صكوك الإجارة تأجير العين لبائعها إجارة منتهية بالتمليك
بقلم الأستاذ الدكتور/ عزُّ الدِّين بن زغيبة
أستاذ الفقه والأصول والمقاصد
ورئيس هيئة الرقابة والفتوى في عدد من المصارف الإسلامية
إن من أنواع الصكوك الإسلامية: الصكوك الصادرة على أساس عقد بيع أصلٍ أو عينٍ موجودةٍ عند الإصدار مؤجرةٍ أو قابلةٍ للتأجير، والمقصود هنا الإجارة التمويلية المنتهية بالتمليك، حيث يتملَّك فيها المستأجرُ هذه العين في نهاية مدة الإجارة إذا وفَّى بجميع التزاماته المترتبة على عقد الإيجار.
وقد اختلف فقهاء العصر في هذه المسألة. أي: تأجير العين لبائعها إجارة منتهية بالتمليك، بأن تعود العين في نهاية مدتها إلى بائعها، فذهب فريق إلى منعها؛ للعينة(1)، ولأنه يدخل في بيع الوفاء(2) الممنوع.
وذهب فريقٌ آخرُ إلى أن هذه المعاملة صحيحةٌ شرعًا إذا ما توافرت فيها شروط كل من البيع والإجارة وترتَّبت عليها آثارها الشرعية، مما يؤكد أن كلًّا من البيع والإجارة حقيقيٌّ لا صوريةَ فيه، ويرون أيضا أن هذه المعاملة لا تخرج عن مقاصد الشريعة العامة إذا ما أُحسِن تطبيقها، وترتَّبت على هذا البيع والإجارة الأحكامُ التي رتَّبها الشارع عليها، أمّا إذا لم تترتب هذه الأحكام كانت المعاملة حيلةً باطلةً، قُصِد منها تقديم عمل جائزٍ في الظاهر يُقصَد التوسُّل به إلى ما لا يجوز.
وأعتقد أن الأمر على غير ذلك لما يأتي:
- إن التعويل على المقاصد الشرعية العامة في تصحيح المعاملة، وبيان أن ظاهر المعاملة كامل الأركان والشروط وبعيد عن العينة غير ملائم، ولا يسعف صاحبه في الاستدلال لذلك؛ لأن الضوابط التي وضعها العلماء لاعتبار المقاصد العامة تجعل من الصعب أن تختلف أنظار المجتهدين في الوصول إليها، وفي تشخيصها أو الاختلاف في اعتبارها في أي نازلة كانت، وبالتالي يكون من العسير أن يدعي ثلة من المجتهدين الاعتماد على المقاصد العامة في حكم نازلة ما ولا يراها غيرهم من المجتهدين في نفس النازلة، وببيان تلك الضوابط تتضح عندك المسألة بما لا يدع لديك مجالًا للشك فيما قلناه وهذه الضوابط هي:
- الظهور: أن يكون المقصد واضحًا لا تختلف أنظار المجتهدين في الاتجاه إليه وتشخيصه بعيدًا عن كل التباس أو مشابهة، وذلك مثل اتفاقهم على أن تشريع القصاص لحفظ النفوس، وتشريع قطع يد السارق لحفظ الأموال، وكذلك تشريع النكاح بمواصفاتٍ معيّنةٍ وشروطٍ محدودةٍ لحفظ النسب، وحتى لا يختلط هذا، بمعنى الحفظ الحاصل بالمخادنة(3) والإلاطة(4).
- الثبوت: يقول الإمام ابن عاشور في هذا الضابط: «أن تكون تلك المعاني مجزومًا بتحقُّقها، أو مظنونًا ظنًّا قريبًا من الجزم»(5). ومعنى كلامه أن المقاصد يجب تأكُّد حصولها من تلك الأحكام المناسبة لها، ولا يُقبَل تخلفها عن مناسباتها إلا لضرورة أو حائل شرعي؛ لأن كثرة التخلف تجعل المقصد بعيدًا عن صفة الثبات، وبالتالي لا يمكن الجزم به ولا بناء الأحكام عليه.
فالمقصد من تشريع القصاص في قتل الأنفس والجروح ثابتٌ كلما جاءت مناسبته، وذلك بشهادة قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179]، وهذا يعني أننا عندما نلتزم بتطبيق هذا الحكم، عند حدوث ما يستدعيه، نحصل على المقصد الثابت في ذلك، وهو حفظ مُهَج الناس من الضياع وأجزاء أجسادهم من التلف. - الانضباط: فللمقصد الشرعي حدٌّ معتبر وقدرٌ معيَّن، لا يتجاوزه فيؤدي إلى وقوع الحرج المرفوع شرعًا ونفور البشر من التشريع، ولا يقصر عنه فيؤدي إلى ضعف الوازع الديني في النفوس وفقدان الشريعة لهيبتها وسلطانها على الخلق، وإنما يجب التزام حد صالح لأن يُعدّ مقصدًا شرعيًّا يُراعى فيه قدرة المكلفين وطاقتهم، ويحقِّق للشريعة هيبتها، ويمكِّن سلطانها، فالشريعة حرَّمت كلَّ مُسكِرٍ حفاظًا على العقل البشري من الانحراف في تصرفاته، وحرَّمت منه القليل، وأقامت الحدَّ والتعزير على متعاطيها، تمكينًا لسلطانها وهيبتها، وتحقيق نفوذها، وأجازت استعماله إذا تخلَّل(6) وزالت عنه صفة الإسكار لرعاية جانب المكلفين برفع الحرج عنهم، وتحقيق التوسعة عليهم.
