أثر مقصد العدالة في التصرفات المالية

بقلم الأستاذ الدكتور/ عزُّ الدِّين بن زغيبة
أستاذ الفقه والأصول والمقاصد
ورئيس هيئة الرقابة والفتوى في عدد من المصارف الإسلامية

1. الشريعة مبناها على العدل التام:

إن الشريعة التي جاءت عدلًا كلها ورحمةً كلها لا يمكن بحال أن تكون أحكامها مؤسسةً على غير العدل، والمساواة، وتوازن الحقوق والواجبات؛ فما من أصلٍ من أصولِها إلا والعدلُ مرجعُه، وما من فرع من فروعها إلا وهو آخذٌ منه بطرفٍ، والعدلُ أمُّ مقاصدِها ومصدرُ تفرُّدها وتميُّزها، فلا يُعطى بها حقٌّ لغير مستحقِّه، ولا يؤخذ من يد صاحبه إلا بحقه*.

2. العدالة في جمع الزكاة وتوزيعها:

وقد عَمِل الفقهاء على رعاية هذه المعاني السامية فيما استنبطوه من أحكام من عمومات نصوصها ومبادئها وكليات مقاصدها. فقد ذكر ابن شاس في باب الزكاة أن الوالي إذا كان يعدل في الأخذ والصرف؛ لم يسعَ المالك أن يتولى الصرف بنفسه في الناضِّ(1) ولا في غير ذلك، بل يرفع زكاة الناضِّ إلى الإمام. وأما زكاة الحرث والماشية فيبعث الإمام في ذلك(2).
وذكر الماوردي أن العامل على الزكاة إذا كان جائراً في أخذها، عادلاً في قسمتها؛ جاز كتمها وأجزأ دفعها إليه. وإذا كان عادلاً في أخذها، جائراً في قسمتها؛ وجب كتمانها منه ولم يجز دفعها إليه. فإن أخذها طوعاً أو جبراً لم يُجزِهم ذلك عن حق الله تعالى في أموالهم، ولزمهم إخراجها بأنفسهم إلى مستحقيها(3). وقال مالك: يُجزئُهم ذلك ولا يلزمهم إعادتها(4).

3. العدالة في توسيط النقود:

ويرجع عدم التشجيع على المقايضة إلى تعذُّر إمكانية معرفة المرء للمعادل الصحيح لسلعة معينة بمقياس سائر السلع الأخرى. وحتى الخبراء أنفسهم لا يمكنهم أن يحسبوا المعادِلات بين السلع إلا على وجه التقريب، مما يؤدِّي إلى إلحاق الظلم بأحد طرفي الصفقة؛ ولهذا فإن استخدام النقود هو أفضل وسيلة لتفادي المبادلات غير المتعادلة والمتكافئة(5).

4. العدالة في المشاركات:

وقد علل ابن تيمية رحمه الله النهي عن المزارعة الوارد في حديث رافع ابن خديج(6) بقوله: “وَاَلَّذِي نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمُخَابَرَةِ وَكِرَاءِ الْأَرْضِ قَدْ جَاءَ مُفَسَّرًا بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَشْتَرِطُونَ لِرَبِّ الْأَرْضِ زَرْعَ بُقْعَةٍ مُعَيَّنَةٍ وَمِثْلُ هَذَا الشَّرْطِ بَاطِلٌ بِالنَّصِّ وَإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ كَمَا لَوْ شَرَطَ فِي الْمُضَارَبَةِ لِرَبِّ الْمَالِ دَرَاهِمَ مُعَيَّنَةً، فَإِنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّ الْمُعَامَلَةَ مَبْنَاهَا عَلَى الْعَدْلِ وَهَذِهِ الْمُعَامَلَاتُ مِنْ جِنْسِ الْمُشَارَكَاتِ؛ وَالْمُشَارَكَةُ إنَّمَا تَكُونُ إذَا كَانَ لِكُلِّ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ جُزْءٌ شَائِعٌ كَالثُّلُثِ وَالنِّصْفِ فَإِذَا جُعِلَ لِأَحَدِهِمَا شَيْءٌ مُقَدَّرٌ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَدْلًا؛ بَلْ كَانَ ظُلْمًا”(7).
ونقل ابن المنذر إجماع أهل العلم على أن الشركة الصحيحة أن يخرج كل واحد من الشريكين مالاً مثل صاحبه دنانير أو دراهم ثم يخلطان ذلك حتى يصيران مالاً واحداً لا يتميز، على أن يبيعا ويشتريا ما رأيا من أنواع التجارات على أن ما كان فيه من فضل وربح فلهما، وما كان من نقصان فعليهما، فإذا فعلا ذلك صحت الشركة(8).
واعتباراً لمعنى العدل منع الشافعي الشركة في العروض؛ لاختلاف القيمة فيهاً وأجازها في الدنانير والدراهم؛ لانضباط قيمتها وإمكانية تحقُّق العدل فيها.
وعلق ابن المنذر على مذهب الشافعي هذا فقال: (وإنما كره من كره الشركة بالعروض لاختلاف القيمة، فإذا كان سواء من جنس واحد وسعر واحد فهو في معنى الدنانير والدراهم لا فرق بينهما) (9).
واعتماداً على مقصد العدالة الذي حرصت الشريعة على إقامته في كل شيء عموماً، وفي كل الأموال خصوصاً؛ حكم الفقهاء بفساد العقود التي تقترن بها شروط تفضي إلى الإخلال بمقصد العدالة فيها، وبناء على هذا جُعِل من الشروط المفسدة لعقد الوقف تخصيص البنين به دون البنات.

