تأثير الرقمنة على تطور صناعة الحلال من منظور الاقتصاد الإسلامي
بقلم الدكتورة/ هيام سامي الزعبي
أستاذ مساعد في الاقتصاد والمصارف الإسلامية
تُعتبر الرقمنة من أهم ما توصلت إليه التكنولوجيا الرقمية للمعلومات، حيث يمكن من خلالها تحويل جميع المعلومات والوثائق إلى صور تستطيع أجهزة الكمبيوتر التعامُل معها، وتخزينها وتحليلها، وهي بذلك تقدِّم فوائد مختلفة لجميع الأطراف في العمليات اليومية؛ ومع اتصال الرقمنة بالحياة المعاصرة فإنه لا يمكن اعتبار التحول الرقمي رفاهية يمكن الاستغناء عنها في العصر الحاضر؛ لما له من دور كبير في التطوير وتحسين الخدمات وتسهيل وصولها للأفراد المجتمع.
كما أن له أهميةً كبرى لمقدم الخدمة، سواء الحكومة أو القطاع الخاص، أما طالب الخدمة فهو يوفِّر له كثيرًا من الجهد والمال بشكل كبير، كما أن له ميزاتٍ كبيرةً في تحسين كفاءة العمل والتشغيل، فهو يساعد على تحسين الجودة وتبسيط الإجراءات للحصول على الخدمات المقدَّمة للمستفيدين.
كما يقدِّم التحوُّل الرقميُّ فرصًا أكبر للحكومة والقطاع الخاص للتوسُّع والانتشار بشكل كبير بين المواطنين الراغبين في الحصول على الخدمات، عن طريق حلول مبتكرة وبسيطة.
أثر الرقمنة على النمو الاقتصادي:
تساهم الرقمنة في تحقيق النمو الاقتصادي وخلق فرص عمل جديدة، وترتبط بالابتكار والعمل على توظيف الموارد البشرية والطبيعية والاقتصادية بطرق متميزة، حيث تعتبر الرقمنة أداة للتنمية والتطوير ووسيلة للتخفيف من حدة الفقر، والارتقاء بجودة التعليم والخدمات الصحية، والأنشطة الاقتصادية، وتسهيل الأنشطة اليومية لأفراد المجتمع، إلا أنها تواجه العديد من التحديات أهمها: أن كثيرًا من الدول لا تستطيع إنشاء بنية تحتية تكنولوجية بسبب تكلفتها المرتفعة جدًّا، إلى جانب ما يتعلق بالتحديات التقنية والفنية ذات الصلة بالتجهيزات المادية والبرمجيات والمعلومات واسترجاعها، وعلاوة على ذلك فهناك نقص في الموارد البشرية المدرَّبة في مجال التكنولوجيا، وهي بلا ريب تعتبر من أهم العناصر المهمة في إنجاح عملية التحول الرقمي.
وإلى جانب هذه التحديات فهناك مخاطر أمن المعلومات وتأمين وحماية بيانات العملاء وأرصدتهم من عمليات الاختراق والسرقة، والهجمات الالكترونية والجرائم الالكترونية، ونقص الخبرة لدى الكثير من العملاء في التعامل مع التكنولوجيا وعدم إدراكهم لأهميتها، وتمسك بعض المديرين بالأنظمة الداخلية القديمة، وعدم رغبتهم في التعلُّم والاتجاه نحو التطوُّر، وهذا يعني أنه لابد من تكثيف الجهود لمواجهة هذه التحديات لما للرقمنة من دور كبير في تسريع النموّ الاقتصادي على المستوى العالمي.
