قاعدة: لَوْ عَمَّ الحَرَامُ الأَرْضَ جَازَ اسْتِعْمَالُ مَا تَدْعُو إِلَيْهِ الحَاجَاتُ وَالضَّرُورَاتُ. (1)
بقلم الدكتور/ عبد الناصر حمدان بيومي
هذه القاعدة ليست مجرد افتراض قد لا يحصل إلا في آخر الزمان عند انتشار الهرج والتقاتل، وإنما هي قاعدة واقعية انطبقت على أمكنة وأزمنة مضت، وتنطبق على أمكنة كثيرة في واقعنا المعاصر، كما في حالات الحروب المدمرة للأرزاق ولفرص الكسب الحلال. وفي الدول التي يعمها الفساد المالي والاجتماعي، من غش ورشوة واختلاس واحتكار. وكما في بعض الأنظمة الشيوعية التي تصادر الأموال والمكاسب بغير حق، وتعيد توزيعها بغير حق.
وقد صوَّرَ الإمام الجويني بعض هذه الحالات بقوله: “إذا استولى الظلمة، وتهجم على أموال الناس الغاشمون، ومدّوا أيديهم اعتداءً إلى أملاكهم، ثم فرقوها في الخلق وبثوها، وفسدت مع ذلك الساعات، وحادت عن سَنَن الشرع المعاملات، وتعدى ذلك إلى ندور الأقوات، وتمادى على ذلك الأوقات وامتدت الفترات… ترتبت عليه الشبهات، فإذا جاز أخذ الكفاية من المحرمات، لم يخف جوازه في مظان الشبهات”.(2)
فما هو المشروع والممنوع عند انتشار الحرام في المعايش وسبل الكسب في بعض الأماكن من العالم التي يضطر المسلم للعيش فيها، هذا ما سنتناوله في هذه القاعدة، مع بيان آثارها في العقود المالية.
أولاً: المفاهيم الأساسية:
الحاجات: هي الأمور الحاجية “المفتقر إليها من حيث التوسعة ورفع الضيق المؤدي في الغالب إلى الحرج والمشقة اللاحقة بفوت المطلوب. فإذا لم تراع دخل على المكلفين -على الجملة- الحرج والمشقة، ولكنه لا يبلغ مبلغ الفساد العادي المتوقع في المصالح العامة.
والضرورات: هي الأمور الضرورية التي لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا، بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة، بل على فساد وتهارج وفوت حياة…”.(3)
وعموم الحرام للأرض: أي انتشاره في كافة أبواب الاسترزاق، وجل الأنشطة الاقتصادية والمالية، بحيث يندر الحلال أو يشق الوصول إليه على عامة الناس.
ثانيًا: بيان مقصود القاعدة:
القاعدة أوردها كثير من العلماء في مصنفاتهم، ويعد الإمام الجويني أول من نص على هذه القاعدة وتوسع في شرحها والتفريع عليها، وعنه تناقلها العلماء، وتبين القاعدة حالة من حالات الترخص والتخفيف والتيسير بسبب الأعذار الطارئة على المكلف بل على الأمة بأسرها، وحدَّها الإمام الجويني بأن يُطبق الحرامُ الزمانَ وأهلَه، ولم يجدوا إلى طلب الحلال سبيلاً. ففي هذه الحالة يباح للمكلفين الأخذ من الحرام قدر الحاجة التي يندفع بها الضِّرار، ويستمر الناس على ما يقيم قواهم، ولا تشترط الضرورة التي نرعاها في إحلال الميتة في حقوق آحاد الناس، وهي الاقتصار على سد الرمق فقط، بل الحاجة في حق الناس كافة تنزل منزلة الضرورة، في حق الواحد المضطر لو صابر على ضرورته؛ لهلك. ولو صابر الناس قاطبة؛ لهلكوا. كما أن في تعدي الكافةِ الحاجةَ من خوف الهلاك، ما في تعدي الضرورة في حق الآحاد.(4)
والمقصود من القاعدة: أنه إذا عم الحرام الأرض أو قطرًا من أقطارها، جاز للمكلف أن يستعمل من ذلك ما تدعو إليه الحاجات، ولا يقف تحليل ذلك على الضرورات؛ لأنه لو وقف عليها لأدى إلى ضعف العباد واستيلاء أهل الكفر والعناد على بلاد الإسلام، ولانْقَطَع الناس عن الحِرَف والصنائع والأسباب التي تقوم بمصالح الأنام. قال الجويني: ولا يتبسط في هذه الأموال كما يتبسط في المال الحلال بل يقتصر على ما تمس إليه الحاجة دون أكل الطيبات وشرب المستلذات ولبس الناعمات التي هي بمنازل التتمات والتكميلات.(5)
فالمقصود من إباحة قدر الحاجة والضرورة إذا عم الحرام الأرض: هو رعايةُ المصلحة العامة، والحفاظ على مجموع الأمة من الهلاك والضعف والوهن والاستكانة؛ مما يؤدي إلى تجرأ الكفار عليهم، باستباحة الديار والحرمات وغيرها، وكذلك الحفاظُ على مصالح الخلق الحياتية اليومية التي لا يمكن لأحد القيام بها إذا اقتصر على حد الضرورة وسد الرمق؛ لأن الاقتصار على الضروريات سيؤدي إلى هلاك الأمة واحدًا تلو الآخر؛ فتتعطل الأعمال والصناعات والحرف.