5. العدالة في شروط الواقفين:

وذكر ابن عبد الرفيع أن إخراج البنات من الحبس أشد عند الإمام مالك في الكراهية من هبة الرجل لبعض ولده(10)؛ لقوله عز وجل: ” وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَٰذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا ” {الأنعام: 139}.

6. العدالة في تقدير الغرامات:

ولقد اقتفى الفقهاء أثر الشريعة في رعاية مقصد العدل، فأخذوا به في فتاويهم ونوازلهم وجعلوه مستنداً لأحكامهم فيها. فقد ذكر ابن نجيم أن الغرامات إذا كانت لحفظ الأملاك؛ فالقسمة على قدر الملك. وإن كانت لحفظ الأنفس؛ فهي على عدد الرؤوس(11).
وهذا ما يقتضيه العدل؛ لأن الغُرْم إذا كان لحفظ الأملاك فالأملاك غير متساوية؛ فمنها الكبير والصغير، ومنها الثمين وغيره، فتغريم أصحابها بالقدر نفس فيه ظلم لهم. وإنما يكون الغرم على قدر الملك وقيمته. أما إذا كان لحفظ الأنفس فالأنفس عند الله متساوية. لا فضل لشخص على شخص إلا بالتقوى، ومن ثم كان الغرم على عدد الرؤوس بالتساوي، وهذا هو العدل المطلوب شرعاً.
وقد نقل الماوردي عن بعض العلماء قولهم: (الْخراج عَمُود الْملك وَمَا استغزر المَال بِمثل الْعدْل، وَمَا استنزر بِمثل الْجور) (12).

7. العدالة في توزيع المال العام:

يتأسس إنفاق المال العام على أساس العدالة، والعدل فيه ليس هو التسوية بين الرعية في مقدار الأموال الذي يصل على أيديهم، وإنما العدل هو التسوية في دفع ضروراتهم وحاجاتهم؛ لأن دفع الضرورات والحاجات هو المقصود الأعظم في النفقات وغيرها من أموال المصالح.
فيُقدَّم ذوو الضرورات على ذوى الحاجات، ويُقدَّم ذوو الحاجات الماسة على من دونهم من الحاجات. لكن إذا تساوى ذوو الحاجات في حاجتهم فليس للإمام التفضيل بينهم في المال العام، قال السيوطي: (إذا قسم الإمام الزكاة على الأصناف يَحرُم عليه التفضيل مع تساوي الحاجات) (13).

*سائر ما في هذا المقال من تعليقات وتوثيق هو من قبل لجنة التحرير والمراجعة بمنتدى البركة.
(1) النَّاضُّ من الأموال هو: الصامتُ، وهو غيرُ الحيوان؛ كالدرهم والدينار، والناطقُ الحيوانُ، ينظر: التعريفات الفقهية، محمد عميم البركتي (ص: 224).
(2) عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة، لابن شاس (1/ 248).
(3) الأحكام السلطانية للماوردي (ص: 194).
(4) عقد الجواهر الثمينة (1/ 248) ومواهب الجليل في شرح مختصر خليل، للحطاب الرعيني (2/ 360).
(5) للتوسع عن معرفة صعوبات المقايضة ينظر: إحياء علوم الدين، أبو حامد الغزالي (4/ 91)، ومقدمة في النقود والبنوك، محمد زكي شافعي (ص: 11) ومقدمة في النقود والبنوك مع عرض تحليلي للرؤية الإسلامية، رضا عبد السلام (ص: 57).
(6) أخرجه مسلم، كتاب البيوع، باب كراء الأرض بالطعام (3/ 1181) حديث (1548).
(7) مجموع الفتاوى، لابن تيمية (28/ 84)، والحسبة في الإسلام، أو وظيفة الحكومة الإسلامية (ص: 27).
(8) الإجماع لابن المنذر (ص: 100).
(9) الإشراف على مذاهب العلماء لابن المنذر (6/ 176).
(10) ينظر: شرح مختصر خليل للخرشي (7/ 82).
(11) الأشباه والنظائر لابن نجيم (ص: 240).
(12) تسهيل النظر وتعجيل الظفر في أخلاق الملك، للماوردي (ص: 186).
(13) الأشباه والنظائر للسيوطي (ص: 121).

Comments are disabled.