مبدأ تحريم أكل أموال الناس بالباطل في الاقتصاد الإسلامي
بقلم الأستاذ الدكتور/ عزُّ الدِّين بن زغيبة
أستاذ الفقه والأصول والمقاصد
ورئيس هيئة الرقابة والفتوى في عدد من المصارف الإسلامية
إن المقصود بأكل المال بالباطل أكله بغير حق شرعي، وقد قال ابن العربي في بيان معناه عند حديثه عن الجهات التي يرجع منها الفساد إلى البيع: (وحدّه أن يدخلا في العقد على العوضية، فيكون فيه ما لا يقابله عوض)(1) .
والذي يُفهم من هذا التعريف أن ما يدفعه أحد طرفي العقد من عوض لصاحبه يكون فيه جزء زائد ليس له ما يقابله في العوض الذي يقبضه، فيكون القابض لذلك الجزء الزائد آخذا لمال غيره بغير حقّ وآكلا له بالباطل.
صور أكل الأموال بالباطل:
ويقع الأكل للمال بالباطل من وجوه عديدة: منها الربا والقمار، والميسر، وما يفسد البيوع من الغرر والجهالة، والغش، والتدليس، والنجش، والحيلة، والغصب، والخيانة، وكل ما من شأنه أخذ أموال الغير دون حق؛ ولذا استلزم الكسب في الإسلام بذل الجهد وتحمل المخاطرة، فلا يقعد صاحب المال عن طلب الرزق والعمل ويكتفي بعوائد أمواله من القمار والميسر وما في حكمهما دون بذل جهد أو تحمل مسؤولية، قال تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 188]، وقال تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء: 16,سعح0، 161].
وقد نالت حرمة الأموال ومنع أكلها بين الناس بالباطل اهتماماً بالغاً من قبل السنّة النبوية، سواء كان ذلك ببيان حرمتها من جهة العموم في عدة نصوص، أم بالتنبيه على ذلك في الوقائع الخاصة، أم بأنواع التصرفات والجزئيات المختلفة.
- فقد بينت السنة أنه لا يجوز أخذ أي شيء من مال مسلم ما لم تكن نفسه طيبة بذلك راضية به، إلا أن يوجب أخذه نص كتاب أو سنة أو إجماع أمة، قال صلى الله عليه وسلم: “لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ”(2).
- ولم تكتف السنة بالنهي عن أكل المال بالباطل وتحريمه والتشنيع بفاعله وتوعده بالخسران والبوار، بل جعلته مناطاً لعدد من أحكامها، من ذلك ما قاله أنس بن مالك رضي الله عنه: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نَهَى أَنْ تُبَاعَ ثَمَرَةُ النَّخْلِ حَتَّى تَزْهُوَ» قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: «يَعْنِي حَتَّى تَحْمَرَّ»(3)،
وفي رواية مسلم: فَقُلْنَا لِأَنَسٍ: مَا زَهْوُهَا؟ قَالَ: «تَحْمَرُّ وَتَصْفَرُّ، أَرَأَيْتَكَ إِنْ مَنَعَ اللهُ الثَّمَرَةَ بِمَ تَسْتَحِلُّ مَالَ أَخِيكَ؟»(4).
والذي يتبين لي أن النهي في هذا الحديث مبناه على أساس قطع كل السبل المفضية إلى أخذ أموال الناس بغير حق، ولئلا يكون بيع الثمار قبل بدو صلاحها ذريعة إلى أكل مال المشتري بغير حق، إذا كانت معرضة للتلف، وقد يمنع الله حصول صلاحها؛ لأن الأصل في مثل هذه المعاوضات والمقابلات التعادل بين الجانبين، فإن اشتمل أحدهما على الغرر دخلها الظلم، فحرمها الله الذي حرم الظلم على نفسه، وجعله محرما بين عباده، قال ابن القيم: “وأكد هذا الغرض بأن حَكَم للمشتري بالجائحة(5) إذا تلفت بعد الشراء الجائز، كل هذا لئلا يُظلم المشتري ويُؤكل ماله بغير حق”(6) .
وعلَّق ابن العربي على الحديث السابق فعده أصلًا في الدين(7)، وتنبيهًا على كثير من الوجوه، التي يتطرَّق بها الفساد إلى بيوعات المسلمين، وذلك أكل ٌللمال بالباطل، ومفهوم الباطل عنده في هذا الحديث: العقد الذي لا يفيد مقصوده، وذلك لأن العقد إما أن يدخل فيه المتعاقدان على أن يكون المال من جهة أحدهما، والثمن من جهة الآخر، فذلك جائز، وإما أن يكون على نقل الملك والتبادُل بينهما من عين إلى عين، فلا يجوز على قصد أن يكون أحدهما مستفيدًا مقصوده بعقده والآخر فائت المقصود كله. فإذا دخل بين المتعاقدين قصدٌ فاسدٌ فلا بد أن يقترن به من جانب الشريعة نهيٌ جازمٌ، فيكون ذلك فساداً فيه على الاختلاف في وجه الفساد وحاله ومآله، فإذا ابتاع الثمرة مثلًا قبل بدو صلاحها، فهي معرضة للآفات، ويجري عليها ذلك كثيرًا في الاعتياد، فيحصل صاحب الثمرة على الثمن ويخسر الآخر ماله.
