ملكية حملة الصكوك بين الحقيقة الشرعية وصيغ نشرات الإصدار
بقلم الأستاذ الدكتور/ عزُّ الدِّين بن زغيبة
أستاذ الفقه والأصول والمقاصد
ورئيس هيئة الرقابة والفتوى في عدد من المصارف الإسلامية
طبيعة الملكية في الاقتصاد الإسلامي:
إن ما يَروجُ من الأموال في أيدي الناس يعود في أصل ملكيته لله سبحانه وتعالى، والخلق مُنزَّلون فيه منزلة الوكلاء والنُّوَّاب، حيث قال تعالى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: 33]، وقال تعالى: {إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [الأعراف: 128]، وقال صلى الله عليه وسلم: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، ابْتَاعُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ مَالِ اللَّهِ»(1).
وأصل هذه الملكية يرجع إلى أن الله هو خالق المال ومنشِئُه وميسِّرٌ لأسباب اكتسابه، ومن ثم فهو الذي موَّلهم إيّاه وخوّلهم الاستمتاع به، وجعلهم خلفاء في التصرف فيه حيث قال تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد: 7].
وعلق ابن عاشور على هذه الآية فقال: “وجيء بالموصول في قوله: {مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} دون أن يقول: وأنفقوا من أموالكم أو مما رزقكم الله؛ لما في صلة الموصول من التنبيه على غفلة السامعين عن كون المال لله، جُعِل الناس كالخلائف عنه في التصرف فيه مدةً ما، فلما أمرهم بالإنفاق منها على عباده؛ كان حقًّا عليهم أن يمتثلوا لذلك، كما يمتثل الخازن أمر صاحب المال إذا أمره بإنفاذ شيء منه إلى من يعيِّنه”(2).
وبناءً عليه فإن مفهوم الملكية في الإسلام باختصار شديد هو علاقة شرعية بين الانسان والأشياء، تجعله مختصًّا بها اختصاصًا يمنع غيره عنها، بحيث يمكنه التصرف فيها عند تحقيق أهليته للتصرف، بجميع أنواع التصرفات بالطرق الشرعية وفي الحدود التي بينها الشرع، وحق الملكية وغيره لا يثبت إلا بإقرار الشرع واعترافه به؛ لأن الشرع هو مصدر الحقوق، وليس الحق في الشريعة حقًّا طبيعيًّا، وإنما هو منحة إلهية منحها الخالق للأفراد وفقًا لمصلحة الجماعة.
ملكية الصكوك بين الحقيقة الشرعية وصورية نشرات الإصدار:
ومما لا ريب فيه أن من أهم خصائص الصكوك الإسلامية هي أن ملكية حملة الصكوك، ملكية حقيقية؛ لما تمثله تلك الصكوك رقبةً ومنفعةً، فالملكية التي يمثلها الصك الشرعي يجب أن تكون ملكيةً حقيقيَّةً وليست صوريَّةً. وهذا يشمل الملكية الكاملة لمحل الصك رقبةً ومنفعةً، كما يشمل الملكية الناقصة أي ملكية المنفعة.
وعناصر الملك هي:
- الانتفاع.
- والاستغلال.
- والتصرف في الرقبة بجميع أنواع التصرفات المباحة شرعًا.
وبناءً عليه فإذا أبقى بائع الأصل محل الصكوك لنفسه كانت الملكية صوريَّة، وكذلك إذا نقل منافع الملك، مثل أرباح الأسهم، أو أُجرة العقار، وأبقى لنفسه حق الملكية نفسها (title) فإن ذلك لا يعدُّ تمليكًا لحملة الصكوك، ولا يكون جائزًا من جهة الشريعة.
والذي يستخلصه كل ناظر في هذا الكلام دون الحاجة لكثير تأمُّل أن حملة الصكوك بإمكانهم التصرف فيما تُخوِّل لهم الصكوك التي يحملونها ملكيته بجميع أنواع التصرفات المشروعة، مثل: بيعه، وهبته، وإجارته، ورهنه لأي طرف أو جهة يرغب في التعامل معها.
