مقصد رواج المال وأثره في المعاملات المالية
بقلم الأستاذ الدكتور/ عزُّ الدِّين بن زغيبة
أستاذ الفقه والأصول والمقاصد
ورئيس هيئة الرقابة والفتوى في عدد من المصارف الإسلامية
أولا: مفهوم رواج المال وأسسه الشرعية:
لا يختلف معنى الرواج والتداول في المنظور الشرعي عن معناهما اللغوي؛ لأن المقصود منهما هو دوران المال وتحرُّكه بين أيدي أكثر ما يمكن من الناس بوجه حق في شكل استهلاك واستثمار. ورواج الأموال وانتقالها بين أيدي الناس مقصدٌ شرعيٌّ عظيمٌ، دلت عليه الأوجه المختلفة للترغيب في المعاملة بالمال حيث قال تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا} [البقرة: 282]
وقد فَقِه الصحابة رضي الله عنهم والتابعين وأئمة الإسلام من بعدهم هذا المعنى من الشريعة فجعلوه أساساً لأحكامهم وتصرُّفاتهم، فقد كان عمر رضي الله عنه يسقط نصف العشر عن بعض السلع؛ حتى يكثر رواجها في أسواق المدينة، فعن عبد الله بن عمر قال: “كَانَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَأْخُذُ مِنَ النَّبَطِ، مِنَ الْحِنْطَةِ وَالزَّيْتِ، نِصْفَ الْعُشْرِ. يُرِيدُ بِذلِكَ أَنْ يَكْثُرَ الْحَمْلُ إِلَى الْمَدِينَةِ. وَيَأْخُذُ مِنَ الْقِطْنِيَّةِ الْعُشْرَ“(1).
وعن مالك أنه بلغه أن عاملاً لعمر بن عبد العزيز على أيلة كتب إليه: أن قومي يمتارون القمح منها إلى غيرها، وأنه بلغني أن أمير المؤمنين منع طعاماً أن ينتقل، فكتب إليه عمر ما ظننت أن أحداً أَبِهَ لهذا، وأن الله تعالى أحل البيع وحرم الربا، فخلِّ بين الناس وبين البيع والابتياع، قال مالك: (كان من العيب الذي يُعاب به من مضى ويرونه ظلماً عظيماً منع التَّجْر)(2).
وعلق ابن رشد على هذا قائلا: (فنقل الطعام من بلد إلى بلد للبيع جائز، وإن أضر ذلك بسعر البلد الذي ينقل منه؛ لأن المسلمين في جميع البلاد أسوة، ليس بعضهم أحق في الرفق من البعض)(3).
ثانيا: التطبيقات الفقهية لمقصد رواج المال في الشريعة الإسلامية والفقه الإسلامي
كان لمقصد الرواج أثرٌ واضح في عمل الفقهاء في استنباط الأحكام، ومن ذلك:
- ما قالوه في علة جواز المضاربة، واستثنائها من الإجارة المجهولة؛ من أن الضرورة دعت إليها لحاجة الناس إلى التصرُّف في أموالهم وتنميتها بالتجارة فيها ورواجها، وليس كل امرئ يقدر على ذلك بنفسه، فاضْطُر رب المال فيها إلى استنابة غيره، ولعله لا يجد من يعمل له فيه بإجارة؛ لمَّا جرت عادة الناس في ذلك على التعامل بالمضاربة، فرُّخص فيه لهذه الضرورة واستُخرِج بسبب هذه العلة من الإجارة المجهولة.
- وتبعاً لهذه العلة ذكر المالكية والشافعية في شروط المضاربة أن تكون التجارة غير مُضيَّقة بالتعيين والتأقيت؛ لأن في هذا تعطيلًا لمقصد الرواج، ومن ثم فلو عيَّن صنفاً خاصًّا من الحرير، أو نوعاً من البُرِّ كذلك، أو عيَّن شخصاً للمعاملة معه؛ فسدت المضاربة؛ لما في ذلك من التضييق، وكذلك لو وقَّتها بسنة ومنع بعدها من التصرف؛ فإن المضاربة تفسد لما فيها التضييق. وكذلك لو اشترط المالك أن تكون له يدٌ أو أن يُراجَع في التصرف، أو يُراجَع وكيله؛ فسد القراض أيضاً لأنه تضييق للتجارة وتعطيل لرواجها.