- الاطِّراد: هذا الضابط سأكتفى به بنقل ما كتبه الشيخ ابن عاشور، فإن فيه الغنية عن المزيد والتوضيح. ومعناه كما ذكره رحمه الله: “أن لا يكون المعنى مختلفًا باختلاف أحوال الأقطار والقبائل والأعصار، مثل وصف الإسلام، والقدرة على الإنفاق في تحقيق مقصد السلامة للمعاشرة المسماة: «بالكفاءة» المشروطة في النكاح في قول مالك وجماعة من الفقهاء، بخلاف التماثل في الإثراء والقبيلة”(7).
إن استعمال هذه الضوابط في تحقيق «المقاصد الشرعية» يجعلنا في حيطة من الوقوع في الأوهام والتخيُّلات، التي قد تفضي بنا إلى مقاصد لا اعتبار لها في الشريعة الإسلامية.
- إن العينة لم تحرَّم لذاتها وإنما لكونها ذريعة وحيلةً على الربا، ولذلك فإنه إذا وجد في عقد من العقود ما حُرِّمَت العينة من أجله فإنه يحرم، وعليه فإن قيل إن هذه الشروط قد انتفت، فإن هذه الصيغة من صكوك الإجارة صيغةٌ ظاهرةٌ في كونها ذريعةً للربا وعليه فإنها تحرم.
- ومما يقوله المجيزون لهذه العملية: إن حملة الصكوك يتحمَّلون مخاطر الأصل المصكَّك أثناء سريان مدة الإجارة – باعتباره مُؤجِّرًا – فلو هلكت العين أو تلفت انفسخ عقد الإجارة؛ وتبعًا لذلك فلن يضمن الـمُصدِر رأس مال حملة الصكوك؛ وبذلك يظهر الفرق بين هذه الصورة وبين بيوع العِينَة.
وإن هذا الكلام غير دقيق في كثير من هياكل هذا النوع من أنواع الصكوك؛ لأن المتأمِّل في نشرات إصدار هذه الصكوك يجد أن الكثير منها ينص على أن الـمُصدر يلتزم – أو يتعهد أو يَعِدُ وعداً مُلْزِماً – بشراء أصل الصكوك بقيمته الاسمية عند انتهاء مدة الصكوك (الإطفاء)، أو عند وقوع أي من الحالات الطارئة، ويذكرون منها في العادة هلاك العين، أو تلفها ونحو ذلك، مما هو في حقيقته ضمان لرأس مال حملة الصكوك في حال انتهاء مدة الصكوك أو قبله. - ويقول المجيزون في دفع شبهة العينة عن هذه المعاملة، إنه يتم الفصل بين البيعة الأولى والبيعة الثانية بعقد أجنبي طويل الأمد – خمس أو عشر سنوات – وعليه فإنه ينتفي به وصف العينة عن صكوك الإجارة المنتهية بالتمليك.
إن هذا أمر غير مؤثِّر في العملية، ولا ينفي الحيلة الربوية في هذه الصيغة من صيغ صكوك الإجارة؛ وذلك؛ لأن العوض الثاني محدَّد مسبقًا، والزيادة – الأجرة – محددةٌ سلفًا مع تعهُّدٍ وضمانٍ كاملٍ من الـمُصدر باستمرار الإجارة، ثم الشراء بالحالة التي تكون العين عليها، وبالثمن المعلوم المحدد سلفًا.
(1) بيع يحتال به على الربا، له صور مختلفة ومثاله: أن يأتي الرجل رجلًا ليستقرضه فلا يرغب المقرض في الإقراض طمعًا في الفضل الذي لا ينال بالقرض، فيقول: أبيعك هذا الثوب باثني عشر درهمًا إلى أجل، ويشتريه منه بعشرة، فيكون قد دفع عشرة وانتظر من ورائها اثني عشر، ويسمى: عينة؛ لأن المقرض أعرض عن القرض إلى بيع العين. المحرر، ينظر: التعريفات، للجرجاني (ص: 160).
(2) بيع الوفاء هو أن يقول البائع للمشتري: بعت منك هذه العين بما لَكَ عليَّ من الدَّيْن، على أني متى قضيتُ الدَّيْن فهو لي. المحرر، ينظر: التعريفات (ص: 48).
(3) المخادنة هي المصادقة بين رجل وامرأة فيعيشان معا كأزواج إلا أنه بغير عقد شرعي. المحرر، ينظر: المفردات في غريب القرآن (ص: 277).
(4) الإلاطة: الإلصاق أو الإلحاق، ومنه حديث عمر «أنه كان يليط أولاد الجاهلية بآبائهم» وفي رواية «بمن ادعاهم في الإسلام» أي يلحقهم بهم، من ألاطه يليطه، إذا ألصقه به. المحرر، ينظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير (4/ 285) مادة (ل، ي، ط).
(5) مقاصد الشريعة الإسلامية (3/ 166).
(6) أي: إذا صار خلًّا.
(7) مقاصد الشريعة الإسلامية (3/ 167).