منافع الحج .. رؤية اقتصادية

بقلم الأستاذ الدكتور/ فياض عبد المنعم حسانين

وردت كلمة المنافع في سورة الحج في موضعين في آيتين، الموضع الأول، قوله تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج: 28]، والموضع الثاني في قوله تعالى: {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 33]، والمنافع جمع منفعة، وهي اسم النفع، وهو حصول الملائم للنفس. ويستعمل الاقتصاديون كلمة منفعة في مقابل السلعة؛ فالسلعة هي أعيان المال الذي له كيان مادي ملموس، بينما المنفعة في عرف الاقتصاديين هي أنواع المال الذي ليس له كيان مادي ملموس، وكل من السلعة والمنفعة عند الاقتصاديين مرغوب من الناس؛ لأنهم ينتفعون به في إشباع حاجاتهم المعيشية.
وقد جاءت كلمة منافع في الآية الأولى نكرة؛ لتشمل المنافع الدنيوية والمنافع الأخروية، والمنافع الدنيوية تتمث في حصول المكاسب من التجارة والنشاط الاقتصادي بصفة عامة، أما المنافع الأخروية فهي حصول المغفرة والرضا من الله وتعظيم الثواب، وأما الآية الثانية، أي قوله تعالى: {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ}، ففيها إباحة الانتفاع بخدمات الهَدْي المخصَّص للحرم قبل ذبحه، مثل الانتفاع بألبانها وغير ذلك من وجوه الانتفاع، وهي إشارة إلى لفت النظر إلى حرص الشارع الحكيم على الاستغلال الكامل للموارد الاقتصادية، حتى في حالة انطلاق المسلم لعبادة تخصُّه.
وفيها كذلك إشارة إلى أن الشرع الحنيف يُرغِّب في توسيع المنافع الاقتصادية واستعمالها في الوفاء بحاجات الإنسان، فالشرع إنما جاء للحفاظ على حياة الناس والوفاء بحاجاتهم، وتوفير مستوى من المعيشة اللائقة بالإنسان المُكرَّم، ولا يُضيِّق الشرع الحنيف على ذلك، بل يُرغِّب في زيادة المعروض من المنافع وصولاً إلى درجة الكفاية لكل فرد من الأمة.
إن الإسلام غايته الاقتصادية الوصول إلى الرَّغَد في المعيشة، بشرط الالتزام بقيم وأحكام الشريعة في التصرفات المالية كسبا وإنفاقًا. قال الله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32].
ونلاحظ أن السياق القرآني في آيات الحج -سواءٌ في سورة البقرة أو في سورة الحج- يشير إشارةً واضحةً إلى أهمية البعد الاقتصادي في عبادة الحج، فمع أن الحاج يترك وطنه وأهله وعمله ويلبس أقل الملابس التي تستر عورته دون زينة فيها، فإن الإسلام لم يمنعه من تحقيق المنافع الاقتصادية، ففي سورة البقرة، يقول الله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ} [البقرة: 198]، وفي سورة الحج، يقول: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج: 28]، مما يمكن أن نستنتج فيه أن الإسلام يحرص على إباحة النشاط الاقتصادي الذي ينتج المال، ويولِّد المنافع ويزيد في عرض السلع والخدمات، ويفتح المجال للكسب وتبادل المنافع، وإجراء الصفقات الاقتصادية حتى أثناء أداء فريضة الحج.
ولكن ما هي أنواع المنافع التي يمكن أن نتصورها في وقت أداء الحج، وكيف تُنتِج تلك المنافع؟
والجواب من منظور التحليل الاقتصادي هو أن المنافع متعددة ومتنوعة، حيث يمكن عقد الصفقات وصياغة اتفاقات التبادل وتأسيس الشراكات بين مختلف الحجاج من شتى بقاع الأرض، وهي فرصة لا تتكرَّر إلا في أوقات الحج، وفي أثناء أداء مناسك الحج، وفيها تتم مدارسة الأحوال الاقتصادية للمسلمين في مختلف المجتمعات على امتداد الكرة الأرضية، ومناقشة أحوالهم وظروفهم الاقتصادية وكيفية رفع مستوى التكامل الاقتصادي فيما بينهم، خاصة أن الحج يُقرِّب العلاقة بينهم، في ظل أساس متين لتيسير كل ذلك، وهو الاشتراك في القيم والثقافة والعادات التي يُرسِّخها الإسلام بشعائره وعاداته في قلب كل مسلم.
ومن المنافع الاقتصادية كذلك: أن اجتماع الملايين لأداء فريضة الحج في بلد الحرمين الشريفين، وفي بقعة مُحدَّدة من الأرض، يحتاج إلى خدمات متنوعة ومستمرة، مما يستدعي توظيف مئات الآلاف، بل الملايين من العمالة لخدمة ضيوف الرحمن، وأكثر هؤلاء وافدون من خارج المملكة العربية السعودية. أي: من بلاد عربية وإسلامية، وهؤلاء يحصلون على أجورهم التي يقومون بتحويلها إلى أسرهم في بلادهم، وتشكِّل هذه التحويلات المالية الشخصية موردا هاما للعملة، وبذلك نفهم أن المنافع متبادلة، بين البلد المضيف للحجاج، وبين البلاد الإسلامية الأخرى، وهي منافع متعددة ومتنوعة.
كما تشمل بالإضافة إلى ذلك إقامة مشروعات بنية أساسية كبيرة لخدمة ضيوف الرحمن، وهي نشاط استثماري واسع ومتجدد ومستمر، تستفيد منه البلاد التي تُصدِّر مستلزمات تلك المشروعات.
وهذه هي بعض الملامح الاقتصادية لكلمة “المنافع” التي وردت في سياق آيات الحج في القرآن الكريم، ويظهر كما سبقت الإشارة إليه أنها كلمة ذكية غنية بالمعاني الاقتصادية بما يصعب استقصاؤه في هذه المقالة.

Comments are disabled.