كما أن في الاقتصار على الضروريات والكف عن الحاجيات، اختلالَ الحاجيات، واختلالُ الحاجيات بإطلاق قد يلزم منه اختلال الضروريات بوجه ما؛ لأن مجموع الحاجيات تقوم مقام فرد من أفراد الضروريات، فإذا اختلت الحاجيات في الجملة، اختلت أفراد الضروريات، فقد يلزم من اختلال الحاجي بإطلاق اختلال الضروري بوجه ما.
وفي هذا يقول الشاطبي: “إن مجموع الحاجيات والتحسينات ينتهض أن يكون كل واحد منهما كفرد من أفراد الضروريات، وذلك أن كمال الضروريات -من حيث هي ضروريات- إنما يحسن موقعه حيث يكون فيها على المكلف سعةٌ وبسطةٌ، من غير تضييق ولا حرج، وحيث يبقى معها خصالُ معاني العادات ومكارم الأخلاق موفَّرةَ الفصول، مكملة الأطراف، حتى يستحسن ذلك أهل العقول. فإذا أخل بذلك لبس قسم الضروريات لبسة الحرج والعنت، واتصف بضد ما يستحسن في العادات، فصار الواجب الضروري متكلَّف العمل، وغير صاف في النظر الذي وضعت عليه الشريعة. وذلك ضد ما وضعت عليه”.(6)
ثالثًا: القيود الواردة على القاعدة:
هذه القاعدة مقيدة بقاعدة: “ما جاز لحاجة يتقدر بقدرها“، والمقصود أننا إذا أبحنا قدر الحاجة لا الضرورة فقط؛ فإن المباح من الحاجيات هو ما تندفع به الحاجة، وليس للمكلف أن يتجاوز هذا الحد وإلا دخل في دائرة المحرمات، وحَدُّ الحاجةِ كما ذكر الجويني: “أن يأخذ الناس ما لو تركوه لتضرروا في الحال أو في المآل؛ بقصد استمرار الناس على ما يقيم قواهم، ودفع الضِّرار المؤدي إلى فساد البنية، أو ضعفٍ يصدُّ عن التصرفِ والتقلبِ في أمور المعاش”.(7)
وقاعدة: “ما جاز لعذر بطل بزواله“، فإذا زالت الحاجة والضرورة التي اقتضت حِلَّ مثل هذه المحرمات، عادت الأحكام إلى ما كانت عليه من التحريم.
كما أن القاعدة مقيدة بثلاثة قيود(8):
الأول: إذا انسدت الطرق إلى الحلال، فيجوز الأخذ من الحرام قدر الحاجة دون زيادة، ولكن إذا تمكن الناس من تحصيل ما يحلّ، فيتعين عليهم ترك الحرام واحتمال الكَلّ في كسب ما يحلّ، وهذا إذا كان ما يتمكنون منه مغنيًا كافيًا دارئًا للضرورات، سادًّا للحاجة. فأما إذا كان لا يسد الحاجة العامة، ولكنه يأخذ مأخذًا ويسد مسدًّا، فيجب الاعتناء بتحصيله، ثم بقية الحاجة تتدارك بما لا يحل.
