قاعدة ما حُرِّم سدًّا للذريعة أُبيح للمصلحة الراجحة، وآثارها في العقود المالية

بقلم الدكتور/ عبد الناصر حمدان بيومي

تناولنا في المقال السابق المفاهيم الأساسية لقاعدة التحريم سدًّا للذريعة، ونصها والمقصود بها، ونبين في هذا المقال أهم تطبيقات القاعدة في العقود المالية.

ثالثًا: أهم تطبيقات القاعدة في العقود المالية:

  1. مشروعية بيع العرايا(1) مع ما فيه من ربا الفضل؛ تقديمًا للمصلحة الحاجية، “فأبيحت العرايا من ربا الفضل… وتحريم التفاضل إنما كان سدًا للذريعة، فهذا محض القياس ومقتضى أصول الشرع، ولا تتم مصلحة الناس إلا به.(2)
    وفي الحديث عن سَهْل بْنَ أَبِي حَثْمَةَ: «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ، وَرَخَّصَ فِي الْعَرِيَّةِ أَنْ تُبَاعَ بِخَرْصِهَا، يَأْكُلُهَا أَهْلُهَا رُطَبًا».(3)
    والحاصل أن الشارع أباح بيع العرايا؛ لمصلحة حاجية محققة، وهي أعظم من مفسدة ربا الفضل الملازم للعرايا؛ من جهة عدم تحقق المساواة التامة بين الرطب والتمر، ومعلوم أن النهي عن ربا الفضل ليس مقصودًا لذاته، بل سدًّا للذريعة إلى ربا النسيئة، فلما تعارضت المصلحة الحاجية المحققة مع الوسيلة المحرمة لغيرها قدمت المصلحة الحاجية، فأبيحت العرايا.
  2. جواز التفاضل بين الحلية المصوغة وغيرها، قال ابن القيم: “وكذلك ينبغي أن يباح بيع الحلية المصوغة صياغة مباحة بأكثر من وزنها؛ لأن الحاجة تدعو إلى ذلك، وتحريم التفاضل إنما كان سدًّا للذريعة؛ فهذا محض القياس ومقتضى أصول الشرع، ولا تتم مصلحة الناس إلا به”.(4)
    فالحلية المصوغة من الذهب صياغة مباحة كحلية النساء، يجوز بيعها بنقد من الذهب أكثر من وزنها؛ لأن حرمة التفاضل في الجنس الواحد هو من باب سدِّ الذريعة، وما حُرِّم سدًّا للذريعة يباح للمصلحة الراجحة.
  3. إعطاء الرشوة للمرتشي محرم تحريم ذرائع؛ لأنه من الإعانة على المعصية والظلم، والتعاون على الإثم والعدوان، غير أنها إذا تعيّنت لدفع الظلم أو الضرر عن النفس، أو الوصول للحق الذي لا يقدر على الوصول إليه إلا بالرشوة؛ فإنه يجوز دفعها للحاجة والمصلحة الراجحة، ويكون الإثم على المرتشي(5)، قال السمرقندي: لا بأس أن يدفع الرجل عن نفسه وماله بالرشوة، وقال عبد الله بن مسعود: إنما الإثم على القابض دون الدافع(6)، ولأن ما حُرِّم سدًّا للذريعة يباح للمصلحة الراجحة.
  4. استثمار وإيداع النقود في البنوك والمؤسسات المالية الربوية محرم تحريم مقاصد، لما ورد من نصوص قطعية على حرمة الربا، لكن إذا خاف على ماله من الضياع، بسرقة أو غصب، ولم يتمكن من حفظها إلا بإيداعها في بنك ربوي، فيباح له في ذلك؛ لأن الضرورات تبيح المحظورات، كما أن حفظ المال من المقاصد الشرعية الكلية المعتبرة، فتقدم مصلحة حفظه من السرقة والضياع على مفسدة التعامل مع المؤسسات الربوية عند الاضطرار، ويضع فوائدها في المصالح العامة.
  5. بيع الطعام المسلَم فيه قبل قبضه محرم تحريم ذرائع؛ لأن المسلَم فيه مبيع، ولا يجوز بيع المبيع قبل القبض؛ لحديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “مَنْ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ. زَادَ إِسْمَاعِيلُ: مَنْ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يَقْبِضَهُ”(7)، والمقصود من منع البيع قبل القبض: أنه قد يتخذ ذريعة للتوصل إلى ربا النساء، فهو شبيه ببيع الطعام بالطعام نسيئة، فيحرم سدًّا للذرائع.(8)
  6. من صور بيوع الآجال أو العينة المحرمة سدًّا للذريعة: أن يبيع شخص لآخر سلعة بمئة إلى أجل، ثم يشتريها منه نقدًا بخمسين، فقد نص كثير من الأئمة على منعها؛ لأن البائع خرج من يده خمسون جنيهًا، وأخذ عند حلول الأجل مئة، والسلعة قد جعلت ذريعة للربا، وجعل هؤلاء الأئمة علة المنع من العقد كثرة قصد الناس منه الوصول إلى الربا، وجعلوا المنع حكمًا مطردًا، من غير نظر إلى من يقصد الربا ومن لا يقصده؛ لأن علة الحكم يكفي فيها أن تكون مظنونة، ولا يشترط فيها أن تكون محققة.(9)
    وقال مالك بمنعها لتذرّع الناس بها كثيرًا إلى إحلال معاملات الربا التي هي مفسدة. فإن الاعتداد بالتهمة عند مالك قائم فيها، إذ ليس لقصد الناس تأثير في التشريع، لولا أن ذلك إذا فشا صار القصد مآلَ الفعل. وهو مقصود الناس فاستحلّوا به ما حرّم عليهم. ومن دقائق الفهوم ما اتجه إليه نظر إمام دار الهجرة: إذا كان المنع منها لأجل التهمة كان حقًّا ألّا يُمنع ما صدر منها عن أهل الدين.(10)
