النقود ووظائفها؛ لأنها معيار اعتبار النقدية للنقود المشفرة، وقد ورد عن ابن تيمية في بيان مفهوم النقود ما يفيد أنه لا يوجد حد طبيعي أو شرعي للنقود فقال رحمه الله: “وَأَمَّا الدِّرْهَمُ وَالدِّينَارُ فَمَا يُعْرَفُ لَهُ حَدٌّ طَبْعِيٌّ وَلَا شَرْعِيٌّ، بَلْ مَرْجِعُهُ إلَى الْعَادَةِ وَالِاصْطِلَاحِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ فِي الْأَصْلِ لَا يَتَعَلَّقُ الْمَقْصُودُ بِهِ؛ بَلْ الْغَرَضُ أَنْ يَكُونَ مِعْيَارًا لِمَا يَتَعَامَلُونَ بِهِ. وَالدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ لَا تُقْصَدُ لِنَفْسِهَا بَلْ هِيَ وَسِيلَةٌ إلَى التَّعَامُلِ بِهَا؛ وَلِهَذَا كَانَتْ أَثْمَانًا. بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَمْوَالِ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ الِانْتِفَاعُ بِهَا نَفْسِهَا؛ فَلِهَذَا كَانَتْ مُقَدَّرَةً بِالْأُمُورِ الطَّبْعِيَّةِ أَوْ الشَّرْعِيَّةِ. وَالْوَسِيلَةُ الْمَحْضَةُ الَّتِي لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا غَرَضٌ لَا بِمَادَّتِهَا وَلَا بِصُورَتِهَا يَحْصُلُ بِهَا الْمَقْصُودُ كَيْفَمَا كَانَتْ“(2).
أما وظائف النقود فهي أربع وظائف رئيسية:
- كونها مقياسا لقيم السلع والخدمات في التبادل.
- كونها وسيطا للتبادل.
- كونها أداة للاحتفاظ بالقيم.
- كونها قاعدة للمدفوعات المؤجَّلة وتسوية الديون والالتزامات.
وقد اتَّفق الفقهاء المعاصرون على جواز مبادلة النقود الرقمية؛ إذا كانت صادرة بشكل قانوني، ولها صفة الإلزام، لكن اختلفوا في حكم التعامل بالنقود المشفرة غير الصادرة عن الدولة، على ثلاثة آراء:
- الأول: جواز التعامل بها؛ بناء على أنها مقبولة بحكم العرف، حيث تعارف الناس عليها كعملة، وبأنها مغطاة بسلة عملات فتكون نائبة عن نقود معتبرة شرعًا، فتأخذ حكمها ومسمَّاها، ويمكن الشراء بقيمتها، كما أنها تؤدِّي وظيفة النقود كونها مخزنًا للقيم.
- الثاني: حرمة التعامل بها؛ لأن إصدارها يتعارض مع أحكام إصدار النقود في الإسلام ومنها: أن تكون صادرة بشكل قانوني، كما أن آليات استعمالها في المضاربات يجعلها داخلة في باب القمار، هذا إلى أنها غير مغطاة بأصول ملموسة وليس لها اعتماد مالي لدى الأنظمة الاقتصادية المركزية، ولا تخضع لسلطة رقابية ولا تتمتع بصفة الإلزام.
- الرأي الثالث: التوقف والحاجة إلى دراسات متتابعة لحسم الأمر في هذه النقود، وهذا ما تبناه مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق عن منظمة التعاون الإسلامي، الذي أوصى بمزيد من البحث والدراسة للقضايا المؤثرة في الحكم على مشروعية العملات المشفرة.
والحقيقة أن النقود المشفرة تثير إشكالات كثيرة ويتردد حولها الاجتهاد؛ بالرغم من أنها لاقت قبولًا في بعض الدول واستُعمِلت في المعاملات التجارية. ويزداد التردد مع التطور التكنولوجي المتسارع، والتحول الرقمي الذي بات يشمل معظم المجالات الحياتية في العصر الحاضر، ومع توقُّع انتشارها واستحواذها على النظام النقدي العالمي، ولكن هذا لا يعني إجازة التعامل بها في الوقت الحالي، ولا الحكم بحرمتها، ومن ثم فإن التوقف في أمرها مع التوقف في التعامل معها هو الخيار الأمثل حاليا؛ لاحتياجها إلى من البحث وكثير من الاجتهاد، في ظل هذه الإشكالات التي تنتابها وتحول دون قيامها بكل وظائف النقود وأهدافها، أو على الجملة عدم تماشيها من النظرية الإسلامية للنقود، وكان هذا نفسه موقف مجمع الفقه الإسلامي، الذي قرر أن هذه القضية تحتاج إلى مزيد من البحث والنظر، وقد نص في قراره رقم: 237 (24/8) بشأن العملات الإلكترونية ضمن أعمال دورته الرابعة والعشرين بدبي، خلال الفترة من: 7- 9ربيع الأول 1441هـ، الموافق: 4- 6نوفمبر 2019م على ما يلي:
“من خلال الأبحاث المعروضة والمناقشات التي دارت تبين أن ثمة قضايا مؤثرة في الحكم الشرعي لا تزال محل نظر منها:
- ماهية العملة المعمّاة (المشفرة) المرمَّزة هل هي سلعة، أم منفعة، أم هي أصل مالي استثماري، أم أصل رقمي؟
- هل العملة المشفَّرة متقوِّمة ومتموَّلة شرعًا؟
ونظرًا لما سبق ولما يكتنف هذه العملات من مخاطر عظيمة وعدم استقرار التعامل بها؛ فإن المجلس يوصي بمزيد من البحث والدراسة للقضايا المؤثرة في الحكم”.
