هل تستفيد التكنولوجيا المالية من الاقتصاد السلوكي
بقلم الدكتور/ زايد نواف الدويري
أستاذ مساعد في الاقتصاد والمصارف الإسلامية
مستشار وخبير في الاقتصاد السلوكي
يشهد العالم تطوُّرًا سريعًا وهائلًا في مجال استخدام التكنولوجيا في جميع مجالات الحياة؛ لتصبح الخدمات بمعظم أجزائها اليوم رقمية وذكية بالكامل، ومنها الخدمات المالية في مجال الأعمال، بالمقابل ساهم ظهور علم الاقتصاد السلوكي في السنوات الأخيرة في صنع السياسات العامة وتوجيه سلوك المؤسسات والأفراد نحو قرارات أكثر وأفضل؛ لتنتج خدمات أوسعَ وأشملَ وجودةً أكبر، فالاقتصاد السلوكي مجال بحثي مختلطٌ يدمج بين المبادئ الأساسية من النظرية الاقتصادية مع العلوم الاجتماعية وخاصة علم النفس، من أجل تعزيز واقعية الافتراضات الاقتصادية على أسس نفسية.
وقد شكّل انتشار مفاهيم الاقتصاد السلوكي وأدوات الترغيب (nudges) في السنوات الأخيرة -خاصة من بعد عام 2017م بعد فوز ريشارد ثالر(1) بجائزة نوبل للعلوم الاقتصادية في مجال الاقتصاد السلوكي – ابتكارًا مميَّزًا في صنع السياسات العامة في مجالات الادخار والصحة العامة، وتقديم خدمات بقرارات رشيدة مبنية على معطيات مدمجة (نفسية واقتصادية).
وفي وجه العلاقة ما بين الاقتصاد السلوكي والتكنولوجيا المالية، يعتقد الاقتصاد السلوكي أن الاقتصاد التقليدي لا يُراعي التحيُّزات المعرفية للأفراد، والتي تؤدي إلى الانحراف عن السلوكيات المرغوبة، وهذه التحيُّزات تأتي من خلال دمج مجموعة من الرؤى المستمدة من علم الاقتصاد وعلم النفس وعلم الاجتماع، وتُستخدم هذه العلوم في تصميم تدخلات تأخذ شكل توجيهات تؤدي إلى تغيير سلوكيات الأفراد دون فرض قيود على اختياراتهم، عن طريق منهج منظم وعلمي يُستَمد من أساليب التسويق في القطاع الخاص.
ومن أبرز ما يمكن استشرافه في هذا المجال:
أولا: تغيير السلوك المالي للعملاء: في ظل الرقمنة والذكاء الاصطناعي، يمكن الاستفادة بتوظيف التقنيات الحديثة؛ كالذكاء الاصطناعي لجذب الزبائن من خلال معرفة سلوكهم واتجاهاتهم وعاداتهم المالية، وعند إجراء مقارنة في التغيُّر الحاصل في نماذج أعمال الشركات بعد ظهور التكنولوجيا الرقمية؛ نجد أن الصناعة المالية قبل الرقمنة كانت تركِّز على المنتج من خلال بيع عدة منتجات لزبون واحد دون التركيز على رغباته، أما بعد ظهور الرقمنة فقد توجه التركيز إلى معرفة سلوك الزبون ورغباته، والبناء عليها من خلال إجراء اختبارات على الجمهور المستهدف لمعرفة ذلك.
ومن التجارب الناجحة في هذا المجال تجربة شركة (النملة المالية) Ant Financial، وهي شركة صينية تأسست عام 2014م ، وتستخدم هذه الشركة تكنولوجيا البيانات الكبيرة لإصدار القروض من خلال تحليل سلوك العميل وهويته وروابطه الاجتماعية، ومن خلال تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي يمكن التنبؤ بسلوك العميل والمشاكل التي تواجهه، وزيادة على ذلك قامت الشركة بتجربة استطلاعية على 2% من العملاء، وتم الوصول إلى أن الذكاء الاصطناعي بإمكانه الكشف عن مزاج العميل كوسيلة لمعرفة وقياس ارتياحه من جودة الخدمة المقدمة.
ثانيا: المساواة الاجتماعية والشمول المالي الرقمي: في إطار الذكاء الاصطناعي فإننا ننتقل إلى مفهوم الشمول المالي الرقمي Digital Financial Inclusion، ويعني: استخدام الخدمات المالية الرقمية وترويجها من أجل تعزيز الشمول المالي، ومن أبرز المبادرات والأفكار في هذا المجال على النحو الإجمالي: التثقيف المالي الرقمي، وهو إشراك النساء في عملية الشمول لتقليل الفجوة الرقمية بين الجنسين التي يعانيها المجتمع غير الرقمي، إضافةً إلى أنظمة المدفوعات الرقمية (الهوية الرقمية) عن طريق خوارزميات الذكاء الاصطناعي لكن بشرط إخضاع هذه الخوارزميات للمساءلة بسبب رداءة تصميمها أو البيانات التي يمكن أن تؤدي إلى نتائج متحيزة.