متطلبات تعزيز النمو الاقتصادي في ضوء ظاهرة الرقمنة:
لتعزيز النمو الاقتصادي في قطاعات معينة داخل الدولة لابد من وجود عدة معايير لتصنيف الرقمنة وهي: (الانتشار الواسع، التكلفة، الموثوقية، السرعة، قابلية الاستخدام والمهارات)، ومن خلال التعاون بين المستهلكين والحكومات، سيتمكّن صانعو السياسات من تعزيز نمو البيئة الحاضنة التي تستفيد من فوائد الرقمنة، ولكن يجب الإشارة إلى أن تأثير الرقمنة بحسب الدول والقطاعات غير متوازن؛ إذ يتمتع الاقتصاد المتطوِّر بفوائد مرتفعة فيما يتعلق بالنمو وبتحسين الإنتاجية، ولكن هذا الأمر قد ينتج عنه انخفاض بفرص العمل المناسبة وخسارة المهارات والقيمة المضافة، التي تتوجَّه إلى الأسواق النامية حيث اليد العاملة أقل كُلفةً هنالك، وبالمقابل فإن الرقمنة ستؤثر على أسواق الدول النامية من حيث توفير فرص العمل وتنويعها بشكل أكبر بكثير من تأثيرها على النمو، والسبب في ذلك يرجع إلى الفجوة الكبيرة بين هياكل الاقتصادات المتقدمة والنامية، حيث تعتمد الدول المتقدمة بشكل رئيسٍ على الاستهلاك المحلي مما يزيد من أهمية القطاعات التي لا تعتمد على التصدير، بالتالي فإنه يجب على صناع القرار استخدام تأثيرات الرقمنة المتنوعة بطرق متعددة ليس فقط بوضع قوانين وسياسات، بل يجب وضع خطط للرقمنة لمصلحة قطاعات معيَّنة لتحقيق أقصى استفادة منها، ودعم تطوُّر القدرات والنشاطات المختصَّة بإنجاز هذه الخطط، بالتنسيق مع القائمين على الصناعات والمستهلكين والمؤسسات الحكومية؛ لتثبيت بيئة شاملة لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات وتشجيع استخدامات مكثَّفة للخدمات الالكترونية.
تأثير الرقمنة على تطور صناعة الحلال:
يشهد العصر الحاضر تطوُّرا في سوق المنتجات الحلال، والتي حققت نموًّا ملحوظًا، وعُرف مصطلح الحلال بأنه ميزة تصف منتجًا استهلاكيًّا ما، أو مجموعة منتجات استهلاكية تراعي مبادئ وأحكام الشريعة الإسلامية، وقد اتسع سوق الحلال واعتبر من أهم الصناعات وأسرع الأعمال العالمية نموًا حول العالم، بسبب البحث عن المنتج الحلال التزامًا بأحكام الشريعة الإسلامية.
وتشكِّل هذه الصناعة سلسلة متتابعة من العمليات متنوعة الإمدادات، بما يشمل الإنتاج، والنقل، والتوزيع، وهذه العمليات المختلفة تعزِّز دور الدولة في مجالات الصناعة والتجارة، وتساهم في حماية البيئة والصحة والسلامة، وتدعم الاقتصاد الوطني من جهة أخرى.
ومع عولمة الصناعة وتلاشي الحواجز السياسية والجغرافية والثقافية والاقتصادية بين الدول بسبب التطور الكبير في مجال تكنولوجيا الإعلام والاتصال – تقاربت الأسواق في مختلف دول العالم؛ لتشكل سوقًا عالميًّا موحَّدًا. وانعكس ذلك بوضوح على صناعة الحلال، فأصبحت في العصر الرقمي تستقطب المسلمين وغير المسلمين عن طريق إنتاج أطعمة على أساس متكامل ونظيف وخالٍ من التلوث، ثم تطورت هذه الصناعة بشكل كبير لتشمل مستحضرات التجميل والعناية الشخصية والأدوية والأدوات الطبية والخدمات اللوجستية. بل إن مفهوم تجارة الحلال قد اتَّسع ليضم قطاعات غير تقليدية؛ كالسياحة والأقمشة التي أصبحت تحمل شعار “حلال”، وهذا يشير إلى حجم السوق الهائل لهذه التجارة.
وانعكست هذه الصناعة على الجانب المؤسَّسي فظهرت مؤسسات الحلال التي تعطي شهادة الحلال للمنتجات المختلفة، وباتت تمثل وسيلةً لضمان توافق هذه المنتجات مع معايير معينة من الشريعة والجودة والأمان والنظافة، وهذا يعزز الثقة والضمان في منتجات الحلال ويؤدي إلى القضاء على عوائق التجارة، ويُمكِّن الحاصلين على شهادات الحلال من صنع بيئة تنافسية.
