مكانة مقصد حفظ المال من حفظ النفس والنسل في الاقتصاد الإسلامي
بقلم الأستاذ الدكتور/ عزُّ الدِّين بن زغيبة
أستاذ الفقه والأصول والمقاصد
ورئيس هيئة الرقابة والفتوى في عدد من المصارف الإسلامية
1. قيمة المال ومنزلته في الإسلام
إن المال ضروريٌّ من ضرورات الحياة لا غنى لأي كائن عنه في إقامة حياته، وإصلاح معاشه، وقضاء حاجته، ومن ثم جاء اهتمام القرآن والسنة به اهتماماً خاصاً، فقد ذكر في القرآن نحو خمس وسبعين مرة مفرداً، وجمعاً، ومعرَّفاً، ومنكراً، ومضافاً، ومنقطعاً عن الإضافة.
والملاحظ أن أغلب النصوص الشرعية التي ذُكِر فيها المال، أتى فيها المال إما مقرونًا بالأنفس أو بالأولاد، مما يبين أن مكانته تضاهي مكانتهما في الشريعة.
ويرى عبدالكريم الخطيب أن المتتبِّع لجميع الآيات التي جمعت بين المال والنفس، أو المال والولد؛ يجد أنه قد قُدِّم المال فيها ماعدا آية واحدة قُدِّمت فيها النفس على المال، وهي في قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة: 111]
ويستخلص من هذا الاستقراء أن في تقديم المال على الولد والنفس إلفاتاً صريحاً إلى أن المال في منزلة فوق منزلة النفس والولد؛ لأنه لابد من قصد في هذا التقديم الذي وقع في جميع الآيات عدا آية واحدة، ولا بد من معنى يراد من ذلك التقديم وهو التفضيل؛ وإلا لما التزمت الآيات هذا الالتزام الذي يكاد يكون إصراراً.
ويمضي مستطرداً في التدليل على صحة رأيه فيقول: (فإن الآية التي قُدِّمت فيها النفس وأُخِّر المال إنما هي شاهد آخر على أن المال مقدم على النفس أيضاً، فالآية إنما تعرض المال والنفس في معرض البذل في سبيل الله .. إذاً، هناك بذل وتضحية وقد قُدِّمت النفس أولا ثم جاء المال ثانيا، والمعلوم أن المرء في مجال التضحية يجعل آخر ما يقدِّم أعزَّ شيء عنده)(1).
أما فيما يتعلق بقول النحويين: إن الواو لا تفيد ترتيباً ولا تعقيباً، وأن ذكر المال أولًا لا يعني أنه مقدم على النفس والولد؛ فيرى أن هذه مسألة لا يجب الوقوف عندها كثيرا.
2. نقد موضوعي لتقديم مقصد حفظ المال على النفس والولد
والذي يبدو لي أن الكلام فيه نظر من وجوه:
- أ. لقد اتفقت كلمة العلماء في مجال المقاصد الشرعية على تقديم حفظ كلِّيِّ النفس وكلي النسل على حفظ المال، وقد تواتر سير الأمة على هذا الترتيب للكليات الضرورية، من عصر الغزالي الذي يعتبر واضعها ومحددها إلى يوم الناس هذا.
- ب. إن المال خُلِق لمصالح الآدمي ومنافعه؛ حتى يكون مرفَّهاً ومنعَّماً في هذا الوجود، قادراً على القيام بوظائف التكاليف وأعباء العبادات، وما كان هذا سببَ وجوده؛ لا يمكن أن يكون أفضل من نفس الإنسان ولا من نسله، وأعنى به الولد؛ لأن حفظ نسله راجع إلى حفظ نفسه.