رابعا: المصارف الإسلامية وتحديات التعامل بالعملات المشفَّرة:
تواجه المصارف الإسلامية عدة تحديات عند تعاملها بالعملات المشفرة في العصر الحاضر، أهمها: مشروعية الإصدار بسبب ما يكتنفها من الغرر والجهالة والغموض وعدم الإفصاح، وخروجها عن سيطرة الحكومات، بالرغم من وجود جهات ودول تجيزها. وإذا كان من الممكن تجاوز الحديث عن مشروعية الإصدار؛ فإن مسألة ثمنية العملات المشفرة تبقى محل إشكال لدى الفقيه وعقبة أمام تقنين واعتماد هذه النقود.
إن الذهب والفضة والعملات الورقية يدخلها الربا بنوعية ربا الديون وربا البيوع؛ كما ثبتت ثمنية الذهب والفضة في السنة النبوية، واعتمدت المجامع المعاصرة وجود الثمنية في العملات الورقية باعتبار أن الثمنية هي العلة في الذهب والفضة، فاعتبار هذه العملات الرقمية نقودا يستلزم قياسها على النقود وهو أمر يعني كل ما يلي:
- لا يجوز بيع النقد المشفَّر بعضه ببعض، أو بغيره من الأجناس النقدية الأخرى، من ذهب أو فضة أو غيرهما، نسيئة مطلقًا.
- لا يجوز بيع الجنس الواحد من النقد المشفَّر بعضه ببعض متفاضلاً، سواء كان ذلك نسيئة أو يدًا بيد.
- يجوز بيع بعضه ببعض من غير جنسه مطلقًا، إذا كان ذلك يدًا بيد.
- تجب الزكاة في العملات المشفرة.
- يجوز جعل النقد المشفَّر رأس مال في بيع السلم، والشركات.
- أما جعل النقد المشفر مُسلَمًا فيه، فهذا ربما يكون محل إشكال؛ لأنه قد لا يكون عام الوجود حين التسليم.
- لا يُتصوَّر أن يكون للعملات المشفرة قبضٌ حقيقي؛ لأنها ليست عملات حقيقية، إذن سوف يكون القبض في التعامل بها قبضا حُكميًّا، وهو يحصل بتسجيلها في البلوكيشن وانتقالها إلى محفظة المالك الجديد.
وبناءً على هذه الأحكام وفي حالة ما إذا أمكن تحقيقها فمن الممكن إنشاء عملات رقمية خاصة بالبنوك المركزية، مع السماح بحدٍّ معيّن من منافسة عملات مشفَّرة أخرى خاصة، مما يتيح للمصارف الإسلامية التعامل بها وفقا لأحكام الشريعة في التداول والصرف والقرض والقبض وغيرها من الأحكام، وبالتالي يبرز دور الهندسة المالية الإسلامية في مواكبة التطور النقدي والوضع الجديد في ظل استحواذ النقود المشفَّرة، من خلال ابتكار وتطوير منتجات مالية إسلامية تواكب التطور.
ومع أن هذا حلمٌ بعيد المنال في ظل ما يكتنف هذه النقود من تحديات وإشكالات؛ فإن الهندسة المالية الإسلامية قادرةٌ على ابتكار منتجات تمويلية تمتاز بالكفاءة والمصداقية، استنادًا إلى مرونة الشريعة الإسلامية وقدرتها التكيف والتلاؤم مع مختلف التطورات والمستجدات.
*سائر ما في هذا المقال من تعليقات وتوثيق هو من قبل لجنة التحرير والمراجعة بمنتدى البركة، وللتوسع ينظر:
- العملات الافتراضية المشفرة وأثرها على مستقبل المعاملات، د منصور علي منصور شطا، مجلة الشريعة والقانون، جامعة الأزهر، طنطا، المجلد 37 العدد 1، يناير 2022 ، الصفحة 1776 – 1867.
- العملات المشفرة، البنك المركزي الأردني، دائرة الإشراف والرقابة على نظام المدفوعات الوطني، آذار، 2020 م.
- العملات الرقمية وأثرها على النظام الاقتصادي، مجلة الشريعة والقانون، جامعة الأزهر، القاهرة، العدد 41 ، أبريل 2023م.
- قرارات وتوصيات مجمع الفقه الإسلامي الدولي-الإصدار الرابع: ٨٤٥-٨٤٧.
- عملة البتكوين دراسة فقهية، صالح أحميد العلي، مجلة الشريعة والدراسات الإسلامية، الكويت،
- مقال الزميل عبد الناصر حمدان على موقع منتدى البركة على الرابط.
(1) تكنولوجيا التناظر الإلكتروني هي أسلوب تشفير يُستخدم فيه مفتاح واحد فقط للتشفير وفك التشفير. تُستعمل لحماية البيانات في أنظمة العملات المشفرة. فهي تجعل المعلومات آمنة ولا تُقرأ إلا بالمفتاح الصحيح. المحرر.
(2) مجموع الفتاوى (19/ 251).