والثاني: إذا طبَّقت المحرمات طبقَ الأرض، فلا شك في أنه يجوز الأخذ من الحرام بقدر الحاجة، ولكن إذا اختص الحرام بناحية من النواحي؛ فإن تمكن أهلها من الانتقال إلى مواضع أخرى، يقتدرون فيها على تحصيل الحلال، تعين ذلك عليهم. إلا أن يتعذر انتقالهم لكثرة العدد أو وعورة الطريق وبُعْد تلك الناحية بمسافة قد لا يتمكنون من قطعها قبل أن يهلكوا؛ فإن لهم أن يأخذوا قدر الحاجة.
والثالث: إذا استوعب الحرامُ طبقات الأنام، فلا شك في أنه يجوز الأخذ من الحرام بقدر الحاجة، ولكن إذا اختص الحرام بطبقة من الناس، فإن تمكن من الاستغناء عن التعامل معهم، ووجد بديلاً في غيرهم ممن يتعاملون بالحلال، وجب عليه أن يقاطعهم؛ كأن يفشو القرض بالربا ثم يجد من يقرضه قرضًا حسنًا، فلا يجوز له أن يتعامل مع من يقرض بالربا. ولكنه إذا وجد بديلاً لمثل هذه المعاملة فقد لا يجد بديلاً لغيرها، كأن تحتكر جهةٌ معينةٌ بناء المنازل وتجهيزها في المِصْرِ بأسره، ويُمنع الأفراد من ذلك، ثم تَفْرِض هذه الجهة على المتعاملين معها السداد من خلال البنوك الربوية وبفوائد مركبة أو غيرها من الصور الربوية المحرمة، فإذا كان بإمكان الأفراد التحول إلى مصر آخر، وجب ذلك عليهم، وإن حالت دون ذلك الحدود والسدود والهويات وغيرها، فإن لهم أن يأخذوا قدر الحاجة.
بقيت الإشارة إلى: أنه لا ينبغي أن تُتَّخذ هذه القاعدة تكأَةً في غير حالاتها الموصوفة؛ لتبرير وتسويغ المعاملات الربوية المحرمة مثلاً؛ حيث الحرام لم يعم الأرض، ولم يشمل جميع الناس؛ حتى نضطر إلى أكل الربا، أو أكل أموال الناس بالباطل، أو اللجوء للتمويل الربوي، أو الاستثمار في المحرمات، أو التأمين من خلال الشركات التجارية الربوية… ويوجد في عصرنا الكثير من البدائل للتعامل المشروع، من خلال المصارف والمؤسسات المالية الإسلامية، وهناك العديد من مجالات الاستثمار المشروع للمال في التجارة الحلال، والمشاريع المتعددة التي لا تخالف شرع الله تعالى.
رابعًا: أهم تطبيقات القاعدة في العقود المالية:
- لو طبق الحرام الأرض -أو ناحية من الأرض يعسر الانتقال عنها- وانسدَّت طرق المكاسب الطيبة، ومست الحاجة إلى الزيادة على سد الرمق، فإن ذلك سائغ أن يزيد على قدر الضرورة، ويرتقي إلى قدر الحاجة في كل ما يحتاج إليه؛ إذ لو اقتصر على سد الرمق لتعطلت المكاسب والأشغال، ولم يزل الناس في مقاساة ذلك إلى أن يهلكوا، وفي ذلك خراب الدين، لكنه لا ينتهي إلى مقدار الترفه والتنعم، كما لا يقتصر على مقدار الضرورة. (9)
- لو عم الحرام في الأسواق ولا مندوحة عن غير ذلك؛ كأن يكون الناس لا يتعاملون إلا بالحرام، ولا يجد من يتعامل بالحلال، فإن له أن يتعامل بالحرام على قدر حاجته منه، ولو كان التعامل في الأمور الحاجية كتبادل السلع والبضائع وغيرها؛ لأنه لو عم الحرام الأرض جاز ما تدعو إليه الحاجات والضرورات.(10)
- لو عم الحرام المصر، ولم يجد إلى الحلال سبيلاً، فلا بأس للمضطر أن يأكل الميتة ويشبع على قدر حاجته منها؛ لأنه لو عم الحرام الأرض جاز ما تدعو إليه الحاجات والضرورات.(11)
- لو عم المال الحرام القطر، ولم يجد صاحبَ مالٍ حلالٍ ليقترض منه؛ فإن له أن يقترض على قدر حاجته مع تيقن أن مال الـمُقرض حرام؛ لأنه لو عم الحرام الأرض جاز ما تدعو إليه الحاجات والضرورات.