قال الآمدي: (أَمَّا بِالنَّظَرِ إِلَى حِفْظِ النَّسَبِ؛ فَلِأَنَّ حِفْظَ النَّسَبِ إِنَّمَا كَانَ مَقْصُودًا لِأَجْلِ حِفْظِ الْوَلَدِ حَتَّى لَا يَبْقَى ضَائِعًا لَا مُرَبِّيَ لَهُ، فَلَمْ يَكُنْ مَطْلُوبًا لِعَيْنِهِ، بَلْ لِإِفْضَائِهِ إِلَى النَّفْسِ، وَأَمَّا بِالنَّظَرِ إِلَى الْمَالِ، فَلِهَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا فَإِنَّهُ فَلَمْ يَكُنْ بَقَاؤُهُ مَطْلُوبًا لِعَيْنِهِ وَذَاتِهِ، بَلْ لِأَجْلِ بَقَاءِ النَّفْسِ مُرَفَّهَةً مُنَعَّمَةً حَتَّى تَأْتِيَ بِوَظَائِفِ التَّكَالِيفِ وَأَعْبَاءِ الْعِبَادَاتِ)(2). - ج. إن ما يؤكِّد تفضيل النفس على المال هو أنه لو قَتَل إنسان شخصاً متعمِّداً، فاستحقَّ بذلك القصاص، فتنازل ولي الدَّم عن حقه في القصاص مقابل الدية فأبى القاتل دفع الدية؛ فإنه يجبر على ذلك عند الإمام مالك، قال ابن رشد: (وذهب مالكٌ إلى إكراه القاتل على دفع الدَّية مقابل العفو عن الدم؛ لأن حفظَ نفسِه مقدمٌ على حفظ ماله، ولا فائدةَ له في مالِه إذا قُتِل، فقال مالك بالنص: تُؤخَذ الدِّية منه وإن كَرِه؛ لأنه لا يَدرأُ عن ماله، إذ لا انتفاع له بمالِه إن قُتِل)(3).
- د. ومما يدل على أن الولد مفضَّل على المال، طلب الشريعة من الإنسان رعاية ولده وصيانته قبل رعاية المال وحفظه، حيث قال تعالى: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [النور: 33]، فدلَّت هذه الآية على تحريم اتخاذ الزنا وسيلة للكسب وجلب المال؛ لأن الأول يتعلق بالنسل، وحفظَه مقدَّمٌ على حفظ المال؛ فوجب تحريم هذا العمل.
- هـ. ومما يدل على أن النفوس مقدَّمة على الأموال إقرار الشريعة بأن الحدود تُدرأ بالشبهات، ما استطاع ولي الأمر إلى ذلك سبيلاً، ومن جملة الحدود حدُّ السرقة الذي شُرِع لحفظ المال فدرؤه عن السارق لأدنى شبهة دليلٌ على تقديم حفظ نفسه على حفظ المال المتهم بسرقته.
قال ابن فرحون: (وَإِذَا شَهِدَ الشُّهُودُ فِي السَّرِقَةِ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ مُجْمَلَةٌ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَسْأَلَ الْحَاكِمُ الشَّاهِدَيْنِ عَنْ السَّرِقَةِ مَا هِيَ؟ وَكَيْفَ أَخَذَهَا؟ وَمِنْ أَيْنَ أَخْرَجَهَا؟ ، وَإِلَى أَيْنَ أَخْرَجَهَا؟ فَإِنْ غَابَا قَبْلَ أَنْ يَسْأَلَهُمَا الْحَاكِمُ لَمْ يُقْطَعْ السَّارِقُ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ دُونَ النِّصَابِ أَوْ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ، فَإِنْ قَالَا: إنَّهَا مِمَّا يَجِبُ فِيهِ الْقَطْعُ وَغَابَا قَبْلَ أَنْ يَسْأَلَهُمَا لَمْ يُقْطَعْ إلَّا أَنْ يَكُونَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَمَذْهَبُهُمَا مَذْهَبُ الْحَاكِمِ) (4).
فهذه مرتكزات تبيِّن منزلة المال من النفس والولد، وهي تضع المال في مكانته السليمة؛ كسبب للحياة وحفظ الولد، كما تدلُّ عليه منظومة المقاصد الشرعية*.
(1) السياسة المالية في الإسلام، عبد الكريم الخطيب (ص 40).
(2) الإحكام في أصول الأحكام، للآمدي (4/ 276)
(3) انظر: مسائل أبي الوليد ابن رشد (2/ 1058).
(4) تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام، لابن فرحون (1/ 306).
* سائر ما في هذا المقال من تعليقات وتوثيق هو من قبل لجنة التحرير والمراجعة بمنتدى البركة.