  7. ذهب جماعة من الفقهاء إلى حرمة قبول المقرض هدية المقترض، وهو تحريم وسائل؛ لئلا يكون ذريعة إلى أكل الربا، ومن هذا الباب أجازها آخرون إذا كانت لمصلحة راجحة؛ كأن يكون بينهما عادة بها قبل القرض؛ وذلك تفريعًا على القاعدة(11)، وقال ابن تيمية: فنهى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه المقرض عن قبول هدية المقترض قبل الوفاء؛ لأن المقصود بالهدية أن يؤخر الاقتضاء، وإن كان لم يشرط ذلك ولم يتكلم به؛ فيصير بمنزلة أن يأخذ الألف بهدية ناجزة وألف مؤخرة وهذا ربا. ولهذا جاز أن يزيد عند الوفاء ويهدي له بعد ذلك لزوال معنى الربا.(12)
    وروي عن ابن سيرين أن عمر أسلف أُبيَّ بن كعب عشرة آلاف درهم، فأهدى إليه أبيُّ بن كعب من ثمرة أرضه، فردَّها عليه ولم يقبلها، فأتاه أُبي فقال: لقد علم أهل المدينة أني من أطيبهم ثمرة، وأنه لا حاجة لنا، فبِمَ منعتَ هديتنا؟ ثم أهدى إليه بعد ذلك فقبل. فردّه عمر لما توهَّم أن يكون بسبب القرض، فلما تيقَّن أنه ليس بسبب القرض قبله. وهذا فصل النزاع في مسألة هدية المقترض.(13)
  8. حرمة بيع السلاح في زمن الفتنة من تحريم المقاصد، وأما بيع عصير العنب ممن يتخذه خمرًا، وبيع الحرير والحلي من الرجال فمن تحريم الوسائل، “فلا بأس ببيع العصير من كل أحد: خاف البائع أن يتخذه المشتري خمرًا، أو أمن ذلك. وذلك لأن العصير مباح جائز التصرف فيه، وإنما المأثم على من يتخذه خمرًا لشربها، فأما البائع فلا شيء عليه في ذلك، كبيع الحرير والحلي من الرجال: فهو جائز مباح وإن لم يأمن أن يلبسه الرجل، أو يستعمله فيما لا يجوز. فإن قيل: فقد كرهتم بيع السلاح في الفتنة، وفي عساكر الفتنة، فهلا كان كذلك بيع العصير ممن يتخذه خمرًا؟ قيل له: الفصل بينهما: أن السلاح على هيئته هذه يستعان به على القتال، فإذا كان زمان الفتنة: كره بيعه ممن يستعين به عليها، كما يكره إعطاء صاحب الفتنة من الخوارج وأهل الحرب، وأما العصير فلا بأس بالانتفاع به على هيئته كيف شاء صاحبه، وإنما المحظور منه بعد استحالته خمرًا، وليست هي المعقود عليها في الحال.
    فإن قيل: فينبغي أن يكره بيع الحرير والحلي من الرجال؛ لأنهما على هيئتهما ينتفع بهما في الجهة المحظورة. قيل له: لم نقل إن بيع السلاح مكروه، لأجل إمكان الانتفاع به على هذه الهيئة في الوجه المحظور، دون أن تكون الحال دالة عليه، وهو إن يكون في عسكر الفتنة، أو زمان الفتنة مع ما وصفنا من حاله. وأما الحرير والحلي، فليس لهما حال ظاهرة يمنع ببيعهما وإن كان الانتفاع بهما ممكنًا على الوجه المحظور، وبيع العصير يشبه من هذه الجهة بيع الحرير والحلي من الرجال، إذ ليست ها هنا حال ظاهرة يقتضي أن يكون شراء العصير لأن يتخذ خمرًا، فوجب أن لا يمنع بيعه.(14)
  9. الأصل عدم جواز استثمار جزء من الريع إذا أَطلق الواقف، ولم يشترط استثماره إلا بموافقة المستحقين في الوقف الذُّري. أما في الوقف الخيري: فيجوز استثمار جزء من ريعه في تنمية الأصل للمصلحة الراجحة، وذلك بضوابطه الشرعية.(15)
  10. بيع الإنسان ما لا يملك من السلع محرم سدًّا للذرائع، فقد اتفق العلماء على أن بيع الإنسان ما لا يملك لا يجوز، إما لأنه معدوم عند أكثرهم، أو غرر عند بعضهم، كما اتفق العلماء على بطلان بيع معجوز التسليم، وعدم صحة بيع الغرر، سواء كان الغرر في المبيع أم في الثمن(16)، وتحريمها سدًّا للذريعة إلى الغرر وأكل أموال الناس بالباطل، فقد تتلف أو تهلك السلعة ولا يقدر على تسليمها، ففيه غرر انفساخ العقد بهلاك المعقود عليه. ومثله البيع على المكشوف في بُرصة العقود، فقد اتفق العلماء على عدم جواز بيع الشيء قبل قبضة من مالك آخر؛ لعموم النهي عن بيع ما لم يقبض؛ لحديث عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرٍو، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَحِلُّ سَلَفٌ وَبَيْعٌ، وَلَا شَرْطَانِ فِي بَيْعٍ، ‌وَلَا ‌رِبْحُ ‌مَا ‌لَمْ ‌يُضْمَنْ، وَلَا بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ»(17)، ومعنى ما لم يضمن: ما لم يقبض؛ لأن السلعة قبل قبضها ليست في ضمان المشتري، وإذا تلفت فضمانها من مال البائع، ولعدم القدرة على التسليم، ولأن ملكه غير مستقر؛ لأنه ربما هلك فانفسخ العقد، وفيه غرر من غير حاجة فلم يجز.(18)