ويرى ابن العربي أن هذا التصرف لا يمكن قبوله في الشريعة حتى وإن حصل التراضي عليه بين المتعاقدين، فإن الله عز وجل لا يرضاه، وهو معنى قوله: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 188]. وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «أَرَأَيْتَكَ إِنْ مَنَعَ اللهُ الثَّمَرَةَ بِمَ تَسْتَحِلُّ مَالَ أَخِيكَ؟».
وبناءً عليه فإن النشاط الرئيسي لسوق الأوراق المالية يتحوَّل بفعل القمار وسلوك المقامرين من الاستثمار الحقيقي إلى عمليات صورية، يؤجَّل فيها كلا طرفي المعاوضة وهما الثمن والسلعة، سعياً وراء انتهاز الفرص الناشئة عن تغيرات الأسعار، فإن صحت توقعاتهم ربحوا وإن لم تصح انتكسوا، وبالتالي فقد قادت المقامرة إلى سلوكيات ضارة لكسب فروق الأسعار من خلال الإشاعات الكاذبة، اعتماداً على حساسية السوق تجاه هذه الإشاعات، وأيضا من خلال عمليات الإدراج، والبيع والشراء الصوري، والمشتقات(8).
ومن التصرفات التي تدخل في باب التعاون على الإثم والعدوان وأكل الأموال بالباطل: المقامرة التي تؤثر تأثيرا سيئا في رأس المال؛ لاعتمادها على تخمين تقلبات الأسعار في المستقبل بعكس المخاطرة التي تعتمد على جدوى الاستثمار، وتتأثر سوق الأوراق المالية في الواقع بالمقامرة أكثر منها بالمخاطرة، وهكذا تضطرب أسعار القيم ذات الآجال الطويلة، ولا تعبِّر عن جدوى الاستثمار الحقيقية، وبهذا يصبح الاستثمار وبالتالي الاقتصاد الوطني ألعوبةً في يد المقامرين، يحركونه حسب أهوائهم وطمعهم.
يقول الاقتصادي كينز في هذا الصدد: “تحولت البورصة من سوق منافسة حر تحسن تخصيص الموارد، إلى نادي للقمار يلعب فيه المقامرون بمقدرات الأمم الاقتصادية”.
(1) المسالك في شرح موطأ مالك (6/ 23).
(2) أخرجه أحمد في المسند، مسند البصريين، حديث عم أبي حرة الرقاشي (34/ 299) حديث رقم (20695)، و الحاكم في المستدرك على الصحيحين، كتاب العلم (1/ 171)، حديث رقم (318) قال : “وقد احتج البخاري بأحاديث عكرمة واحتج مسلم بأبي أويس، وسائر رواته متفق عليهم.
(3) أخرجه البخاري، كتاب البيوع، باب بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها (3/ 77) حديث رقم (2195) ومسلم، كتاب المساقاة،
باب وضع الجوائح (3/ 1190) حديث رقم (1555).
(4) أخرجه مسلم، كتاب المساقاة، باب وضع الجوائح (3/ 1190) حديث رقم (1555).
(5) هي المصيبة العظيمة التي تهلك الثمار والأموال وتستأصلها، وكل مصيبة عظيمة وفتنة مبيرة: جائحة، والجمع جوائح. وجاحهم يجوحهم جوحا: إذا غشيهم بالجوائح وأهلكهم. وفي الحديث «أنه صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجوائح»، وهذا أمر ندب واستحباب عند عامة الفقهاء، لا أمر وجوب. وقال أحمد وجماعة من أصحاب الحديث: هو لازم، يوضع بقدر ما هلك. وقال مالك: يوضع في الثلث فصاعدا: أي إذا كانت الجائحة دون الثلث فهو من مال المشتري، وإن كانت أكثر فمن مال البائع. ينظر: النهاية في غريب الحديث والأثر (1/ 312) مادة (ج، و، ح). المحرر.
(6) إعلام الموقعين عن رب العالمين (5/ 60).
(7) المسالك في شرح موطأ مالك (6/ 18).
(8) عملية الإدراج في السوق المالية هي إجراء تقوم به الشركات لطرح أسهمها للتداول في البورصة، مما يتيح للمستثمرين شراء وبيع تلك الأسهم، وقد تتسم هذه العملية بالصورية في بعض الأحيان، خاصة عندما يتم الإدراج لتحقيق أهداف غير مرتبطة بالتداول الفعلي، مثل: الرغبة في التلاعب بالسوق، فقد تستخدم بعض الشركات عملية الإدراج كوسيلة لرفع قيمتها السوقية أو جذب مستثمرين بناءً على بيانات مضخمة دون وجود نشاط اقتصادي حقيقي قوي، وأحيانًا يتم إدراج شركات فرعية أو تابعة فقط لإظهار توسع الشركة الأم دون وجود نشاط فعلي مستقل، كما تلجأ بعض الكيانات لهذه العملية للحصول على مزايا مثل القروض بسهولة أو تحسين سمعتها، دون نية للاستمرار في التداول بشفافية
أما المشتقات فهي هي عقود تستمد قيمتها من أصل مالي أساسي مثل الأسهم، السندات، السلع، المؤشرات، وغالبا ما يستخدمها المتداولون رغبة في التحوط أو المضاربة على فروقات الأسعار، وأشهر المشتقات التي تعرفها السوق المالية، العمليات والصفقات الآجلة، وعقود المستقبليات، وعقود الخيارات، والمبادلات (Swaps) – أو الاتفاقيات التي موضوعها تبادل التدفقات النقدية بين طرفين، مثل مبادلة أسعار الفائدة أو العملات. المحرر.