- قال الفقهاء: إذا كان الناس يتعاملون بنقود متعدِّدة مختلفة وكانت متساوية في القيمة والرواج، ولم يشترط البائع نقداً معيناً، فيجوز للمشتري أن يدفع أي نوع شاء؛ لأنها متساوية في القيمة ومتساوية في الرواج، وليس هناك شرط بنقد معين، وأما إن كانت متساوية في القيمة مختلفة الرواج وليس هناك شرط، فلا يصح القضاء إلا من النقد الأكثر رواجًا.
- وعملاً على إقامة مقصد رواج الأموال في الأمة عمدت الشريعة إلى تسهيل المعاملة والتصرف فيها قدر الإمكان، وترجيح جانب ما فيه من المصلحة على ما عسى أن يعترضها من خفيف المفسدة؛ ولذلك لم يُشترط في التبايع حضور كلا العوضين، فاغْتُفر ما في ذلك من احتمال الإفلاس. وشُرعَت المعاملة على العمل مثل: المغارسة، والمساقاة، واغتُفِر ما في ذلك من الغرر. وشرعت البيوعات على الأوصاف؛ واغتفر ما في ذلك من ضرر؛ قصداً في جميع ذلك إلى تسهيل المبادلة ولتيسير حاجات الأمة(4)، وقد دل على ذلك قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا} [البقرة: 282].
- وبناءً على هذا قال ابن عبد السلام: “وَيُشْتَرَطُ فِي الْوَكَالَةِ أَنْ يَكُونَ الْمُوَكِّلُ مَالِكًا لِلتَّصَرُّفِ الَّذِي يُوَكِّلُ فِيهِ؛ إذْ لَا يَمْلِكُ الْفَرْعَ مَا لَمْ يَمْلِكْهُ الْأَصْلُ. وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ إذْنُ الْمَرْأَةِ فِي النِّكَاحِ، وَإِذْنُ الْأَعْمَى فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَإِذْنُ الْمُضَارِبِ لِلْعَامِلِ فِي التَّصَرُّفِ فِي عُرُوضِ التِّجَارَةِ الَّتِي لَا يَمْلِكُهَا الْمَالِكُ وَلَا الْعَامِلُ؛ لِمَسِيسِ الْحَاجَةِ إلَى ذَلِكَ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَوْ مُنِعَ لَفَاتَتْ مَصَالِحُ التَّزْوِيجِ وَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فِي حَقِّ الْعُمْيَانِ، وَكَذَلِكَ أَرْبَاحُ الْقِرَاضِ”(5).
- وقد سئل يحيى بن عمر بن لبابة عن رجل أراد أن يبيع قمحاً جلبه من منزل إلى بيته، فاحتاج إلى ثمنه، فعرض منه قليلا في يده في السوق فاشترى منه التجار على الصفة؛ ليكتالوه في داره وينقلونه إلى حوانيتهم، فقال يحيى: أرى أن لا يُمَكَّن البائع من أن يبيع في داره، وأرى أن ينقله إلى أسواق المسلمين؛ لأنه لو باع كل تاجر سلعته في بيته، واكتفى بعرض عيِّنةٍ منها في السوق؛ لفاتت مصالح الترويج وتعطل مقصده، وانحصر البيع والشراء على فئة معينة. وفي قضية قريبة سئل يحيى نفسه عن البدوي يقدم بالطعام ليبيعه هل يؤمر ببيعه في السوق أم لا؟ فقال: أرى على صاحب السوق أن يأمر البدويين إذا أتوا بالطعام ليبيعوه فلا يتركوه في الدور والفنادق وأن لا يبيعوه فيها وأن يخرجوه إلى أسواق المسلمين حيث يدركه الضعيف والعجوز والكبير*.
(1) أخرجه مالك في الموطأ (2/ 399) حديث رقم (976) وصححه ابن كثير، انظر: مسند الفاروق (2/ 352).
(2) البيان والتحصيل، لابن رشد (17/ 73).
(3) البيان والتحصيل (17/ 73).
(4) مقاصد الشريعة الإسلامية، لابن عاشور (3/ 478).
(5) قواعد الأحكام في مصالح الأنام، للعز بن عبد السلام (2/ 152).
* سائر ما في هذا المقال من تعليقات وتوثيق هو من قبل لجنة التحرير والمراجعة بمنتدى البركة.