- لو عم الحرام الأرض، ولم يجد إلى الحلال سبيلاً، كان له أن يأخذ من بيت المال على قدر ما يخصه منه، فإن لم يجد فيه شيئًا، جاز له أن يأكل من مال غيره بقدر ما يحتاجه لأموره الحاجية الحياتية على أن يعيد نظير المال لصاحبه متى تمكن من ذلك.
- أجاز الشارع أكل اللقطة بعد التعريف ولم يشرط الضرورة، فمن باب الأولى يجوز أكل اللقطة عند عموم الحرام الأرض، إذا لم يجد الناس إلى الحلال سبيلاً.(12)
- أوجب الشارع غصب أموال الناس على من خاف الهلاك لجوع أو حر أو برد، بقصد إحياء نفسه، فمن باب الأولى يجوز ذلك عند عموم الحرام الأرض، وعدم التمكن من الحلال؛ لإحياء الناس جميعًا.(13)
- لو عم الحرام الأرض، فيجوز استعمال جميع أنواع الأدوية والعقاقير، وإن لم تكن ملكه؛ لرفع الضرر عن نفسه وسد الحاجة؛ لأن في منع استعمالها مع مسيس الحاجة إليها يجر ضِرارًا.(14)
- الأصل في المعاملات الربوية الحرمة؛ فهي من كبائر الذنوب بل من السبع الموبقات، ولا يجوز التورط في أي معاملة ربوية؛ لأن الحرام لم يعم الأرض، وهناك العديد من المجالات الحلال البعيدة كل البعد عن التعامل بالربا أخذًا وعطاءً. وأما حالات الاضطرار وعموم الحرام بعض الأماكن، فمقيد بقدر الضرورة، وإمكانية الانتقال عن الأقطار التي يفشو فيها الحرام…
- تمويل خطوط الإنتاج في الأنشطة الاقتصادية، لا يجوز من خلال البنوك والمؤسسات المالية الربوية؛ وهناك العديد من البدائل الشرعية؛ من خلال عقود المضاربة والإجارة والاستصناع والمشاركات والصكوك وغيرها… أو من خلال المصارف والمؤسسات المالية الإسلامية.
هذه إلماحة سريعة عن القاعدة وتطبيقاتها في العقود المالية؛ مما يكشف عن أهميتها، وضرورة أن يضعها المجتهد نصب عينيه مع قيودها وحالات إعمالها؛ لضبط ميزان الترخص والتشدد في الفتوى، وتلافي ما قد يؤدي إليه اختلال هذا الميزان من حرج ومشقة على الناس، أو الوقوع في المعاملات المحرمة.
(1) انظر: قواعد الأحكام في إصلاح الأنام، للعز بن عبد السلام: 2/313.
(2) انظر: الغياثي، للجويني: 488-489.
(3) انظر: الموافقات، للشاطبي: 2/8-11.
(4) انظر: الغياثي، للجويني: 478-480.
(5) انظر: قواعد الأحكام في إصلاح الأنام، للعز بن عبد السلام: 2/313-314.
(6) الموافقات، للشاطبي: 2/23.
(7) انظر: الغياثي، للجويني: 480-481.
(8) انظر: الغياثي، للجويني: 487-488.
(9) انظر: الاعتصام، للشاطبي: 3/37.
(10) انظر: البهجة في شرح التحفة، للتسولي: 2/335.
(11) انظر: الذخيرة، للقرافي: 4/109؛ البهجة في شرح التحفة، للتسولي: 2/335.
(12) انظر: قواعد الأحكام في إصلاح الأنام: 2/314.
(13) انظر: قواعد الأحكام في إصلاح الأنام: 2/314.
(14) انظر: الغياثي، للجويني: 482.