العملات الرقمية المشفرة في ضوء عقود المعاملات الشرعية – المقاصد الشرعية المعتبرة (5/7)
الدكتور/عبد الناصر حمدان بيومي
تحدثنا في المقال السابق عن المبادئ الحاكمة للعقود المالية؛ ونتناول في هذا المقال المقاصد الشرعية المعتبرة في العقود المالية، والتي منها العقود الرقمية المشفرة.
أهم مقاصد عقود المعاملات المالية الشرعية:
هناك العديد من المقاصد التي شرعت عقود المعاملات المالية لتحقيقها وحفظها ومن ذلك ما يلي:
- حفظ المال مقصود الشريعة الأعظم في سائر عقود المعاملات المالية، فجمع وحفظ المال من المحاور التي تقوم عليها حياة الناس، ويستغرق من وقتهم الكثير في كسبه وإنفاقه، وبينت الشريعة سبل الكسب والإنفاق الحلال حتى لا يعدو أحد على مال أحد، وحفظ المال من الكليات الخمس التي نزلت الشرائع السماوية جميعًا لحفظها. والإصلاح العام في الإسلام يتجه إلى مجالات كثيرة منها: “صلاح الاعتقاد، وصلاح الأنفس، وصلاح عمل العبادات، وصلاح أحوال المسلمين في أحوال نظام المعاملات البدنية، وهو ما يعبر عنه بجلب المصالح ودرء المفاسد”.(1)
- تحقيق مصلحة الخلق في الدارين، وعلى هذا تدور جميع أحكام الشريعة بأسرها؛ وفي هذا الإطار تدور مقاصد المعاملات المالية، قال العز بن عبد السلام: “المعاملات وسائل إلى تحصيل مصالح الدنيا والآخرة ودرء مفاسدهما”(2)، وإذا كانت جميع الشرائع السماوية إنما نزلت لهذا الهدف، وذلك بحفظ الكليات الخمس، فإن حديثنا سيتركز على أحد هذه الكليات الخمس وهو حفظ المال.
- حفظ مال الأمة من خلال حفظ مال الأفراد، والمال العام المتعلق بمصالح الأمة، بلا فرق بين حفظهما من ناحيتي الوجود والعدم، ومعلوم أن المال العام والمصلحة العامة مقدمة على الخاصة حال التعارض، وقد ألح على هذا المعنى ابن عاشور في حديثه عن المقاصد الشرعية الخاصة لحفظ المال، يقول: “إن المقصد الأهم هو حفظ مال الأمة وتوفيره لها، وإن مال الأمة كان كُلاًّ مجموعيًّا فحصول حفظه يكون بضبط أساليب إدارة عمومه، وبضبط أساليب حفظ أموال الأفراد وأساليب إدارتها، فإن حفظ المجموع يتوقف على حفظ جزئياته، وإن معظم قواعد التشريع المالي متعلقة بحفظ أموال الأفراد وآئلة إلى حفظ مال الأمة؛ لأن منفعة المال الخاص عائدة إلى المنفعة العامة لثروة الأمة”.(3)
- حفظ نظام الأمة ووجودها، وتقوية شوكتها وعزتها، وصيانتها من اعتداء الأمم عليها، ويتحقق ذلك بالحفاظ على أموال آحاد الأفراد، وحفظ المال العام أيضًا؛ لما فيه من حفظ نظام الأمة وتقوية شوكتها وعزتها، ولهذا أولت الشريعة للمال أهمية كبيرة وحظًّا لا يستهان به، وجعل الشارع زكاة المال ثالثة أركان الإسلام، وحارب الصديق مانعي الزكاة، كل ذلك يدل على الدور الكبير للمال في القيام بمصالح الأمة اكتسابًا وإنفاقًا.
- تحقيق مصلحة المكلفين بالتبادل والتعاون في أمور المعايش.
- الضبط والتحديد والاحتياط، بسد الذرائع وإبطال الحيل المفضية إلى أكل أموال الناس بالباطل، أو الغش والخداع، وذلك صيانة للحقوق من الضياع، ومنع الخصام والنزاع.
- تشريع وتيسير سبل الكسب الحلال، وتحريم وتجريم سبل الكسب الحرام.
- تلبية حاجة الناس لعقود المعاملات المالية، وجريان تعاملهم بها، وتعارفهم عليها، فأقر منها ما يحقق مقاصد العقود، ومنع ما تربو مفاسده المتيقنة على مصالحه الموهومة.
- الإرفاق والتعاون والتيسير على الناس في أمور معايشهم، ورفع الحرج ودفع المشقة عنهم، وتبادل المنافع بينهم، وتيسير سبل الصرف والتحويل والتوثيق والحفظ ورد المفقود والقرض والوقف والوصية والهبة والإعارة وغيرها.
- حفظ المودة والألفة بين المسلمين، والرفق بالمتبايعين، والإصلاح بينهم، عن طريق رفع الخصومة والنزاع، بإقالة النادم، وإعطاء فسحة للتشاور وتفادي الغبن والغرر والضرر…
- تحقيق قاعدة التراضي والسماحة والطمأنينة وحفظ الحقوق في كل أنواع العقود.
- إعمار الكون، والإسهام في التنمية الاقتصادية، وحل مشاكل المجتمع؛ كالبطالة والكنز والركود الاقتصادي والاحتكار والفقر والمسكنة…، وحسن توظيف الموارد، وتوجيهها في نفع الأمة.
- استثمار المال، وتحقيق التكامل بين رأس المال والخبرة، وتنمية روح المشاركة والادخار.
- الانتفاع بالمال في جلب المصالح ودرء المفاسد عن الأفراد والجماعات في مختلف الأحوال والأزمان والدواعي.
- حفظ مال الأفراد وتنميته؛ لئلا تأكله النفقة أو الصدقة، عن طريق تبادل المنافع والسلع، ونفع المجتمع بتداول المال واستثماره وعدم كنزه.
- سدُّ الذرائع والحيل نحو المحرمات؛ كالربا والقمار والميسر وأكل أموال الناس بالباطل، وحث الأفراد والمجتمعات على أن يكون مصدر رزقهم وقوتهم من حلال.
- الأخذ بوسائل التقدم والتقنيات المعاصرة؛ لتحقيق سرعة تبادل السلع والخدمات والمنافع.
- رعاية أعراف الناس وعوائدهم الموافقة لشريعة؛ لأن الشريعة اعتبرتها، فمن قواعد الشريعة الكبرى: “العادة محكمة“.
- تحقيق الرواج والنمو الاقتصادي، وتحسين سبل التجارة وتوسيع مداها، وتخليق فرص عمل؛ للحد من البطالة والركود والكساد الاقتصادي.
هذه بعض المقاصد الشرعية المعتبرة في عقود المعاملات المالية الإسلامية، وفي ضوئها يتم فهم أي نازلة في هذا الباب، ويتحدد الحكم الشرعي للنوازل والمستجدات، ومن خلالها يمكننا توجيه أقوال واجتهادات العلماء في العملات المشفرة، وهو موضوع المقال المقبل.
(1) انظر: مقاصد الشريعة الإسلامية، لابن عاشور، ت: محمد الحبيب ابن الخوجة، ط وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بقطر 1425هـ/2014م: 3/199.
(2) انظر: قواعد الأحكام في إصلاح الأنام، للعز بن عبد السلام: 2/132.
(3) انظر: المرجع السابق: 3/460.