لكن ما تتضمنه بعض نشرات الإصدار التي تصدرها بعض الجهات السيادية والمؤسسات المالية يوحي بأن هذه الملكية، هي مجرد ملكية المنافع والحقوق لا أكثر ولا أقل من ذلك، مما يقدح في التملُّك الحقيقي لحملة الصكوك لهذه الأصول، ويجعلها أقرب إلى الصورية من التملك الحقيقي، وهذا واضح وضوحًا لا إشكال فيه من خلال بسط العناصر الآتية:
- أن تكون الأصول التي هي محل التصكيك أصولًا سيادية لا يمكن قانونًا ولا عُرفًا تملُّكها من قبل أفراد أو جماعة معينة، مثل المطارات، والموانئ، والمناجم، وآبار النفط، والمواقع الأثرية، والمباني الحكومية؛ كالقصور الرئاسية، والبرلمان، ومباني المخابرات العامة، والثكنات العسكرية وغيرها.
- يقول محمد تقي العثماني: “لقد ظهرت في الآونة الأخيرة بعض الصكوك التي يشك في كونها مُمثِّلة للملكية، فمثلًا قد تكون الأصول الـمُمثَّلة بالصكوك أسهمَ الشركات بدون ملكيتها الحقيقية، وإنما تُخوِّل حملة الصكوك حقًّا في عوائدها، وليس هذا إلا شراءَ عوائد الأسهم، وهو لا يجوز شرعَا”(3).
- أن يتم تقويم أصول الصكوك عند بيعها من حملة الصكوك بأضعاف قيمتها السوقية، كأن يكون الأصل قيمته الحقيقية في السوق عشرة ألاف دينار فيباع من حملة الصكوك بمائة ألف، بحيث يتعذَّر على حملة الصكوك عمليًّا التصرُّف فيه، إلا من خلال التعامل مع مُصدِر الصكوك.
ومن جهة أخرى، فإن قيام مالك الأصل بتقويم الأصل بمقدار حجم التمويل الذي يرغب في الحصول عليه، بغض النظر عن القيمة السوقية للأصل، أمارةٌ وعلامةٌ على أن الأصل غير مقصود، وإنما جعل ذريعة لتحليل القرض الذي يرغب الـمُصدِر في الحصول عليه باسم الصكوك.
ومن المعلوم لدى العلماء وأهل الاختصاص أن غرض الشريعة من تشريع الـمعاوضات والتصرفات المالية، هو للذين لهم غرض في تحصيل آثارها المترتبة عليها بالقصد الشرعي، لا لتوصُّل الـمكلفين بها احتيالًا إلى مقاصدهم غير المشروعة أصالة.
قال ابن القيم الجوزية في كتابه إعلام الموقعين: “وكذلك إنما شرع البيع لمن له غرضٌ في تمليك الثمن وتملُّك السلعة، ولم يشرعه قطٌّ لمن قصد به ربا الفضل أو النساء ولا غرض له في الثمن ولا في الـمثْمَن ولا في السلعة، وإنما غرضهما الربا”(4). - إن الصياغة القانونية لنشرة الإصدار وعقودها لا تدل على نقل حقيقي لملكية الأصول إلى حملة الصكوك، حيث ينص بعضها على أن الـمُصدِر إنما باع من حملة الصكوك حقوق الأصول ومنافعه، لا أنه نقل لهم ملكية الأصول نفسها.
بل إن ما يزيد الأمر إشكالًا، ويقرِّب ملكية حملة الصكوك للأصول من الصوريّة، أن تضيف تلك النشرات على ما سبق؛ النص على أنه ليس لحملة الصكوك ولا لوكيلهم – تحت أي ظرف – أي حقٍّ في بيع أي من موجودات الصكوك، أو التصرف بها بأي شكل آخر إلا وفقاً لتعهُّد الشراء – أي إعادة البيع على الـمُصدِر – وكيف يكون وضع هذه الملكية إذا انْضاف إلى تلك الشروط عدم إخراج أصول الصكوك من القوائم المالية للمُصدِر.
(1) أخرجه الخرائطي في مكارم الأخلاق (ص: 188) حديث رقم (564) والبيهقي في شعب الإيمان (6/ 314) حديث رقم (4250) وقال ابن حجر في الإصابة (1/ 497): “وأخرجه الباورديّ وابن السّكن في الصّحابة، وأخرجا من طريق حميد بن هلال عنه، قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: «يا أيّها النّاس ابتاعوا أنفسكم من اللَّه من مال اللَّه» الحديث. ورجاله ثقات”.
(2) التحرير والتنوير (27/ 369).
(3)الصكوك وتطبيقاتها المعاصرة، محمد تقي العثماني (ص: 4).
(4) إعلام الموقعين عن رب العالمين (5/ 184).