هذه بعض تطبيقات القاعدة في العقود المالية، ولها العديد من التطبيقات في هذا الباب، وفي جل أبواب الشريعة؛ مما يكشف عن أهمية القاعدة، وضرورة أن يضعها المجتهد في الشريعة عامة، وفي باب المعاملات المالية خاصة، نصب عينيه؛ ليضع كل عقد منها في موضعه الصحيح من جهة الذرائع والمقاصد والمحرمات تحريم وسائل ومقاصد؛ فيصدر الحكم الصحيح بناءً على معطيات صحيحة واضحة.

(1) بيع العرايا: أن من لا نخل له من ذوي الحاجة يُدرك الرطبَ، ولا نقد بيده يشتري به الرطب لعياله، ولا نخل له يطعمهم منه، ويكون قد فضل له من قوته تمر، فيجئ إلى صاحب النخل فيقول: بعني ثمر نخلة أو نخلتين بخرصها من الثمر، فيعطيه ذلك الفاضل من التمر بثمر تلك النخلات؛ ليصيب من رطبها مع الناس، فرخص فيه إذا كان دون خمسة أوسق. مسند الإمام الشافعي: 2/150.
(2) انظر: إعلام الموقعين: 2/108-109.
(3) أخرجه البخاري: 3/76 (2191) كتاب البيوع، بَابُ بَيْعِ الثَّمَرِ عَلَى رُؤُوسِ النَّخْلِ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ.
(4) إعلام الموقعين: 2/109.
(5) انظر: حاشية ابن عابدين: 4/304، الموافقات، للشاطبي: 2/352، نهاية المحتاج: 8/243، كشاف القناع: 6/316.
(6) بحر العلوم، لأبي الليث نصر بن محمد السمرقندي، ت: ٣٧٣هـ: 1/391.
(7) أخرجه البخاري: 5/344 (2136) كتاب البيوع، بَاب بَيْعِ الطَّعَامِ قَبْلَ أَنْ يُقْبَضَ وَبَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ.
(8) المنتقى على الموطأ، للباجي: 4/279، بداية المجتهد ونهاية المقتصد، لابن رشد: 3/1193، 1196.
(9) موسوعة الأعمال الكاملة، لمحمد الخضر حسين، ت: 1377هـ، ت: علي الرضا الحسيني، ط1 دار النوادر-سوريا 1431هـ/2010م: 2/2/34-35.
(10) مقاصد الشريعة الإسلامية، لابن عاشور: 2/307.
(11) انظر: فتح القدير، للكمال ابن الهمام: 3/177، الشرح الكبير، للدردير: 3/224، إعانة الطالبين، للبكري الشافعي: 3/65، عمدة الفقه، لابن قدامة: 57.
(12) الفتاوى الكبرى: 6/160.
(13) تهذيب سنن أبي داود، لابن القيم: 2/521.
(14) شرح مختصر الطحاوي، للجصاص: 6/391.
(15) قرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي رقم 140 (6/15) بشأن الاستثمار في الوقف وفي غلاته وريعه.
(16) انظر: المجموع، للنووي: 9/280، قواعد الأحكام، للعز بن عبد السلام: 2/76، نيل الأوطار، للشوكاني: 5/148.
(17) أخرجه أحمد: 11/253 (6671) وصححه أحمد شاكر.
(18) انظر: المهذب، للشيرازي: 1/264، مغني المحتاج، للخطيب الشربيني: 2/68.

Comments are disabled.