ومن أبرز الأمثلة العالمية : تجربة شركة WAHED INVEST: والتي أنشئت عام 2017م، واتخذت مقرها بنيويورك، وهي منصة استثمارية تعمل على الاستثمار باستخدام تقنية المستشار المالي، وهي منضبطة بأحكام الشريعة الإسلامية في مجال الاستثمار الحلال، وتقديم الخدمات المتوافقة مع الشريعة، وقد تم الاعتراف بها في الإمارات، وفتحت مكتبًا لها وحصلت على شهادة الالتزام من هيئة المراجعة والمحاسبة للمؤسسات المالية الإسلامية، وتتاح خدمات الشركة لجميع فئات المستثمرين.
حددت الشركة هدفها في تغيير السلوك الذي يتعامل به المجتمع المسلم في سوق المال وجعل الاستثمار الحلال متاحًا لما يقارب 2 مليار مسلم حول العالم، وتجنُّب الأنشطة الضارة، وقد نجحت الشركة بداية في الولايات المتحدة عام 2017م، ثم بريطانيا عام 2018م، وتوسَّعت خدماتها بعد ذلك في 130 دولة.
ويتم فتح حساب استثماري بمجرد التسجيل في غضون دقائق من خلال التعرُّف على الوجه، ويمكن بدء الاستثمار بمبلغ 100 دولار مع رسوم بسيطة، ولكل مستثمر محفظة استثمارية بغض النظر عن حجم حسابه.
ثالثا: التمويل السلوكي الرقمي: يختص هذا الفرع بمعرفة كيفية تأثير العوامل النفسية على اتخاذ القرار الاستثماري في أسوق رأس المال في ظل التكنولوجيا المالية الرقمية، وهو ما يسمّى بالتمويل السلوكي الذي يختص باقتصاد سوق رأس المال بناءً على معرفة تأثير العوامل النفسية في صنع القرار الاستثماري وتجنب الأخطاء الاستثمارية، بناء على التشوُّهات المعرفية عند المستثمرين بسبب عواطفهم؛ كالجشع والخوف المرتبطان بالربحية، ومن أبرز العوامل النفسية المؤثرة ما يتعلق بالتحيزات العاطفية؛ كالثقة المفرطة، وتحيز الترسيخ والتكييف: بمعنى أن المستثمر يقوم بربط المشكلة الحالية بموقف أو نقطة مرجعية سابقة، فيقوم بالبناء عليها خاصة إن كان القرار بسيطًا، وتحيز التأكيد: حيث يسعى المستثمر للبحث عن معلومات تؤكد آراءه ولا تخالف معتقداته، وتحيُّز الإدراك المتأخر: وهو الحالة التي يقنع بها الفرد نفسه بعد وقوع الحدث، والمحاسبة العقلية: حيث يقوم المستثمرون بتقسيم أنشطتهم والأصول والأسهم الاستثمارية إلى مجموعات مختلفة لكل مجموعة هدفها، وتجنُّب الغموض: وهو تحيُّز تفضيل المستثمر للمألوف وكراهته لما يجهله من الاستثمار، وكراهته لأي استثمارات جديدة رغبة في تجنب الغموض، وأي نتائج استثمارية مجهولة، والتنافر المعرفي: وهو صراع نفسي ينتج بسبب الأدلة التي تخالف معتقدات وتوقعات الأفراد المستثمرين، ويقوم المستثمر عند حدوث التناقض بتقديم الأدلة التي تؤكد توقعاته، ويتجاهل الأخرى التي تناقض تلك التوقعات، ما يؤدي إلى قرارات خاطئة بسبب تلك الانتقائية في الاختيارات.
وتحيز التأطير: والذي يحدث عندما يكون المستثمر أمام خيارات عديدة فيقوم باتخاذ القرار بناء على عرض الخيارات المتاحة. وتحيز التفاؤل، وتحيز متعة التوقع والانتظار، وتحيز الشعور بالندم، وتحيز غلبة التفكير العاطفي على التفكير المنطقي، وتحيز نظرية الاحتمال وكره الخسارة.
وبناء على ذلك وفي ظل التكنولوجيا المالية والرقمية ظهرت بعض تقنيات الرقمنة والذكاء الاصطناعي؛ لتجنب أثر تلك التحيزات التي تتسبب بالأخطاء في القرار الاستثماري ومنها: التداول الآلي والتداول عالي التردد Blak box، وهي تقنيات تسمح باتخاذ القرارات دون تدخل بشري، ومن مزاياها السلوكية التقليل من المشاعر البشرية والقضاء عليها، ويضاف إلى تلك البرامج خوارزميات الذكاء الاصطناعي من خلال خوارزميات وروبوتات تستطيع تقديم التوصيات المالية لكل فرد.
وبالمقابل؛ هناك من يرى أن هذه الخوارزميات غير عادلة وغير قادرة على حل مشاكل التحيز، بل إنها بذاتها متحيِّزة؛ ذلك أنها دائمًا تقدِّم الأفراد الأكثر ثراء حسب البيانات المبنية عليه وهي بيانات وخوارزميات مشوَّشة.