الضوابط الشرعية لصناعة الحلال:
يعتبر التحول الرقمي ملاذًا آمنًا لإمكانية استمرار الحياة الاقتصادية وتحمُّل الأزمات وعدم التعرض للتدهور السريع، مع إمكانية الاستمرار في تحقيق أهداف التنمية الاقتصادية، كما أن له دورًا كبيرًا في نمو قطاع التمويل الإسلامي والخدمات المصرفية الإسلامية، وظهور المنصات الالكترونية التي ساهمت في تطوُّر المعاملات الإسلامية وتعزيز نموها، وتسريع وتيرة صناعة الحلال وعولمتها وازدياد حجم تجارة منتجات الحلال.
ومن منظور الاقتصاد الإسلامي تبرز أهمية صناعة الحلال فهي مستمدة من الأصل الذي يقرره قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة: 168]، ولا شك أن تحري الحلال في المطعم والمشرب هو مقصد مطلوب وقاعدة استمسك بها المسلمون طوال تاريخهم، لكن التوجُّه إلى استيراد السلع من دول لا تلتزم بأحكام الشريعة الإسلامية، وضرورة التأكد من حل المطعم – يدعو إلى الحصول على شهادات تفيد بالتزام الشركات العاملة في تلك الدول في مجال اللحوم المذبوحة تحديدًا بالمعايير الشرعية، مع ضرورة استحداث إجراءات رقابية تؤكِّد التزام المصنِّعين بهذه المعايير، وينطبق ذلك أيضا على مستحضرات التجميل التي ينتجونها بقصد التصدير إلى الدول الإسلامية.
وقد وضعت الشريعة الإسلامية جملةً من الضوابط يمكن الاسترشاد بها في صناعة الحلال، أذكر منها على وجه الإجمال:
- تحريم تناول أعيان محددة وردت في القرآن الكريم؛ كالخنزير، والميتة، والدم المسفوح، وما أُهِلَّ لغير الله به، قال تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 173].
- تحريم تناول كل حيوان يَفترِس بنابه أو طير ذي مخلب؛ لحديث عن ابن عباس، قال: «نَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ، وَعَنْ كُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ»(1).
- تحريم تناول ما أُمر بقتله من الحيوان كالعقرب والفأرة والغراب والكلب كما في حديث عائشة رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “خَمْسٌ مِنَ الدَّوَابِّ، كُلُّهُنَّ فَاسِقٌ، يَقْتُلُهُنَّ فِي الحَرَمِ: الغُرَابُ، وَالحِدَأَةُ، وَالعَقْرَبُ، وَالفَأْرَةُ، وَالكَلْبُ العَقُورُ“(2).
- تحريم تناول ما نُهي عن قتله؛ كالنملة، والنحلة، والهدهد، كما في حديث ابن عباس رضي الله عنه قال: “إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ قَتْلِ أَرْبَعٍ مِنَ الدَّوَابِّ: النَّمْلَةُ، وَالنَّحْلَةُ، وَالْهُدْهُدُ، وَالصُّرَدُ“(3).
- تحريم تناول المستخبثات التي تستخبثها النفوس وتنفر منها الطباع(4).
والخلاصة: أن الرقمنة كان لها أثرٌ كبيرٌ في انتشار وتطوير صناعة الحلال وتسريع نمو منظومة الاقتصاد الإسلامي في العالم، وفي نشر ثقافة المنتجات الحلال وفتح أسواق جديدة لها وزيادة التبادل التجاري بين دول العالم، وأنها ساهمت في توسُّع مؤسَّسات الحلال التي يجب أن تُراعي الضوابط الشرعية في كل منتج من المنتجات التي ترتبط بأحكام شرعية، سواء في التغذِّي عليها أو الاستعمال بصفة عامة.
(1) أخرجه مسلم، كتاب الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان، باب تحريم أكل كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير (3/ 1534) حديث رقم (1934).
(2) أخرجه البخاري، كتاب جزاء الصيد، باب ما يقتل المحرم من الدواب (3/ 13) حديث رقم (1829) ومسلم، كتاب الحج، باب ما يندب للمحرم وغيره قتله من الدواب في الحل والحرم (2/ 856) حديث رقم (1198).
(3) أخرجه أبو داود، أبواب النوم، باب في قتل الذر (4/ 367) حديث رقم (5267).
(4) ينظر: بداية المجتهد ونهاية المقتصد (3/ 20).