رابعا: إطار سلوكي وقيمي يحكم التكنولوجيا المالية: تفرض بيئة الأعمال الحالية في بيئة التكنولوجيا المالية خصوصًا، وبيئة الأعمال عمومًا تحديات من نوع جديد غير تحدي التطوير والتنفيذ، وتعظيم المنفعة والأرباح، وهو تحدّي القيم والسلوك والأخلاق التي تحكم هذه الأعمال مراعاةً لتوجهات ورغبات الأفراد، وانطلاقًا من المسؤولية الاجتماعية على مستوى السلوك الفردي أو سلوك المنظمة والمؤسسة.
والناظر في هذا الأمر يجد لزامًا وجود إطار قيمي وسلوكي يحكم التكنولوجيا المالية في ظل سلة التطبيقات والأدوات المالية التي يزداد ظهورها يوما بعد يوم، ولعل هذا الإطار القيمي والسلوكي ينطلق من أمرين، الأول: خاص بالاقتصاد السلوكي ذاته.
والثاني خاص بشركات التكنولوجيا المالية.
أما فيما يخص الاقتصاد السلوكي واستخدام أدواته في تطوير التكنولوجيا المالية، فلا بد من القول بضرورة حوكمة الوكز(2) ذاته، بمعنى التدخل الرشيد الذي يحمي المجتمع من الاستدراج المتوالي الذي يُسلَّط على مخ الإنسان ونفسه ومشيئته الاجتماعية؛ ليتمكن بعد كل ذلك من النفوذ إلى جيبه، إضافة إلى المقاصد والأهداف المتوخّاة من تطبيق أدوات الاقتصاد السلوكي عليه.
أما بخصوص شركات التكنولوجيا المالية فالضابط القيمي والسلوكي هو الممارسات الأخلاقية في تطوير التكنولوجيا المالية، والمقصود بها المعايير والقيم التي ينبغي الالتزام بها في إدارة أعمال المؤسسات والشركات المالية التكنولوجية بعدم إلحاق الضرر بالآخرين ومكافحة السلوكيات اللاأخلاقية.
وفي الختام فإن المؤسسات المالية الإسلامية مدعوةٌ للانفتاح أكثر على معطيات الاقتصاد السلوكي في مجال التكنولوجيا المالية؛ لتستفيد أكثر وأكثر في تطوير أعمالها، والمجال رحب وواسع خاصة المجال البحثي والتطبيقي، إذا ما علمنا أن السياسات العامة في كثير من الدول العربية والاسلامية تحديدًا دول الخليج العربي قد أنشأت وحدات وكز سلوكي؛ للتأثير الإيجابي على سلوكيات الأفراد، فهل تلحق المؤسسات المالية الإسلامية الركب وتبادِر بإنشاء مثل تلك الوحدات، وتتبنى مثل تلك المبادرات أعلاه ( كمثال) في مجال الابتكار المالي السلوكي؟
(1) ريتشارد إتش ثالر Richard H. Thaler . ولد في 12 سبتمبر 1945م، وهو اقتصادي أمريكي وأستاذ خدمة تشارلز ر. والغرين في العلوم السلوكية والاقتصاد في كلية بوث للأعمال بجامعة شيكاغو في عام 2015. حصل على جائزة نوبل العلوم الاقتصادية لمساهماته في الاقتصاد السلوكي عام 2017م، ذكرت الأكاديمية الملكية السويدية للعلوم، في إعلانها عن جائزة نوبل، أن مساهماته قد شيدت جسرًا بين التحليلات الاقتصادية والنفسية لعملية اتخاذ القرار الفردية وأن استنتاجاته التجريبية ورؤاه النظرية كانت مفيدة في إنشاء مجال الاقتصاد السلوكي الحديث سريع التوسع”. المحرر.
(2) نظرية الوكْز Nudge theory هي نظرية في علم السلوك تركِّز على إحداث التغيير وتعديل السلوك وتحفيز الأفراد وتوجيههم إلى اتخاذ قرارات محدَّدة بطريقة غير ملحوظة وغير إجبارية. وقد تم تطوير هذه النظرية بواسطة العالمين: Richard H. Thaler and Cass R. Sunstein في كتابهما: The Nudge: Improving Decisions about Health, Wealth, and Happiness الصادر عام 2008م، وتعتمد النظرية على فرضية تأثر الناس بتصميم البيئة المحيطة بهم، وبالتدخلات الذكية والسهلة وغير المباشرة التي تؤثر على سلوكهم بشكل غير واعٍ، مع منح حرية الاختيار وتَجَنُّب التعليمات المباشرة أو الإجْبار لإحداث أو تبنِّي عملية التغيير؛ حيث يمكن من خلال هذه التدخلات توجيه الأفراد نحو اتخاذ القرارات الأكثر فائدةً في حياتهم الصحية والاجتماعية والمالية. المحرر.